2015/10/19

سلسلة محاضرات 1998 بيت مار شريل ـ بقاعكفرا- جمها ونسّقها الأب جورج صغبيني رئيس دير مار شربل بقاعكفرا - بقاعكفرا 2001



سلسلة محاضرات 1998 بيت مار شريل ـ بقاعكفرا




جمها ونسّقها
الأب جورج صغبيني
رئيس دير مار شربل بقاعكفرا







بقاعكفرا 2001


إهداء

إلى أجساد القديسين
في أهراء مغائر وادي قنوبين
إلى ذخائر عظام الرهبان والنساك والمتوحدين
المنتثرة كحبّات القمح
على ضفاف وادي قاديشا
فأينعت قرى وشعبا وكنائس وأديارا
يتردّد فيها صدى صلوات من سبقوا
ويعبق منها اريج بخور المجامر
وتصدح فيها أصوات الأجراس…
إلى بطاركة رحلوا
ولا زال ذكرهم حاضرا في مجالس التاريخ
إلى شعب يلد الأباءُ والأمّهاتُ فيه قديسين
إلى شعب روزنامة حياته يحصيها بتعداد شهدائه 
ويحصي أيامه بأسماء القديسين

                                                الأب جورج صغبيني





مقدمة

حين نتكلّم عن وادي قاديشا تتصاعد إلى الذاكرة قوافل القديسين والنساك والرهبان العبّاد المتوحدين وأمواج البخور  المتصاعد من المغائر مرتفعة نحو قمم الجبال لتتلاقى مع عبق طيب الأرز
وتتزاحم في الذاكرة صور البطولات والملاحم
وتتسارع إلى الذاكرة خميرة الكلمة في الشرق مطبعة قزحيا ومدرسة حوقا وأديار قدّمت للغة الضاد ما لم يقدّمه أحد من العرب …
كما وصمد هذا الوادي في وجه جور الطبيعة والزمان وظلم الحكام الطغات
وادي قاديشا
         ملجأ المضطهَدين من أجل إيمانهم وحريّتهم وعقيدتهم الذين تركوا السهول الخصبة والشواطئ الغنيّة ليعيشوا الحياة القشفة في هذا الوادي
وماتوا بحدّ السيف وتغلّبوا على التجربة وردّوا غارات الغرباء وصاروا أبطالاً في الحروب.
وتحمّلوا التعذيب والظلم والبلص وأبوا النجاة ورغبوا في الأفضل من الحياة.
وعانوا السخرية والجلد والقيود والسجن
ورجموا ونشروا وماتوا قتلاً بالسيف بقطع الأعضاء بخلاف
هاموا على وجوههم لباسهم جلد الغنم وشعر الماعز محرومين مضايقين مظلومين لا يستحقّهم العالم الذي فيه يعيشون.
تاهوا في البراري والجبال والمغاور وكهوف الأرض.
إن الوقت يضيق إن أخبرنا عن جهاد واستشهاد هؤلاء الذين سكنوا وادٍ عرف باسمهم
هؤلاء الغرباء النزلاء في الأرض
الساعون إلى إقامة وطن في الأرض الغريبة عنهم.
الغرباء في وطنهم.
خرجوا من ميراث آبائهم ونزلوا في أرض غريبة هي أرض الوعد الذي لا يزول ليؤسسوا مدينة مهندسها الله.
هؤلاء ماتوا على المواعيد التي تنتظرهم وإن كانت غير مرئية. فقد ترجوها. وبفضلهم أدركنا ما أنشأوا لنا.
وادي قاديشا
منبت القديسين مشتل الجبب السود التي تستر بهاء المجد
دنانة الرهبان التي توزّع على بساتين العالم أجود ثمار فضائلها
هؤلاء الذين لم يكن لهم مدينة ثابتة بل سعوا إلى مدينة المستقبل.
إن العبور إلى السماء ينطلق من هذا الوادي المقدّس من حيث عبر هؤلاء الذين نالوا المجد والكرامة بسعيهم الدؤوب لأنهم عرفوا على من يضعون اتكالهم.
هؤلاء الذين تقطُّر آثارهم بالدّسم، والتلال بالبهجة تكتسي، والأودية بالحنطة تتوشّح. مز 65
هؤلاء الذين جعلوا الله راعيهم فما من شيء يعوزهم. لا يخافون سوءاً لأن على إلههم الإتكال مز 23/4
هؤلاء الذين عاشوا في هذا الشرق كالسوسنة بين الشوك. وكالتفاحة بين أشجار الجنة في ظلاله يشتهي العابرون القيلولة وتذوّق طعم المعرفة نشيد 2/1
هذا الوادي الذي نجّى اللاجئين إليه من طوفان الأمم. وأصبح حضناً وملجأً للهاربين من ظلم أهل الأرض.
هذا الوادي المهجور اليوم من ساكنيه
البعيد المنال عن أهل هذا العصر
الساكن في الذكريات
ماذا يقول عنه المؤرخون.
ماذا يقال عن محيطه
عن الذين هجروه.
لمن تركوه؟
وبأي مكان استبدلوه؟
هل بات أثراً طللاً مندرساً
ما هو البديل عنه؟
وكيف العودة إليه؟

الأب جورج صغبيني













تمهيد

محاضرون ومحاضرات
في حدود التاريخ والأثريات
في حدود الجغرافية والأبعاد
يستقرؤن الماضي
يجمعونه في ماعون فكر
في مقالة
في قُصاصات أوراق
يجمعهم راهب ناسك قديس
في أعلى قرية من قرى لبنان
في مكان مولده
الذي أصبح محجّة للمؤمنين
ومحطّة تأمل وصلاة
في مكان هو الأقرب إلى السماء
والأحبّ على قلب الله





محاضرة الأحد 21 حزيران 1998






الحياة النسكيّة في الكنيسة المارونيّة
حبساء ومحابس في وادي قاديشا






الأب بولس صفير


محاضرة الأب بولس صفير عميدكليّة اللاّهوت الحبريّة في جامعة الروح القدس- الكسليك في بيت القديس شربل في بقاعكفرا  يوم الأحد الواقع في 21 حزيران سنة 1998.

آبائي الأجلاّء ، اخوتي واخواتي الأحبّاء ، أيّها الحفل الكريم ،

مقدّمة
يسرّني قبل البدء في الكلام عن حبساء ومحابس وادي قاديشا، أن أستهلّ الحديث بهذه المقدّمة عن الكنيسة المارونية، وعن مقوّمات الحياة النسكيّة التي نشأت، ونمت، وتأصّلت في أحضانها.فالمارونية ككنيسة، هي انجيليّة العقيدة، انطاكيّة النشأ، رهبانية الجذور. اتّسمت، منذ نشأتها، بخصائص جعلت منها أسرة روحيّة فريدة من نوعها يبن الكنائس والأسر الانطاكيّة السريانيّة في هذا الشرق. فكان لها اسلوبها المميّز في عيش الحياة المسيحية واعتناق السيرة الرهبانيّة . ومن عناصر هذا الاسلوب: انتماؤها الى أب واحد هو القدّيس مارون الناسك، وتمسكها بليتورجيّة واحدة، ودأبها على نشاط رسولي متّقد الغيرة، وحفاظها على سلامة العقيدة المسيحيّة. التفّت منذ نشأتها، حول أبيها القديس مارون، فاستنارت بتعاليمه وجذبها نمط حياته ، فتأثرت أكثر من سائر الكنائس الشرقية ، بالمسلك النسكي والرهباتي معا ، حتى ، بدت ، في بعض مراحل حياتها ، وكأنها جماعة رهبانيّة . فالقديس مارون هو أبوها ومرشدها وحجر الزاوية في أساس بنيانها . منه يبدأ ذلك المشعل الروحاني الجذّاب الذي يتلألأ نوره على طول الطريق ، واليه يرجع زخم ذلك المعين الدّفاق لتراث نسكي جليل ، ما زالت الأجيال الطالعة تنهل منه حيويّة وبطولة وقداسة .
لا بدّ لنا اذا أردنا البحث في الحياة النسكيّة في الكنيسة المارونية ، بوجه عام،وفي إماطة اللثام عن حبساء وادي قاديشا بوجه خاص،لا بدّ لنا من العودة الى الينابيع ، لنقف على مقوّمات هذا التراث الغني ، ونستجلي عالم الطريق الشاق الذي سار عليه النسّاك والرهبان الموارنة في هذا الوادي المقدّس . ونحن اذ نقوم بذلك ، نرانا أمام موقع فريد من نوعه، وهذا الواقع يتلخص بما يلي :
لم يكن في هذا الوادي المقدّس ، على مدى عشرة قرون ، تنظيم رهباني ونسكي بالمعنى القانوني العصري،ولم يكن هناك قوانين ورسوم رهبانية مكتوبة بتقيّد بحفظها طلاّب الحياة النسكية لبلوغ الكمال،كما انه لم يكن هناك رئيس عام لجماعة او منظمة رهبانية يدير شؤونها ويتقلد مقدراتها ويسهر على مصالحها العليا،كما يوجد اليوم . بل ان الرهبان والحبساء الموارنة كانوا أعضاء في كنيسة انطاكية المنشأ ومارونية الانتماء ولبنانية الامتداد والنمو . فالحبيس،أو الناسك الماروني،كان،طوال هذه الحقبة ينطوي تحت لواء الحياة النسكية أو الرهبانية،داخل كنيسته،وليس داخل منظمة أو جماعة رهبانية،وكان يتوغّل في البراري والجبال،فيقطن المغاور والصوامع،ولا يطرق أبواب الاديار العامرة ليترهب فيها،فطلاّب الكمال المسيحي كانوا يتدربون على حياة النسك والتقشّف،على يدي ناسك شيخ،فيعيشون معه في صومعته،ويلاحظون عن كثب طريقة ممارسته للفضائل المسيحية ليقتدوا بها. فكان هو لهم بمثابة قانون حي،وكانوا هم امامه بمثابة مرآة جليّة، يعكسون صورة فضائله في نمط حياتهم وخطّة مسلكهم، والشيء الذي يسترعي انتباه المؤرخين طوال هذه الحقبة هو اعتصام هؤلاء النساك بالصمت دون الكلام، وأثارهم العيش بخفاء على حبّ الدعاية والظهور. فلم يتركوا لنا مؤلفات ولا مصنفات، ولم يكتبوا الاّ على قلوب تلامذتهم ومعاصريهم نظير السيّد المسيح معلّمهم الالهي. لقد نهلوا روحانيتهم من تعاليم الانجيل، وغذّوها بممارسة الاسرار، وأسندوا قوّة فعاليتها في النفوس الى التقليد الشرقي بنوع عام، والتقليد الماروني بنوع خاص، والى أقوال آباء البرّية التي كانوا يتداولونها فيما بينهم، خلفا عن سلف، وجسّدوها، أخيرا، في مَثَل وقدوة النسّاك الشيوخ الذين بلغوا شأنا كبيرا في ميدان النضال وبطولة الفضائل وقداسة السيرة .

1-  من سهول سوريا الخصبة الى وادي قاديشا وقزحيّا وقنّوبين .
على أثر الاضطهادات والمنازعات السياسيّة والدينيّة في انطاكية وفي سوريّا الثانية، بدءا من القرن السابع حتّى العاشر وما فوق،ولّى الموارنة وجوههم شطر جبل لبنان الشمالي، ليحتموا في وديانه السحيقة الغور. فاستوطن العدد الكبير منهم في منطقة الجبّة ووادي قاديشا وقزحيّا وقنّوبين،ونما بينهم عدد الزهّاد والنساّك، ودَلَفَ الكثيرون منهم الى تلك المغاور الطبيعية والصوامع النائية،وهنا تجب الاشارة الى أن الحياة النسكية كانت مزدهرة في لبنان قبل مجيء الموارنة اليه. فان آثارهم تدل عليهم ، فلا يزال يوجد في لبنان، حتى يومنا هذا مغاور قديمة في اماكن عديدة نحتتت في الصخور الطبيعية، ولا يستبعد ان يكون قد قطنها النساّك في القرون الأولى والوسطى للنصرانيّة.منها مثلا صوامع دير مار مارون على نهر العاصي، وقد نحتت في الصخر على شكل هندسة فرضتها يد الطبيعة وهيئة المكان. وقد حُفرت ايضا ادراج في الصخر داخل المناسك ليتمكّن سكانها من النزول الى قعر الوادي عند مخرج النهر لاستقاء الماء. وهناك ايضا مغاور عدلون التي تقع على نصف مسافة الطريق بين مدينتي صيدا وصور. وهذه المغاور نُحتت ايضا في الصخور. وهناك ايضا مغاور وصوامع تقع في منطقة أفقا والعاقوره  يرجّح ان يكون قد سكنها النساك الموارنة في نفس الوقت الذي قطنوا فيه صوامع قاديشا وقنّوبين. وهناك ايضا مغاور قديمة تقع قرب بلدة الفرزل في الوادي المطّل على سهل البقاع. فالتقليد القديم اطلَق في تلك المنطقة اسم " وادي الحبساء " على هذه المغاور للدلالة على أن النسّاك سكنوا ذلك المكان في سالف الأزمان .
ولعلّ المكان الذي كثر فيه عدد النساك الموارنة، ونال شهرة طبّقت الآفاق على مدى الأجيال هو وادي قاديشا وقزحّيا وقنّوبين في لبنان الشمالي. ففي هذا الوادي المقدّس اتّسمت الحياة النسكيّة بطاقة روحيّة رائعة فجّرتها نخبة رائدة من النساك الموارنة الذين تميّزوا هم بدورهم كنساك سوريا والقورشيّة الأقدمين بنزعة انجيليّة نابعة من أغوار الوحي الألهي وغنى التراث الماروني الجليل. وهذه النزعة هي الخيط الدقيق المتين الذي حاك الروحانيّة المارونيّة، وربط النساك الموارنة بعضهم ببعض، وكان الحافز لهم لبلوغ أعلى درجة من التضحية والبذل والكفر بالذات. فألّف وحدة فيما بين خصائص هذه الروحانيّة كلها، كما تنتظم حبّات اللآلىء المندرجة في عقد ذهبي متين.
وقد ساعدت الطبيعة كثيرا في هذا الوادي المقدّس على نموّ الحياة النسكيّة فيه. فجذبت الكثيرين من طلاب الكمال المسيحي الى عيش حياة التأمّل والصمت في مغاوره الطبيعيّة المنتشرة كعش النسور على جانبيه. فجمال الوادي وزمجرة المياه المزيدة التي تجري متدافعة الى البحر، والصخور الشاهقة التي تطلّ من قوى السماء وقد وزعّت يد الطبيعة أشجار البطم والعفص والسنديان في أخاديدها، وأريج الأرز الذي تحمله نسمات السحر فتعطّر به أرجاء الوادي، كل هذه الجمالات التي تتجلّى في كتاب الطبيعة تجذب الناسك الى امعان النظر فيه والى الغوص في بحر من التأملات الخشوعيّة التي تحمله على تسبيح الخالق، مبدع الكون والكائنات. ولكم ساعد هذا الوادي ايضا على صقل أخلاق ومزاج هؤلاء النساك طوال سنين خلواتهم التي كانت تمتدّ بهم امتداد حياتهم على الأرض. فأخذوا عن خشونة صخوره ووعورة مسالكه صلابة العود وشدّة المراث والعناد في مقاومة جماح الاهواء ،وعن انشودة النهر المقدس في الليالي القمراء صفاء" في الزهن وخصبا في الخيال ودقّة في الضمير والاحساس، وعن زمجرة العاصفة وولولة الرياح في ليالي الشتاء وجرأة" في القلب وثقة في النفس وثورة على الاهواء، وعن طلوع فجره الذي يتباهى فوق قممه، وزحف ليله عند المساء من بطون الوهاد السحيقة، خشية" في النفس ورهبة" في القلب ومسحة"من الوقار والدعة تعلو الجبين.

2- لمحات مختارة من حياة النساك والحبساء الموارنة في وادي قنّوبين وقزحيّا.
ان المراجع التاريخيّة عن الحبساء والنسّاك الموارنة في وادي قاديشا نادرة وغير متوفّرة في المعاجم والمؤلّفات القديمة والحديثة، والسبب في ذلك يعود الى عاملين اساسيّين : اولا،لأنهم راموا العيش في الخفاء، فلا أحبّوا الظهور أو الدعاية، ولا كتبوا هم سيرة حياتهم أو كلّفوا أحدا أن يكتبها. وثانيا، لأن الاضطهاد والمنازعات وحرق المكتبات ونهب الديورة والمناسك لم تترك مجالا لجمع المعلومات الكافية عنهم. فنحن سنكتفي في حديثنا هذا بجمع النبذات التاريخيّة واللمحات المختارة التي دوّنها البطريرك العلاّمة القدّيس اسطفانوس الدويهي عن سيرة حياتهم في مؤلفّه " تاريخ الأزمنة " الذي أرسله سنة 1680 الى روما، وكان مخطوطا، لكي يطبعه مجمع انتشار الايمان. فلم يطبع آنذاك وظلّ مخطوطا في مكتبة الفاتيكان تحت رقم 215 . وفي السنوات الأخيرة طبعه الآباتي بطرس فهد رئيس عام الرهبانيّة المريميّة سابقا، في سنة 1976 . فنحن سنرجع الى نصّ المخطوط هذا وليسَ الى الطبعة هذه، لاماطة اللثام عن سيرة حبساء ونساك وادي قاديشا .
ان أول حبيس ذكره الدويهي في مخطوطه، هو يوحنّا من قنات. فيخبرنا هذا البطريرك الكبير أن يوحنّا هذا استحبس سنة 1228 في وادي قنّوبين [1]. وفي سنة 1393 كان الحبيس اليشاع الحدثي قاطنا في محبسة مار سركيس الواقعة قرب دير مار آبون المشرف على الوادي المقدّس [2]. ولمّا توفي البطريرك يوحنّا الجاجي سنة 1445 ، انتخب الاساقفة ورؤساء الديورة والشعب خلفا له الاسقف يعقوب بن عيد الحدثي. وهذا كان قد تربّى في السيرة النسكيّة الملائكية في محبسة مار سركيس الآنفة الذكر [3].وقي سنة 1472 كان القس جرجس الاهدني ساكنا مع تلميذه الشماس تادروس من عينطورين في محبسة مار انطونيوس قزحيّا [4]. وفي سنة 1495 بنى القس بركات من بقوفا محبسة مار ميخائيل شمالي - غربي دير قزحيّا، وسكن فيها الى آخر حياته. ثمّ تعاقب على العيش فيها كلّ من الحبساء الآتية أسماؤهم : موسى من اليمّونة، يعقوب
من برناسا قرب ميفوق، ميخائيل الأول من اهدن، حنّا من اهدن، ميخائيل الثاني وابن أخيه جبرائيل من اهدن، ثمّ ميخائيل الثالث من اهدن، وكانت وفاة هذا الاخير سنة 1617 . فهؤلاء جميعهم دوّنوا اسماءهم في كتاب الانجيل الذي كان محفوظا حتّى أيام البطريرك الدويهي في المحبسة المذكورة [5].
وبين الحبساء الموارنة اللامعين في القرن السادس عشر، ذكر الدويهي الحبيس يونان المتريتي. فهذا البار جاهد في حياة النسك مدّة خمسين سنة. وكتب عنه تلميذه الحبيس جبرائيل الاهدني، يقول :" انه لم يكن يأكل الاّ مرة في اليومين. امّا في الصوم الاربعين، فلم يكن يذوق طعاما الاّ يومي السبت والاحد. وكان صيامه يمتدّ من العنصرة الى الميلاد، ومن عيد الغطاس الى الفصح. ولم يكن يشرب الماء الاّ يوم السبت. وكان في سبت الآلام يسجد على الارض اربعة وعشرين ألف سجدة (مطانيّة)، وفي سائر أيام الصوم كان يسجد حتى يجري عرقه.
وبالرغم من هذه القساوة الشديدة على نفسه، ظلّ الحبيس يونان متحليّا برحمة وحنوّ لا نظير لهما نحو الآخرين". وأخبر عنه تلميذه الآخر حنّا اللحفدي هذه الحادثة الخارقة، قال :" نفذ الزيت يوما من الخابية الكبيرة الموجودة في المحبسة. فأُعلم الحبيس يونان بالأمر، فجاء وصلّى عليها وبخّرها فامتلأت الى فوق ". فأخذ العجب من التلميذ كلّ مأخذ. فقال له الحبيس : " مجّد الرّب يسوع، وتأمّل عجائبه على يد أحقر عبيده ". ثمّ أوصاه بألاّ يخبر أحدا بهذه الاعجوبة قبل وفاته. وعندما أحسّ الحبيس يونان بدنوّ أجله، أرسل وطلب البركة والحلّ من البطريرك موسى العكّاري، ومن المطران قورياقوس بن حبلص الاهدني، فحضر الاثنان الى محبسته. وبعدما حرّضهما على المحبّة والوفاق وأوصاهما بالسهر واليقظة على خراف المسيح، أسلم روحه الطاهرة بيد الخالق. فشاع خبر وفاته في كلّ الأنحاء، وهرع رؤساء الديورة والاخوة والنسّاك وأعيان الشعب الى دير مار أنطونيوس قزحيّا ليتباركوا من لمس جسده الطاهر الذي أضناه في مدى خمسين سنة بالعبادة والاصوام والتقشّف. وبعد أن زيّحوه بالبكاء والدموع دفنوه بكلّ اكرام في مقبرة المحبسة. ويقول البطريرك الدويهي ان جسده لم يزل حيّا بدون فساد حتّى أيامه [6].
وكان للحبيس يونان المتريتي تلامذة عديدون أشهرهم يوحنّا اللحفدي الذي خدم معلّمه المريض مدّة أربع عشرة سنة. فهذا ضاهى معلّمه في أعمال النسك، وأخذ النفس بالشدّة، وكان
في سبت الآلام يسجد على الارض ستة وعشرين ألف سجدة. ومنهم أيضا جبرائيل الاهدني. فهذا
كان رجلا متقشفا جدّا، وفاز على أقرانه بممارسة الاماتات والأصوام والتقشّفات القاسية . وكان يؤدي في أيام الصوم الف سجدة (مطانية) في اليوم. وفي سبت الآلام لم يكن يتوقّف عن صنع السجدات. ولم يكن يذوق الماء مطلقا ابتداء من الصوم حتّى خميس الاسرار، وكان طعامه في اليوم أقلّ من أوقيتَين . ورغم التقشّفات هذه،لم يكن يكلّ ويتوقّف عن نسخ الكتب والمخطوطات حتّى امتلأ جبل لبنان كتبا منسوخة بخطّه الجميل[7].
واضافة الى هؤلاء الحبساء والنساك ذكر البطريرك الدويهي قي تاريخه وفاة الحبيس ملكا البقوفاني سنة 1560. فهذا البار قضى في حياة النسك ستّين سنة. فسكن أولا في محبسة دير قزحيّا، ثمّ في محبسة مار ضومط داريّا، ثمّ في المحبسة المنقورة في الصخر والموجودة قبالة عرجس، وأخيرا في محبسة مار ميخائيل فوق دير قزحيّا، وكان قدوة صالحة ومثالا حيّا لكل الناظرين اليه، فيطوي في أيام الصوم اسبوعا كاملا، ولم يكن يأكل طعاما الاّ يوم الأحد. وكان يقهر جسده ويميته بالجوع والعطش والسهر المتواصل. وكان يمشي حافي القدمين، ولم يكن ليبطل عن ذكر اسم الله. ولم يتفرّس في وجه امرأة طوال حياته. ولزيادة فضله وقداسة سيرته رقّاه البطريرك موسى العكّاري الى الدرجة الاسقفيّة[8].
ومن نسّاك وحبساء وادي قاديشا وقزحيّا وقنّوبين كان يُنتخب بطاركة الطائفة المارونية واساقفتها. فاضافة الى عشرات الاساقفة الذين رقّوا الى الدرجة الاسقفيّة من بينهم، تبوّأ ثلاثة منهم الكرسي البطريركي، فأرغموا على الخروج من صوامعهم ليديّروا شؤون الطائفة، وهم : ميخائيل الرزي من سنة 1567 حتّى سنة 1581، وسركيس الرزي من سنة 1581 حتى سنة 1596، ويوسف الرزي من سنة 1596 حتى سنة 1608 [9].
وفي أواخر القرن السادس عشر ذكر الدويهي وفاة حبيسين لامعين في محابس الفراديس، هما يوسف البسلوقيتي الذي توفّي سنة 1580 في محبسة مار انطونيوس الفراديس، ويعقوب عصّاص السمراني الذي توفي سنة 1584. فهذا ترهّب أولا في دير قزحيّا ثمّ قضى حياته في أعمال النسك بقداسة وطهارة فائقتين في محبسة مار سمعان الفراديس، وظلّ جسده حيّا بعد وفاته ولم يمسّه فساد [10].
يبدو أن شهرة قداسة الحبساء الموارنة في الوادي المقدّس عطّرت الآفاق بدليل أن فرنسوا دي شاستويلFrancois de Chasteuil  الفرنسي الاصل، وافى لبنان في منتصف القرن السابع عشر، وأقام في غرفة ضيّقة في دير مار يعقوب إهدن، ثمّ في دير مار سركيس رأس النهر، ثمّ في دير مار اليشاع القديم في الوادي المقدَّس. ولم يكن يخرج من قلاَّيته ليختلط بالناس، بل ظلَّ اثنتي عشرة سنة مكبّا" على قراءة الكتاب المقدّس. في اللغات الساميّة، وعاكفا" على الصلوات والتأملات وأنواع الاماتات الجسدية المختلفة. وما عتّم أن اقتفى آثاره أربعة شبّان آخرون من بني أُمّته، فقدموا الى لبنان سنة 1668 من بلاد فرنسا، طالبين الوحدة وحياة التقشّف في محابس وادي قاديشا وقنّوبين. فنزل البطريرك آنذاك جرجس السبعلي عند رغبتهم وقبلهم في عداد الحبساء الموارنة. فاختار البعض منهم السكن في محبسة مار شلّيطا الواقعة قرب كفرصارون، والبعض الآخر في محبسة مار انطونيوس المنقورة بالصخر فوق دير قنّوبين، والبعض في محبسة مار آبون قرب الحدث [11].
وفي النصف الأَخير من القرن السابع عشر كان عدد النسّاك الموارنة يزداد في وادي قاديشا وقنّوبين، وكانت المحابس تكثر بازديادهم. فذكر الدويهي اضافة الى من ذكرنا أعلاه، الحبيس سركيس السمراني الذي انزوى في محبسة مار انطونيوس قزحيّا وكان رجلا" ديّنا راغبا" في العلوم ومتضلّعا في اللغة السريانية والعربية [12].
ثم ذكر الدويهي الحبيس سركيس بن موسى الرزي. فهذا تلقّى علومه في روما ثما عاد الى لبنان. ولمّا انتخب اخوه يوسف بطريركيا سنة 1596، خلفه هو في محبسة مار بيشاي قرب دير مار انطونيوس قزحيّا . ويرجع الى هذا الحبيس العالم العلاّمة الفضل الكبير في جلب أول مطبعة الى الشرق وطباعة أول كتاب فيها سنة 1610، وكان هذا الكتاب  " كتاب المزامير " [13].

خاتمة
ظل التراث النسكي حيا" في الكنيسة المارونية على مدى أجيال متتالية . فالحبساء والنساك الموارنة الذين عاشوا في وادي قاديشا وقنوبين قد اتبعوا النهج النسكي الذي عاشه قديما مار مارون وورثوه هم عنه وعن تلاميذه الأولين بحيث قال الاب ايرونيموس دنديني عن حبساء قاديشا في أواخر القرن السادس عشر :" اني لمتأكد ان هؤلاء الحبساء هم البقية الباقية من اولئك الزهاد الاقدمين الذين كانوا يعتزلون الناس ليقطنوا بأعداد وفيرة صحاري وجبال سوريا وفلسطين . ان موطنهم في هذا الوادي لا يقع في سهول خصبة أو سفوح رائعة تشرف على مناظر خلابة ، ولا في أماكن مكتظة بالناس ، بل يتوغلون في الاماكن الأشد عزلة عن الناس ، ويتسلقون الجبال الاكثر بعدا" عن المجتمع بحيث يعيشون تحت الصخور الناتئة والشامخة ويقطنون المغاور والكهوف التي هي أقرب الى أوجار النسور منها الى مساكن البشر " [14].


محاضرة الأب اغوسطبن مهنا







قنوبين في مفكرة الرحالة الأجانب








الأحد 26 تمّوز 1998
نقدّم الى القرّاء بضع صفحات من أدب الرحالة الأجانب الذين قصدوا لبنان ، زاروا معالمه ودوّنوا رحلاتهم، فكان فيها لدير قنّوبين حظُ وافر وصفحات خالدة . من بين هؤلاء الرحالة :

أولا-  جان ده لا روكJean de LA ROQUE : [15]
هو فرنسي، ولد في مرسيليا، سنة 1661.توجّه الى الشرق وهو في السابعة والعشرين من عمره. أبحر من مرسيليا في شهر أيار،سنة 1688، ليصل الى لارنكا بعد ثلاثة عشر يوما من إبحاره، ومن ثمّ الى طرابلس. مكث في لبنان حتى شهر تموز، سنة 1690 خلال هذه المدّة،تنقّل بين أماكن كثيرة:زار صيدا،صور وبيروت،حيث أقام ثلاثة أيام عند الآباء الكبوشيين.من ثمّ،انتقل الى عينطوره،حيث أمضى عند الآباء اليسوعيين زهاء شهرين:من أوائل أيلول حتى 26 ثشرين الأول،سنة 1689 . على الأثر، انتقل الى لبنان الشمالي، حيث أتيحت له زيارة دير قنوبين، الأرز، فبعلبك . في أواخر تشرين الثاني ، عاد من جديد الى عينطوره ، حيث أصيب بحمّى شديدة ، فاضطرّ الى البقاء مدّة ثمانية أشهر عند الآباء اليسوعيين ، أي حتى شهر تمّوز من سنة 1690 . عند هذا التاريخ يتوقف خيط الأخبار ، ولا معلومات عن عودته الى فرنسا التي تمّت ما بعد سنة 1690 .
…" وكان ، بعد وقت طويل ومشقّات جَمّة ، أن وصلنا الى قنوبين ،هذا الدير الشهير لقدمه ولكونه كرسيّ بطريرك الموارنة ومقرّه المألوف . هؤلاء المسيحيّون هم الشرقيّون الوحيدون الخاضعون باستمرار للكنيسة الرومانيّة والمتعلقون بها ، وهم يعتبرون هذا البيت المركز الديني بالنسبة لهم.
قنوبين، هو مبنى كبير نوعا، لكنّه عديم التناسق، معظمه مشيّد في الصخر: الكنيسة، على اسم العزراء ، وهي تُعرَف بالقديسة مريم في قنوبين ، منقوشة كلّها في الصخر . يبلغ طولها حوالي خمس وعشرين قدما ، بعشرة أو اثني عشر عرضا : انّها على كثير من النظافة والعناية ، الاّ أنها مظلمة بعض الشيء ، بسبب الصعوبة المتأتّية عن خرق النوافذ في الصخر . عن الجهة اليمنى للمذبح الكبير ، رُفعت ثلاثة أجراس داخل الحائط ، أو بالأحرى داخل الصخر . ثلاثة اجراس على شيء من الضخامة ، تُقرَع بكل حريّة ، وربما كان هذا الموضع الوحيد ، من كل الشرق ، حيث توجد أجراس . ما تبقّى من المبنى يتكوّن من جناح البطريرك ، وهو لا يكاد يتميّز بشيء خاص ، ومن عدّة غرف للرهبان وبضعة مكاتب ، والكل على شيء من الفقر وسوء الترتيب .
بالرغم من أنّ هذا البيت يقع على منحدر احدى الجبال القليلة الارتفاع ، فانّ خارجه لا تنقصه الوحدة ولا جواره أن تكون ضاحكة : لقد أوجيدت زراعة أراضيه ، حيث توجد الجنائن والبساتين والكروم بكثرة ، ومعظمها مرصوف بشكل سطوح . وهذه ليست سوى جزء ضئيل من ممتلكات البطريرك والدير . يملك هذا الحبرما دون النهر وما فوقه ، على أعلى الجبال وفي وهاد أخرى ، أراض شاسعة تُستَثمر ، ليس فقط لقوام عيشه هو وعيش الرهبان ، بل أيضا لأطعام المحتاجين المتواجدين باستمرار في الدير وبأعداد وفيرة ، وإطعام الغرباء من كل أمّة .
رهبان قنوبين ، وعددهم حوالي الأربعين ، يرجعون ، حسب قولهم ، الى تقليد القديس أنطونيوس، ككل الآخرين الموجودين في هذه البلاد ، وهو تقليد تركه لهم القديس ايلارون . لكنّهم يتبعون قانون القديس باسيل . انّهم ينذرون حياة قشفة جدا ، وتوفير الضيافة للجميع . وفوق كل شيء ، تُجلٌ عندهم بساطة رائعة ، قلّما تتوفر في (محيط) الجهل والابتعاد عن العالم ، وهي تُغنيهم عن صفات أخرى أسمى ، يتكوّن لباس هؤلاء الرهبان من فستان من الصوف الأسود ، ضيّق جدا وذري ، يصل الى تحت الركبة ، ومن طرحة من ذات القماش أو من شعر الماعز تنزل على الصدر والظهر عن الكتفين ، هي ايضا قصيرة جدا ، ومن قلنسوة صغيرة . عراة الأرجل ، هم يحتذون بابوجا أسود .
استُقبلنا في هذا البيت بكل الفرح والحفاوة الممكنَين . فالبطريرك ، الذي يسكن فيه عادة مع عدد من الاساقفة ، كان غائيا منذ بضعة أشهر بسبب طغيان أحد أسياد البلاد ، اذ لم يكن يكتفي بالألف درهم الذي يدفعه له الدير كل سنة ، راح يُضايق الدير أيضا بشتّى الطرق ، الى حدّ الاحراق عندما لا يتيسّر اعطاؤه كل ما يطلب خارجا عن المألوف.
كان القسم الأكبر من الرهبان بعيدا عن المكان ، منهمكا بقطاف العنب . فلقد دعانا المتقدّمون ، الذين بقوا في المكان ، الى تناول طعام الغذاء ، صحبة أحد الشيوخ الأكثر وقارا ، والذي يقوم بمهمّة رئيس البيت . لقد حدّثنا هذا الأب الطيّب بلباقة أثناء الطعام ، هذا الذي اقتصر على بضع صحفات من البيض وبعض الزيتون . لكنّه يصعب أن يوجد في مكان آخر خمر أفخر من الذي قُدٍم لنا : ممّا أثبت لنا صحّة شهرة خمور لبنان التي يحكي عنها أحد الأنبياء . هذه الخمور هي على نوعين : الخمر العادي ، وهو الأحمر . أمّا الأطيب ، فهو بلون خمرنا المسكي، ويدعى الخمر الذهبي ، بسبب لونه . لايرتاح الأجانب الى خبزهم ، الذي هو أشبه بقطع الحلوى ، يَتَفتّت، وهو عجين . لكن ، وبعد مشقّات سفر مضن ، يألف الأنسان كل شيء . لم يكن لنا من المزعج بشيء أن نتغدّى دون طاولة ولا كراسي ، أي جلوسا على الأرض حول صينيّة من القش، وأن نشرب جميعا من كأس واحدة ، حسب عادة البلاد .
يبقى أنّ الامتناع عن أكل اللحم يُمارَس بدقة عند هؤلاء الرهبان . وهو ، بالنسبة لهم ، نوع من الشكوك أن يطلب مسيحيّون في قنوبين لحما ، دون حاجة واضحة اليه .
بعد الطعام ، انصرفنا بنوع خاص الى المحادثة ، ولقد طرحنا على هؤلاء المتوحدين أسئلة مختلفة حول موضوع رحلتنا . علمنا منهم أنّ من بين العديد من الأديار المتواجدة في لبنان ، هناك ثلاثة ذات أهميّة ، قنوبين هو احداها ، ولقد كان يضمّ لوحده ثلاث مئة راهبا . فلأنّه ، من بين تلك الأديار القديمة ، الوحيد الباقي الى اليوم بعدد من الرهبان مُعتَبَر ، وبصفته رأس مصاف الأكليروس والرهبان في الأمّة المارونية ، أُعطي له اسم قنوبين ، من كلمة يونانيّة مُلَيتَنة :" تشِنُبيوم "، كمن يقول : الدير بحصر المعنى .
علمنا منهم أيضا أنّ كل المغاور الممكن الوصول اليها ، والتي تُشاهَد على مدى الوادي ، عن جهتي النهر المقدّس تَعُدٌ حوالي الثمان مئة مغارة ، في كل منها جعل متوحد له مقرّا ، تحت طاعة وتدبير أحد من الأديار ، علمنا أيضا أنّ أغلبية أسماء هؤلاء النسّاك تُعرَف إِمّا من التقليد ، وإِما بطريقة أخرى ، وأنّ الكثيرين منهم قد ذُبحوا في مغاورهم أيام الاضطهاد على أيدي أعداء الايمان . ولقد أقيمت مذابح اكراما لذكراهم ، إِمّا في المغاور ذاتها ، وإِمّا في كنائس صغيرة مجاورة شُيِّدت خصيصا : لن يُغفَل أبدا عن اقامة القداس هناك في يوم عيدهم المرسوم في روزنامة خاصة بكنيسة قنوبين .
يلزم وقت غير محدود لزيارة كل هذه المغاور ، التي لا تمكن الاشادة كثيرا بموقعها ، وللاطلاع في العمق على الأشخاص القديسين الذين أَهلوا في الماضي هذه العزلة الجميلة ، حيث عاش ، كما يؤكَّد ، ما يقارب العشرين ألف راهب، إمّا في المغاور وإما في الأديار: كل ما بالامكان فعله، هو التوقّف عند عدد محدود من تلك المغاور، إمّا لأنّ أحداثا مميّزة، أو لأنّ جمالها الطبيعي أكسبها شهرة أكثر من سواها. معظمها توجد في صخور مخيفة، فهي تُشرف على المنحدر الأقسى من الجبل، ممّا يجعلها تبدو وكأنّها معلّقة، غير ممكن الوصول اليها… "

ثانيا - مذكّرات "لوران دارفيو"  (Laurent d'Arvieux ) [16]
هو من أصل ايطالي . انتقلت عائلته في القرن السادس عشر من اللّمبردي الى فرنسا ، حيث تنقلت في مناطق عدّة .
ولد لوران في مرسيليا ، في 21 حزيران 1635 ، توفّي والده وله من العمر 15 سنة . ولمّا كانت تركة والده زهيدة ، لا تقوم بأوده مع خمسة اخوة له ، قرّر لوران أن يبحث عن الثروة بعيدا ، عن طريق التجارة .
في 6 تشرين الأول ، سنة 1653 ، غادر لوران مرسيليا الى الشرق ، وكانت " سميرن "، حيث أمضى خمس سنوات ، أولى محطة له . هناك تعلّم اللغات التركيّة والفارسيّة والسريانيّة . خلال سنة 1658 ، غادر سميرن الى صيدا ، مرورا بمصر وفلسطين ، فوصل صيدا قي شهر تموز بعد سفر مضن ، طال خمسة أشهر . مكث في صيدا ما يزيد على سبع سنوات ، زار خلالها القدس ، جبل لبنان ووصل الى الشام . وفي هذه الأثناء تعلّم اللغة العربيّة . عاد الى فرنسا في 21 حزيران من سنة 1665، بعد أن أمضى اثنتي عشرة سنة في الشرق .عاد الى الشرق مرّة أخرى، سنة 1679، بصفته قنصل فرنسا في حلب ، حيث أمضى سبع سنوات متتالية ، وحيث جمع ثروة وافرة ، ممّا جعله بفكّر بالعودة نهائيا الى فرنسا . عاد ، وتزوّج في سنّ الرابعة والخمسين . عاش في منطقة مرسيليا ، معتزلا السياسة ، وراح يفكّر على الكتب المقدسة من خلال نصوصها الشرقيّة ، حتى موته سنة 1702 عن سبع وسبعين عاما ، دون أن يترك سلالة من بعده.
"… بعد أن سرنا بضع ساعات في هذه الحقول ، اتّجهنا الى اليسار ، لنذهب الى قنوبين . وعلى قدر ما كنّا ننحدر ، كنّا نكتشف دوما حقولا جديدة ، أصغر من الأولى ، مع قرى ومزارع تحيط بها الأشجار ، فتجعل الطبيعة غاية من المتعة .
مررنا قرب بشرّاي ، دون أن ندخلها ، وذهبنا لزيارة كنيسة على اسم القديس أليشاع ، تخصّ الكرملتان الحفاة . لقد ورث هؤلاء الآباء الطيّبون قسما من روح أمهم السارافيميّة ، القديسة تريزيا ، فكان لهم منه الحظ الوفير، ولقد عبّروا بالتأكيد عنه بالاختيار الذي قاموا به. فبعد أن تأمّلوا جيّدا هذه البريّة، ونظروا في ما يناسبهم، أَوَوا الى هذا الموضع ، وبدون اجازة البطريرك ، احتفظوا به ، وما زالوا حتى اليوم …
… بعد أن تأملنا جمال هذا المكان الرهيب ، لَزِمَنا ساعة من الوقت لنصل الى الدير البطريركي، المدعو قنوبين . هذا الاسم يأتي من كلمة " تشِنُبيوم "، التي تعني دير . ولقد اعتُبرِ هذا الأخير كرأس للأديار الباقية لدرجة أنّه سمّي الدير بحصر المعنى ، كما كان الرومان يسمّون روما ، بكل بساطة ، المدينة بحصر المعنى ، أو الأتراك يسمّون " اسطنبول " ، أي المدينة ، عاصمة ملكهم .
قنوبين ، أو " تشِنُبيوم " في اللاتينيّة ، و " مُنَستِر " في الفرنسيّة ، هو الدير البطريركي ، حيث يقيم بطريرك الموارنة . عندما يُشاهَد من أبعد نقطة تتيح رؤيته ، يبدو وكأنّه قائم في عمق الوادي. لكن عندما تصل اليه ، تتأكد بعينيك من أنّه لا يكاد يقع على منتصف جانب الوادي ، وأنّه يبقى الكثير من الطريق قبل أن تصل الى قعر هذا الوادي السحيق. وصلنا اليه ، أخيرا . فاستقبلنا الأساقفة والرهبان بلطف قد لا يخطر ببال أحد أن يلقاه عند سكان هذه البرية الموحشة ، البعيدة عن كل مجتمع ، خاصة وأنّ حياتهم التقشّف والتوبة توحي ببعض جفاصة تتعارض مع اللطف . اقتادونا الى قاعة كبيرة ، وقدّموا لنا المرطبات ، أولا ، بينما اقتاد بعض الأخوة دوابّنا الى اسطبل كبير ، وعاونوا خدّامنا على رفع الحمولة عنها وتقدمة العليق لها .
اخوة آخرون ذهبوا فأعلموا البطريرك بوصولنا . لقد كان يختبئ في مغارة غير بعيدة، خفيّة جدا، صعبة المنال ، ومحجوبة عن الأنظار ، كان ينسحب اليها عند طلوع الفجر ، ولا يغادرها الا عند المساء ، لأنّ سكان هذه الجبال كانوا ما زالوا في حرب مع باشا طرابلس ، الذي كان يفرض عليهم مبلغا من المال ضخما ، ما كانوا ، هم ، ليحكموا بضرورة توفيره له . لذا كان الباشا يوفد غالبا أتراكا ليخطفوا البطريرك ويأتوه به ، يقينا منه أنّه اذا ما أصبح هذا الأخير في قبضته ، يبيع الموارنة آخر ثوب عندهم ليُخرِجوا البطريرك من سجونه .
أتى البطريرك بعد نصف ساعة من من إِشعاره بوصولنا . قبّلنا يده باحترام ، وهو عانقنا بحنان ، ووجّه الينا كلمة ترحيب غاية في اللطف . كنت قد كُلِفت بأن أوجّه اليه كلمة باسم الرفاق ، قلتها بالعربيّة ، ممّا سرّه جدا . بعد هذه الواجبات ، اصطحبنا الى الكنيسة ، حيث أُعطِيت البركة بالقربان الأقدس ، تبعتها طلبة العذراء القديسة بالسريانيّة ، أُنشِدَت على ذات اللحن الذي تُرتَّل به في كنائسنا ، باللاتينيّة .
لمّا خرجنا من الكنيسة ، مضى بنا اليطريرك الى قاعة كبيرة ، حيث كان العشاء معدّا . كان يتضمّن كمّية كبيرة من اللحوم ، هُيًئت على طريقة البلاد ، مع أثمار وحلويات صنعت بالعسل ، وعدد كبير من الأباريق الفخارية خُتِمت بالجفصين ، ومُلِئت خمرا ممتازا ، يعلو خمرَ نوح البطريرك جودة. أكلنا بشهيّة قويّة . لم يتوان البطريرك ، والأساقفة والكهنة ، الموجودون معنا الى المائدة، من حثّنا على الأكل والشرب جيّدا . كانت تُملأ طاساتنا فور فراغها . ولو أذعَنّا لهم ، لبقينا الى المائدة حتى الليل. من ثمّ ، أُحضِرَت طاسات وكؤوس من الكريستال ، من جميع الأشكال ، غاية في الجمال والطرافة . ولقد كان الأجدر بها أن تُزيِّن قاعة عرض من أن تُستَخدم على المائدة . أخيرا أُحضِرت واحدة منها ، كبيرة لدرجة أنّها تسع على ما أعتقد حوالي الثلاث ليترات . دهش لها رحالتنا لدرجة أنّ معظمهم تركوا المائدة . امّا البطريرك والأساقفة والكهنة الذين راحوا يُحَرِّضونا على الشرب . فلم يعطونا المثل في ذلك . على العكس ، لقد كانوا غاية في الاعتدال . بعضهم لم يكن يشرب سوى الماء . واذا ما أعدّوا لنا هذه الوليمة ، فما كان الاّ ليمارسوا الضيافة في أقصى مدى لها . انّ حياتهم ، عادة ، هي غاية  في البساطة . لا يأكلون سوى البقول وبعض اللحوم العاديّة ، يصومون غالبا وبشكل قشف جدا . يعملون كثيرا، ينهضون في الليل لتلاوة صلواتهم ، فهم جميعا أمثلة ممتازة قي الانتظام الكامل. واذ رأى البطريرك أنّ ضيوفه قد توقّفوا عن الأكل ، أمر برفع المائدة . وبعد أن قمنا بفعل الشكر ، أجلسني قربه، وتحدّثنا حوالي الساعتين ، فكانت مناسبة لنتعرّف الى حيويّتة وذكائه هو ، كما والى أساقفته وكهنته .
افترقنا أخيرا . واقتادونا الى مغارة صغيرة ونظيفة جدا ، حيث وجدنا حِصرا ، والأغطية التي حملناها معنا .
البطريرك آنذاك ، كان يدعى جورج . لكنّ اسمه لم يكن على ختمه : بل توجد دوما هذه الكتابة في اللاتينيّة والسريانيّة : بطرس ، البطريرك الأنطاكي ، لأنّ القديس بطرس أقام أوّل كرسيّ له في أنطاكية . هذه الكلمات توجد مكتوبة حول صورة للعذراء القديسة. كان لهذا الحبر من العمر حوالي الخمسين عاما . كان ذا قامة كبيرة ، وسحنة جيّدة ، شعره أشقر ، جريء ، ملامحه هنيئة وتُملي الاحترام . كان على جانب كبير من الذكاء والتصرّف اللبق والجذّاب . كان عالما كبيرا وغاية في الانتظام ، بالحقيقة ، لم يكن ليعرف سوى اللغتين ، العربيّة والسريانيّة، انّما كان يوجد دوما الى جنبه كهنة أتمّوا دروسهم في روما، فهم يعرفون اللغتين، اللاتينيّة والايطاليّة.
كان لباسه بسيطا ، قميصا من القماش المتواضع ، وعلى رأسه عمامة كبيرة ، مستديرة ، زرقاء، من نسيج القطن ، سابقا ، كان يلبسها بيضاء . اضطرّ الى لبسها زرقاء ، بعد أن صار الأتراك أسياد البلاد ، فاختصّوا ذواتهم ، دون سواهم ، بحقّ لبس العمامة البيضاء . هذا ، ولم يُحجِم الموارنة عن لبس العمامة البيضاء ، أحيانا . لكنّهم يلبسونها من الحرير ، بينما الأتراك يلبسونها من النسيج ، وهم أيضا لا يجازفون بلبسها بيضاء حيثما الأتراك هم الأسياد دون منازع.
عندما يموت البطريرك ، يجتمع رؤساء الأساقفة والأساقفة وينتخبون من بينهم آخر . يختارون من بينهم من هو أكثرهم  فضيلة واستحقاقا وكفاءة ليحكم الشعب الخاضع له . بعد الانتخاب ، يرسلون القرعة الى البابا ليحصلوا منه على الموافقة وينالوا درع التثبيت. يعيش جميع الأحبار الموارنة حياة غاية في الانتظام والتقشّف . يتّسم لباسهم بطابع الفقر ، وليس لهم من دخل سوى ما تُنتجه الأرض لهم من عمل أيديهم . لا مظهر أبدا للأُبّهة عندهم كأحبارنا في أوروبا . ملابسهم نظيفة ، ولو وضيعة . هي الفضيلة زينتهم ، لا الأقمشة الثمينة الموشّاة ، لا الذهب ولا الفضّة . عصيّهم من خشب ، أمّا هم فأساقفة من ذهب . جميع المسيحيين يكنّون لهم احتراما لا حدّ له ، وطاعة عمياء لكل ما يأمرونهم به . يقبّلون أيدي رؤساء الأساقفة والأساقفة والكهنة ، وقدمي البطريرك . يجلّون رفعة طبعهم في اكرام شخصهم . يحترمونهم كآباء لهم وكرؤساء ، فطريقتهم في العيش والتعامل معهم هي أمثولة قيّمة للذين ، مثلنا نحن ، قد تفلّتوا ليعيشوا بشكل يتعارض كلّيا مع ما تمليه علينا شرائعنا .
في الغداة ، احتفل البطريرك بقداس حبري . عاونه أربعة أساقفة ، اثنان عن كل زاوية من المذبح. كان هناك أيضا مدير الاحتفالات ، شمّاس ، شدياق ، خادمان وعدّة كهنة أوكلت اليهم خدم أخرى. أمّا الرهبان الباقون فكانوا يرتّلون المزامير دون انقطاع ، منذ بداية القداس وحتى نهايته . وقوفا ، راحوا يكوّنون نصف دائرة حول عمود ضخم ، وُضِع في منتصف الخورس ، أعلاه واسع ومسطّح كطاولة ، يُستَعمَل كقرّاية ، ويحمل كتابا كبيرا خُطَّ بالسريانيّة .
أَنسَبُ ما في هذه الكتابة ، هو أنّه في أي موقع وُجدت ، عن اليمين أو عن اليسار ، مواجهة أو الى الوراء ، فانك تقرأ على السواء بسهولة ، لأنّ هذه الكتابة ، اذ تنطلق من أعلى الى أسفل ، تُقَدِّم دوما حروفها ، بحيث أنّك تقرأها عن كافة الجهات .
انتهى القداس ، فقَبِلنا باحترام بركة البطريرك ، ومضينا لانتظاره في القاعة الكبرى . جاء الينا بعد أن أنهى صلواته . شكرناه ، فردّ علينا بكل الطيبة المعهودة ، ودعانا للبقاء في قنوبين طيلة الوقت الذي نشاء للراحة ولرؤية ما يسترعي انتباهنا في البلاد . قبّلنا يده ، منحنَا بركته ، ثمّ انصرف عائدا الى حِماهُ وعزلته في المغارة الخفيّة .
أُعِدّ لنا من ثمّ فطور وافر . بعده ، رافقنا أحد الكهنة الوقورين لزيارة الدير والجوار. يقع الدير ، على التقريب ، في وسط أحد منحدر الجبال الذي يكوّنه وادي القديسين ، وسط غابة تتألّف من أشجار كبيرة وصغيرة من كل صنف ، وجنائن وكروم ، وينابيع وجداول تجري في كل جهة.
لقد بُني جزء من الدير مستقل عن الكنيسة ، بينما الجزء الآخر يبدو منقوشا في الصخر ، حيث حُفِرت مغاور صغيرة أو غرف للرهبان وللضيوف .
الكنيسة جميلة هي وكبيرة ، محفورة كلّها في الصخر ، ولقد حَجَب مدخلَها حائط عال ، فُتِح فيه الباب الكبير مع نافذتين ، في كل من هذه رُفِع جرس ضخم ، يُقرع لصلوات الفرض ، داعيا المؤمنين للمشاركة. انّها الأجراس الوحيدة ، حسب علمي ، في كافة السلطنة العثمانية . يقال انّ السلطان صلاح الدين ، الذي احتلّ البلاد ، لمّا مرّ في هذا الجبل ، استقبله الرهبان ، سكان هذه البرية ، باحترام وحفاوة بالغَين . فعطف عليهم ، وأمر باصلاحات وانجازات هامّة في الكنيسة وفي الدير ، وملّكهم كمّيّات من الأراضي ، وسمح لهم بالحصول على أجراس وباستعمالها كما في البلدان المسيحيّة . ولم يمسّ أحد من خلفائه لا هذه الهبات ولا هذا الامتياز ، بل يتمتّع الرهبان بها بسلام. ولقد أُخذنا عندما سمعنا صوت هذين الجرسين اللذين تُردّد المغاور والصخور والغابات صداهما، فيتكوَّن تناغم رائع .
هناك في السكرستيّا لوحة كبيرة لملكنا المعظّم لويس الرابع عشر . كان قد كلمنا البطريرك بشأنها أثناء العشاء ، وأكد لنا بأنّهم يحتفظون بها باحترام - كما وبصور كل الأمراء المسيحيين الذين ينتظرون الخلاص عن يدهم ، سواء كان لويس الرابع عشر أم أحد خلفائه -وأنّهم ينظرون اليه كحاميهم الأقوى والأكثر اندفاعا ، وأنهم يقيمون لأجله الصلوات الخاصّة كل يوم ، في القداس وفي صلوات الفرض. أرانا القندلفت عددا من الذخائر ، يحفظونها في صندوق من الرخام . فَقرُهُم المدقع يحول دون أن يكون لهم صناديق من الذهب أو الفضّة … "

خلاصة الرحلتين
في الصفحات التي نقرأ عند جان ده لا روك ، نجد وصفا سريعا وشاملا ، على دقّة في الملاحظة، لنواح عديدة تتعلّق بدير قنوبين وسكانه من الرهبان ، نوجز أهمّها :
1"-  يصف الدير في مكانته التاريخية والروحيّة بالنسبة للموارنة ، كما وفي موقعه الجغرافي وفي كافة أجزائه . يشير الى ممتلكاته الشاسعة ، والتي تستثمر لخدمة المحتاجين والغرباء من كل أمّة ، وينّوه بأهميّة دير قنوبين التي تعطيه الأولويّة على الأديار الأخرى المتواجدة على أرض لبنان .
2"-  يتحدث عن الرهبان ، سكان دير قنوبين ، مشيرا" الى عددهم ، الى التقليد الذي ينتمون اليه، الى طابع حياتهم التقشّفي ، وينّوه باعجاب عن صفة مميّزة يتحلّون بها : " بساطة رائعة تغنيهم عن صفات أخرى أسمى ". هذا ، ويصف بدقّة لباسهم .
3"-  يأتي على ذكر ظلم أسياد البلاد، آنذاك، بفرض ضرائب باهظة على الدير وباضطهادهم البطريرك.
4"- يشهد لحسن الضيافة ، في دير قنوبين ، لجودة الخمر فيه ، كما ولبعض ممارسات متأصلة في تقليد هذا الدير ، كالأمتناع عن أكل اللحم ، يعطي بعض معلومات عن عدد المغاور في الوادي المقدس ، عن شهرة البعض منها ، عن عدد النسّاك الذين عاشوا واستشهدوا فيها .
في الصفحات التي نقرأ عند لوران دارفيو معطيات كثيرة وتفاصيل ، نوجز أهمها ، تاركين للقارىء استخلاص ما تبقى مباشرة من النص.
1"-  نجد وصفا" لدير قنوبين وسكانه ، البطريرك والأساقفة بنوع خاص .
2"-  يبدأ فيعطي تفسيرا" لكلمة قنّوبين ، التي تشير الى أهميّة هذا الدير وتوليه المكانة الأولى بالنسبة الى الأديار الباقية . يصف موقعه الجغرافي والوادي المقدّس السحيق .
3"-  يتوقّف بنوع خاص عند شخصيّة البطريرك والأساقفة . هو يشيد بروح الضيافة الكريمة السخيّة عندهم . يجلّ فيهم مزاياهم العالية ، تتجلّى في لطف قلّما توفّر عند سكان مثل هذه القفار الموحشة ، أو عند من عقد النفس على التقشّف والتوبة ؛ تتجلّى في قناعة شخصيّة تجاه المال وطرق جمعه وتكديسه : " ليس لهم من دخل سوى ما تنتجه الأرض لهم من عمل أيديهم "، وفي تجرّد كامل عن كرامات الدنيا والمظاهر الخارجيّة : " لا مظهر أبدا للأبّهة عندهم " ، وأخيرا ، في تقشّف واعتدال في المأكل والمشرب والملبس : " أمّا البطريرك والأساقفة والكهنة الذين راحوا يحرّضوننا على الشرب ، فلم يعطونا المثل في ذلك . على العكس ، لقد كانوا غاية في الاعتدال . بعضهم لم يكن يشرب سوى الماء … انّ حياتهم ، عادة ، هي غاية في البساطة . لا يأكلون سوى البقول وبعض اللحوم العاديّة . يصومون غالبا وبشكل قشف جدا … " . هو يلخص صفاتهم الرفيعة بقوله المأثور هذا : " هي الفضيلة زينتهم، لا الأقمشة الثمينة الموشّاة، لا الذهب ولا الفضّة، عصيّهم من خشب، أمّا هم فأساقفة من ذهب ". 4"-  يشير الى تعلّق الموارنة بأحبارهم هؤلاء ، وهو تعلّق يقوم ويُبنى لا على امتيازات يتمتّعون بها ، بل على مزايا رفيعة يتحلّون بها .
5"-  يشير أيضا الى الجور والاضطهاد الذي لقيه الموارنة عبر مسيرتهم التاريخية من قبل حكّام البلاد ، كما والى وقوف الموارنة وصمودهم في وجه الطغاة الظالمين ، كباشا طرابلس ، اذ أبوا أن يؤدّوا له كل ما كان يفرضه من ضرائب .
6"-  بالاضافة الى ما سبق ، يوفّر لنا رحلاتنا بعض معلومات تاريخية حول لبس البطريرك للعمامة البيضاء أو الزرقاء ، حول انتخاب بطريرك جديد وطلب المواقفة من روما ، حول كيفيّة حصول دير قنوبين على أجراس وقرعها بحرية ، آنذاك ، كما في البلاد المسيحيّة وأخيرا ، حول صلاة القرّاية . وتجدر الاشارة هنا الى الخطأ الذي وقع فيه رحالتنا عند وصفه الكتابة السريانيّة ، يقول : " …لأنّ هذه الكتابة ، اذ تنطلق من أعلى الى أسفل … " . ربما تأتّى خطأه هذا عن طريقة كتابة " الشحيم " السرياني : بشكل أعمدة .

ثالثا - المنسنيور ميلسن ، مرشد امبراطور النمسا ورئيس بلاط البابا بيوس التاسع. في مؤلفه : Les Saints Lieux
وقد نقل منه جزءا" الى العربيّة ، تحت عنوان " رحلة المنسنيور ميلسن " ، الأب اغناطيوس طنّوس الخوري ، الراهب اللبناني .
في 24 حزيران من سنة 1848 ، غادر فيانّه الى الأراضي المقدسة . زار القسطنطينيّة ، جزر رودس وقبرص ، ومن ثمّ بيروت . دوّن رحلته في كتاب من ثلاث مجلّدات . خصّ لبنان بأربع مئة وستين صفحة من المجلّد الاول .
كررّ رحلته الى الأراضي المقدسة في ربيع سنة 1855 ، وكان يرافق ملك بلجيكا وملكتها . زار مصر وفلسطين وسوريا واليونان وصقلّية وايطاليا. في نيسان من السنة ذاتها، زار لبنان، وعلى الأثر زار ايضا دمشق .
نقتطف بضع صفحات من ترجمة الأب اغناطيوس طنوس الخوري ( 94- 102 ) تعني مباشرة موضوعنا . وهي بعناوينها تغني عن ايجاز ما جاء فيها .

تقادم الموارنة للكنائس
وقد علق الرحالة روبنسون على اكياس مناطة بسقف كنيسة قنوبين ،  فيها بذر دود الحرير ، وعلى كل منها مكتوب اسم صاحبها ، فتساءل قال : " لا اعلم لماذا هي موضوعة في الكنيسة . وعلى ما رأيت ان القرويين السذّج في الجوار يؤملون بذلك ان يحصلوا - بشفاعة وبركة شفيع الكنيسة - على خصب واقبال في موسم الحرير " . ويكون استغلال الموسم عندما يقدم القرويون بواكير غلالهم للرب ، عنوان شكر وعرفان جميل ، عاملين بقول الكاتب : " واوائل بواكير ارضك فأتِ بها الى بيت الرب الهك " . خروج ( 34 : 26 ) اجل ، ان ما رأى روبنسون في قنوبين ، يجري ايضا في جميع كنائس لبنان ويقدم الموارنة فيالج الحرير لان الحرير هو دخلهم المعوّل عليه وقد كان ابناء آدم يقدمون للرب من ثمار الارض والمواليد الاولى من قطعانهم ، " وكان قايين قدم من ثمار الارض تقدمة للرب وقدم هابيل من ابكار غنمه ، ومن سمانها " (تكوين 4 : 3 و4). وكان اليونان والهنود واليهود يفقهون - نظير الكاثوليك اليوم - وجوب تقديم رمز ودليل شكر فريضة سنوية لمبدع الارزاق وموجد الخيور. فضلا عن ان الله تعالى قد وعد بالثواب الذين يكرمونه هكذا ، حتى في هذه الدنيا، اذ قال " اكرم الرب مما لك ومن اوائل جميع غلالك. فتمتلىء اهراؤك وفرا"، وتفيض معاصرك خمرا " (أمثال 3 : 9 و10).
وازيد ايضا" انني رأيت مرارا" عديدة في لبنان ، مجموعات اكياس صغيرة معلقة بمؤخرة الكنائس ، حيث محل النساء ، فيها بذر دود الحرير لكل القرية او المحلة . وهذا لعمري انما هو محض العبادة والتقوى ، يضعون به تحت حماية الله ، بنوع شديد الاختصاص ، اغلى مواسمهم واعزها ، وادرّها ريعا" وربحا" ، هادفين ايضا في ذلك الى مؤآتاة جوّ الكنيسة لبيوض الحريراكثر من جو البيوت والمنازل، فيتوفر من ذلك ان لا تنفق وتفرخ قبل الآوان.

روعة وادي قاديشا - وذكرياته
وعلى الرغم من ان عبورنا في قنوبين كان خاطفا" ،حيث الماء السلسبيل والخمر اللذيذ والخبز المماثل اجود واطيب خبز في اوروبا ، فلا شيء يوازي الروعة الدينية التقوية الخاشعة التي تسود هذا الوادي المقدس . اجل ،ان تسبيح الله تعالى وتمجيده على اقدام الارز ، وحراثة الجبال والربوات التي دارت عليها رحى المعارك العديدة دفاعا" عن الدين والايمان ، والطواف على عدوات نهر قاديشا وضفافه الضاحكة احيانا ، والمجابهة احيانا اخرى ، بطبيعتها البكر والاختباء في مغاوره العميقة الغور ، وهي ملاجىء امينة ودياميس حصينة لشعب شهيد ، وقراءة تاريخ اجداد هذا الشعب وثباتهم وعنادهم ، مرسوم الحروف والسطور على خرائب آثارهم الجبارة واطلالها ، وعلى عظامهم ورفاتهم المبعثرة المحطمة... ذلك هو الشغل الشاغل والحلم الدائم يهجس به ابدا" ، الحبساء والنساك القاطنون الى اليوم ايضا في هذا الوادي المقدس . ان ذلك لسعادة احسدهم عليها ! وكم انهم سعداء اولئك الذين يمنحهم الله هذه الدعوة ! انهم يمثلون دور موسى النبي يصلّون على رأس الجبل في حين يحارب الشعب في السهل .

فائدة الرهبان للمجتمع
اننا في اوروبا منذ تحولنا بكليتنا الى المادة ، نرى الرهبانيات العابدة قد سقطت في غمار الخمول ، واصبح انساننا يذيب ايامه بالمجادلة والحوار في السياسة العقيمة ، واجدا" من المستحيل ان يتحدث الى الله تعالى ، ولو ساعة واحدة من نهاره . بيدَ ان الدين هو دوما" خصبُ بالخير والفضل ، يعرف ان يوزعها حسب الحاجة والزمان ، ويوفر التعزية والتأسي في جميع الآلام والشدائد . فاذا اصبح وجود رهبانية ما غير ضروري ، فالحياة الرهبانية هي دوما" روح الكثلكة وعصبها الحسّاس . واذا كان الحبساء قد نزلوا من جبالهم ، والنساك المتوحدون قد خرجوا من عزلتهم ، فذلك لكي يتوزعوا على العمل في المدارس والمعاهد ، والمستشفيات ، ويجمعوا شتات الايتام ، ويخدموا المجانين ، ويتحملوا الانحباس لخدمة الخونة والآثمين ، ويعولوا المصابين بالطاعون وسائر الاوبئة .
قال دي لامرتين : " لم يعد للرهبانيات العصرية الا حقلان تستطيع العمل فيها بطريقة اجدى وانجح من الحكومات والشركات ، والقوات الافرادية ، وهما : تعليم الناس وخدمتهم في شقائهم ، والمدارس والمستشفيات . هذا فقط ما ثبت للرهبانيات من محل في حركة المجتمع حالا". لعمري ، ان الرهبانيات قد احتلت هذين المحلين منذ زمان بعيد ، وستحافظ عليهم رغم انف المناوءة والعدوان . وما اعجز أي قوة ان تمنعها عن الصلاة ، التي هي حقل ثالث لها ايضا" تجيد العمل فيه ينوع اجدى ايضا من الحكومات وغيرها.
اجل ، لقد مرت الايام الطويلة على زوال الاعتقاد بنفع الصلاة . وانصرف روح العصر للاعمال الخيرية . وصدرت الاحكام المبرمة تدين الرهبانيات العابدة . ويحاكمون اليوم بعنف وصرامة سائر الرهبانيات الاخرى ، لانها تشكل الخطر والعقم من أي جدوى . هذا الروح عينه كان يدفع ابليس ليجرب القديس انطونيوس الكبير ، ويمتحنه في برّيته . وهذا الشيطان نفسه هو ايضا يطارد اليوم رهبان عصرنا ، واطئا آثار فضائلهم ، ويتعقبهم في ميدان رحمتهم ، وعلى مسرح احسانهم . اننا رأينا في اضطهاد هذه الايام ، ان الشيطان على قدامته وعتاقته ، هو اليوم اشد شرا" وحذقا" ودهاء ، منه في عهد القديس انطونيوس . يقال ان الشيطان يعرف كل شيء ولكنه ويجهل امرا" خطيرا … يجهل ان الرهبانيات هي دائمة ولن تفنى . دائمة بدوام المحبة التي اوجدتها ، وخالدة خلود الهدف الذي لاجله وجدت .
كم انه غريب لعمر الحق ، ان اناسا" يزجّون نصف حياتهم في البطالة المطبقة ، ونصفها الاخر في اقتراف المشككات ، يجرؤون على القول ان الرهبان هم خلائق غير مجدية ! واي خدمات يؤديها للبشرية اولئك النسوة المثريات المرفهات ، يكرسن كل الحياة لزينتهن وتبرجهن ويسترسلن في قراءة افظع الروايات والقصص قباحة ، ويطعنّ ما شئن في كرامة القريب … اولئك الناس ينتصف عليهم النهار وهم في اسرّتهم راقدون ، ولا ينهضون اللا للعناية بكلابهم وخيولهم ويحيون الليالي حول الموائد بالطيبات ، وفي مراسح اللعب ، ومخادع اللهو والمشاهد هؤلاء الكتّاب والصحفيون ، ينتحون العيش والاثراء فيجمعون قي حمأة السجون او في المواطن الموبؤة وغيرها … كل ما انتجه البشر من سماجة وقباحة، ويصوغونه رواياتِ، تقدمةَ لهو وتسلية لذوي البطالة العاطلين ، في قارات العالم الخمس ! ان العاقل يحسب نفسه حالما" حين يسمع هؤلاء القوم يتشدقون في كل فرصة ، ويروّجون ، ان الحياة الرهبانية هي حياة بطالة عديمة الجدوى .
ان الحياة الرهبانية قوامها الصلاة ، والوعظ ، والرحمة ، واذا انكرنا مفعول الصلاة وضرورتها اللازمة ، فقدت الحياة المسيحية جوهرها الاولي . وقد دافع عن الرهبان احد حماتهم البلغاء ، الكونت دي منتالمبير ، قال : " ان اهم الخدمات يؤديها الرهبان للمجتمع المسيحي ، انما هي الصلاة ، الصلاة الكثيرة ، الصلاة الدائمة لاجل من لا يعرفون ان يصلّوا او لاجل من لا يصلون مطلقا" . ان المسيحية لتحترم فيهم ، وتعظم على الاخص . هذه القوة الجزيلة الشفاعة ، تلك الابتهالات الحرة على الدوام ، تيارات هذه الصلوات التي تنصبّ دائما" على اقدام عرش الله تعالى ، وهو يريد ان نبتهل اليه . انها ترد غضب الله ، وتخفف من طغيان العالم وظلمه ، وتوطد السلام والمساواة بين دولة السماء ودولة الارض ! "

ماذا يقول المرسلون القدماء في وادي قديشا
اليك فقرة من كلام المرسلين القدماء في وادي قديشا ، قالوا :- " تحوي هذه الجبال مغاور عميقة الغور ، كانت في القديم صوامع لعدد كبير من النساك المتوحدين ، اختاروا هذه العزلة ليقدموا الدليل الساطع على توبتهم الصارمة . هي دموع اولئك القديسين المكفّرين التي اطلقت على هذا النهر اسمه الابدي  " الوادي المقدس " نبعه يتفجر من جبل لبنان ( جبل الارز). ان مرأى هذه المغاور ، وهذا الوادي ، في هذه البرية الموحشة ، ليوحي انسحاق القلب ندامة ، ومحبة التوبة والتكفير من جهة ، ومن جهة اخرى يوحي حنين تلك النفوس الشهوانية الكلفة بما في هذه الدنيا من متعة وافتتان وتفضيلها اياما" عابرة قليلة من الافراح والملذات ، على ابدية سعيدة لا انقضاء لها ولا انتهاء ! "

القديسة مارينا راهبة دير قنوبين
لقد ارشدني موارنتنا الافاضل الى مغارة ، على بضع خطوات من دير قنوبين ( غربا"). آوت اليها ابنة قديسة سنين طويلة، انصرفت فيها للتكفير عن خطيئة كانت منها براء. وهذا ما اخبروني عن تاريخها، قالوا:" ان والدها آثر ان يكرس لله تعالى سنواته الاخيرة . فوكل الى احد انسبائه ابنته المدعوة مارينا ، وهي في الرابع عشر ربيعا". ومضى ينزوي في دير قنوبين منتظما في سلك رهبانه . ولكن ذكر ابنته الوحيدة ظل لا يبرحه في عزلته ، فاستولى عليه من ذلك حزن عميق . واذا استطلعه رئيسه سبب حزنه ، اعلمه انه ترك في العالم ولدا" يحبه جدا" ، وكم تكون سعادته فائقة لو امكن ان يكون معه في الدير . فرضي الرئيس بطلبه ، وذهب هو فاحضر ابنته مارينا الى دير قنوبين في ثياب فتى ، وقبله الرئيس باسم الاخ مارينوس . وحين اشرف الوالد على الموت ، اوصى ابنته ان تواصل حياة القداسة ، وتستمر خافية أنوثتها على أي كان ، محتمية دائما" في ظل العناية الالهية . وكانت حياة الراهب مارينوس مثالا" للاقتداء ساميا" . ولكنه استُهدف للافتراء . وذلك ان فتاة في جوار قنوبين ارادت ان تبعد الريبة عن مسبب عارها ، فاتهمت الاخ مارينوس بانه اغواها وسلب بكارتها ، وبما ان الرئيس الذي اقتبل مارينوس كان قد مات ، وان مارينوس لم يقدم اية حجة على براءته ، حُكم عليه ان يعيش حياة فائقة الشظف والحرمان ، فيما بين الصخور التي قبالة الدير . وهناك عاش راضخا" سنين طويلة مقدما الامثلة الكبرى على فضائله، الى ان ادركته الوفاة فظهرت حقيقته ، وسطعت براءته " .

اهل وادي قديشا
وينعش هذا الوادي المقدس – مهد المارونية في لبنان – قرى ودساكر منتظمة على رؤوس الآكام والربى، مستظلة الافياء الظليلة ، تنشرها الاشجار الوافرة . والتقينا هناك رجالا" عامري البنية والقوام ، على نبالة وكبر في الحركة والمشية ، وعلى هيبة وجلال تتراءى من خلالهما الاخلاق الاستقلالية ، والنفس الابية . ورأينا نساء وفتيات في وجوه غضة نَضِيرة ، ونظرات لطيفة حنون ، وحشمة طبيعية لا تكلف فيها ولا رئاء ، سليمات القلب والنية ، هادئات مطمئنات . ويستطعن اباحة ما في نفوسهن دونما خوف ولا وجل . ومن قنوبين صعدنا الى الديمان ، بعد ان عبرنا نهر قديشا على جسر كبير ، متوقلين سفحا" حافلا" بالحجارة والحصى ، حتى بلغنا مخيمنا في الديمان ، بعد ان عبرنا فبل انسدال الظلام .

الحرية الدينية في لبنان
وتلوت القداس صباح اليوم التالي، خدمه لي رجل من اتباع قنصلية سردينيا، وهو رحالة اذ ذاك في لبنان. واعارني كبير امر من الاهتمام والرعاية. ثم قصدت حالا" الى زيارة البطريرك والمطران مراد المعهودين. فابديت لهما اسفي لاهمال اغراس الارز الصغيرة معرضّة للتلف. فاكدا لي الاهتمام الجدي باقامة سور يحتضن محلة الارز كلها، وبناء معبد اكثر لياقة من المعبد الحاضر، مع بعض غرف للزوار والرحالة. ثم اكد لي البطريرك- جوابا على ما سألت- انهم يتمتعون في الحكم التركي (العثماني) بحرية لا حدود لها من حيث التعليم، وممارسة الدين علنا"، وتعيين المطارين، والعلاقة مع روما. ذلك لعمري يطعن بحكومات اوروبا، حيث لا يستطيع مطران- أيا" كان- ان يصرح هكذا.
ان المدينة الغربية اوجدت التساهل والتسامح في الاسلام . اما الان فيغزو اوروبا برابرة متطرفون ، ويمعنون في تدميرها ما استطاعوا، فالعقائد باجمعها طُرحت مطارح النوى، وتقلّص الدين من معاهد العلم والادب، ومن الحياة العمومية ، وربما خلت منه قريبا" حياة العائلة الخاصة . واصبحت الشرائع والقوانين ، والحكومات ، والعلوم ، والفنون كلها وثنية بحتة‍‍‍‍‍‍‍‍‍.

تزاحم الدول على النفوذ في لبنان ايضا"
منذ ان دخلت انكلترا البحر المتوسط من خليج جبل طارق ( باسبانيا )، ومن جزيرة مالطا ، بدأت تسعى لبسط نفوذها وتجارتها في الشرق . فارسلت بعثة ذات وجه ديني ، اولا" لتنفي بها كل أثر للريبة والحذر ، ثم لتقبض تلك البعثة معاشها من سيدات لوندرا التقيات اللائي يسرقن ازواجهن غالبا" ليقمن بمعاش هؤلاء المبشرين الادعياء . وعلى هذا المنوال نسجت ايضا" دول اخرى ترويجا" لتجارتها ، فارسلت قناصلها الى اساكل الشرق . وشرع كل قنصل يعمل على تنمية نفوذ دولته ، واضعاف نفوذ الدول الاخرى ، مما سبب معارك ومناوشات ظلت قضية الدين غريبة عنها ، حتى اذا حصل قنصلُ امتيازا" من الباب العالي العثماني تفوّق به قليلا" على قنصل اخر ، نهض هذا يعمل ما استطاع على الغاء امتياز ذلك القنصل خصمه ، كما قد حدث للمرسلين الكبوشيين في بيروت ، اذ حرّم عليهم قنصل فرنسا هناك ان يقرعوا جرسهم ، لان الاذن بقرعه قد حصّله لهم قنصل سردينيا . ومن ذلك ايضا" ان المسيو كيزو ( 1787 - 1874)، رئيس وزارة فرنسا اجرى مفاوضات طويلة مع حكومة سردينيا لتوقف قنصلها هذا عن حماية الكاثوليك في بيروت . طالبا" ابضا" ان يكون لقناصل فرنسا وعامليها امتياز الاولوية بالتبرك بالماء المقدس عند الدخول الى الكنيسة !!
وهناك ايضا" روسيا تجهد بنشاط بارز لصالح المنفصلين عن روما . وانكلترا واميريكا تعملان لصالح البروتستانت . والمرسلون الكاثوليك ، على رغم وفرتهم وقوتهم ، واستعداد افرادهم للتضحية حتى الاستشهاد ، هم ضحية ذلك التزاحم الاستئثاري الانتفاعي المحض … على ما تقدم ، دار الحديث بيني وبين البطريرك . وكم تشكى من دسائس انكلترا . واليها نسب الفواجع الاخيرة [17] التي اغرقت الموارنة في دمائهم البريئة . ويغضبه بالاكثر اولئك المتجولون في لبنان باسم "مرسلين" مالئين جيوبهم بالتوراة، وقلوبهم بسم الافاعي.
المزابح التي اشعل نارها العثمانيون والانكليز سنة 1841 ، 1845 ، على ما هو معروف ، وقد قصلناه باستيفاء في كتابتنا " لبنان وفرنسا " بالعربية والفرنسية ، الجاهز للطبع قريبا" انشاء الله...

الصوم والانقطاع عند الموارنة- وغيرهم
وكان لي الشرف مرة اخرى ان اتغدى مع البطريرك . وكان الطعام قاطعا ، وذلك نهار الاربعاء . ويمسك الموارنة عن الزفر الاربعاء والجمعة احتراما" للشريعة ، ويوم السبت اكراما" وتعبدا" لمريم العذراء . على ان الامساك يوم السبت هو اختياري ومع ذلك فهو مرعي الحفظ اكثر من الاربعاء والجمعة . وعندهم فوق ذلك اربعة صيامات في مدار السنة هي : الصوم الخمسيني الكبير ، نظير جميع الكاثوليك ، وصوم ميلاد الرب ، وصوم السيدة قبيل عيد انتقالها الى السماء ، وصوم القديسين بطرس وبولس . وقد شرح احد المرسلين ( اليسوعيين ) في رسالة له من حلب كتبها منذ مئة سنة أي سنة ( 1748 ) ما عرفه بنفسه وعن كثب من طريقة الصوم والانقطاع عند الموارنة وغيرهم ، قال :
" ان الموارنة يتبعون عادة الكنيسة الرومانية . اما الملكيون والارمن والسريان فلا يتناولون طعاما" او شرابا" فبل الساعة الثالثة بعد الظهر . وينقطعون عن السمك والجبن والسمن والحليب والزيت . ويزيد الارمن الانقطاع عن الخمر . وليس عندهم تفسيح مطلقا" . والاولاد في السن العاشرة والاثني عشرة يساوون الكبار في الصوم فقط . ولا يخرقون القطاعة مهما كان الامر .
والطبيب الذي يمنع الصوم ويوجب الزفر مراعاة للصحة الغالية ، يحوّل الانظار عنه ، ويُمنى بالخسارة . وارك تسألني الان ، كيف يعمل الانكليز والهولنديون ؟ فهنا كما في انكلترا وهولندا لا يرعون صوما" ولا انقطاعا". ويتشكك منهم الناس ، فيقولون عنهم : انهم غير مسيحيين ، والمسلمون انفسهم يعتبرونهم لا دين لهم . وانهم هم يشعرون بهذه الدينونة ولا يستطيعون احتمالها . وصار كثيرون لا يأكلون اللحم اوان الصوم إِلاّ في الخفاء . واهل الصدق والاستقامة منهم يعترفون منذهلين بان دين المسيحيين الشرقيين لا يشبه في أي شيء تقريبا ، ما يعتقدون به هم . وهذا الفرق الملحوظ يخولنا افضلية كبرى عليهم .
ونقول لهم : انكم تريدون الرجوع الى عصر مولد النصرانية السعيد لكي تبرروا التقاليد. الى الاجيال الاربعة الاولى للكنيسة ، توجهون الدعوة . اسألوا جميع الشعوب حولكم ، تسمعوا : انهم في كل واجباتهم ، التي هي واجباتنا نحن ابضا ، لا يتبعون الا التقاليد الرسولية ، التقاليد التي تسلموها وورثوها من انطاكيا الشهيرة ، التي يعتبرونها اما" لهم ، عند هذا الاعتراض يرتبك البروتستانت ويتحيَّرون !..."
وعلى ضوء المثل الرائع يقدمه الموارنة في الصوم والانقطاع ، ارى ان التفسيح منهما يُعطى في اوروبا بتساهل محسوس ودونما سبب كاف . ان الموارنة يفوقون الجميع بكثرة اعياد البطالة والانقطاعات والصيامات . وذلك الجميع يقصّر عن الموارنة كل التقصير في رعاية تلك الشرائع . اذهبوا وانظروا هل صحة الموارنة لا تعادل صحتنا في اوروبا عافية" وازدهارا" او هل ارضهم ينقصها الكثير من العناية لتعادل ارضنا ؟؟ وعند المساء جاء المطران مراد يتناول الشاي في مخيمنا.


خاتمة الرحلات
قبل أن نترك القارىء في عهدة النصوص ، نودّ أن نوجز خلاصة من وحي الصفحات التي تركها هؤلاء الرحالة .
1)  يبدو من الواضح أنّ حياة التقشف هي احدى أهمّ الثوابت التي قامت عليها المارونيّة ، هي التي تجسّد ، في قلب الكنيسة الجامعة ، اختبارا روحيا عميقا يشدّها الى الأنجيل ، الى شخص السيّد المسيح ابن الله المتجسّد . لذا تظهر المارونيّة ، في حقيقتها ، كنهج نسكي ، أو مدرسة زهد وتقشّف . بهذا الوعي لذاتها أطلّت المارونيّة على العالم وتفاعلت معه ، به عُرِفَت وبه رسمت لها خطا . فان هي أهملت هذا البعد المكوّن لذاتها أو عنه انحرفت ، لأضاعت هويّتها وانهارت . هذا البعد ، انّما هو قدرها في الوجود ومسؤوليتها ، مذ أن شاءتها العناية في الوجود .
2) المارونيّة ، تراث النسك والتقشّف ، تكونت شخصيتها هذه ونمت في ظلال " الدير " ، في حماه وجواره، هو بوتقة الاختبار الروحي الصافي وموقع النسك والتقشف. من دير مار مارون على العاصي انطلقت… وراحت ، في رحيل اضطهاد ، تستظلّ الأديار … وصولا الى " الدير  قنوبين " ، أحد أهمّ مهادها في لبنان . ولنا في ومضات وصف يعطيها رحالتنا لدير قنوبين في موقعه وسكانه شهادة على ما تقدّم : قنوبين ، هذا الدير ، " يقع على منحدر احدى الجبال … معظمه مشيّد في الصخر …" ، صعب المنال ، فكأنّه " عاص " ثان : " وكان ، بعد وقت طويل ومشقّات جمّة أن وصلنا الى قنوبين " . وبالرغم من موقعه هذا ، فجواره ضاحكة وأراضيه مُتقَنة تُستَثمر : العمل اليدوي في الأرض ، له أحد مظاهر حياة النسك والتقشف ، وهو أيضا ميزة الموارنة القدامى الذين فتّتوا صخور جبلهم وجعلوا منها جنائن وبساتين : " فقد أُجيدت زراعت أراضيه ، حيث توجد الجنائن والبساتين والكروم بكثرة ، ومعظمها مرصوف بشكل سطوح " .
أمّا سكانه ، فرهبان " ينذرون حياة قشفة جدا ، وتوفير الضيافة للجميع ". يجيدون صنع الخمور الفاخرة ، يقدّمون منها للضيوف بسخاء ، وهم لا يذوقون منها نقطة . بطريرك وأساقفة ، " يعيشون حياة غاية في البساطة والتقشّف ، يتّسم لباسهم بطابع الفقر ، وليس لهم من دخل سوى ما تنتجه الأرض لهم من عمل أيديهم ".
كما ولنا في التنويه عن حياة التنسّك ، هذه الذروة التي تتوق اليها حياة الدير ، بالاشارة الى انتشار المحابس في الوادي المقدس والى عدد الحبساء والزهّاد الذين عاشوا واستشهدوا فيها ، وفي التنويه عن الاضطهاد الذي رافق تاريخ الموارنة ، وهو عنصر يضاف الى التقشف الاختياري ، لنا في كل هذا ما يؤكّد أنّ الارث الروحي النسكي ، الذي يشكّل قوام المارونيّة وبنيتها ، قد نشأ في الدير وفيه تجمّع .
3) بالتالي ، يظهر الدير ، عبر تاريخ المارونيّة وبالنسبة لها ، ضمانة وجوديّة وكيانيّة . هو قوّتها وميزان قواها . فان هو انحطّ وتقهقر ، وقعت هي في بلبال . وان هو حزم أمره ، اشتدّت هي وتراصّت صفوفها . لذا ، فما تحلّق الموارنة حول دير قنوبين كمرجع لهم ديني : "… وهم يعتبرون هذا البيت المركز الديني بالنسبة لهم"، وما وقوفهم في وجه باشا طرابلس ، الظالم الطمّاع ، برفضهم اعطاءه مطلوبه من المال : "… لأنّ سكان هذه الجبال كانوا ما زالوا في حرب مع باشا طرابلس ، الذي كان يفرض عليهم مبلغا من المال باهظا ، ما كانوا ، هم ، ليحكموا بضرورة توفيره له …" ، وما تعلّقهم بشخص البطريرك المضطّهَد وغيرتهم عليه : "… لذا كان الباشا يوفد غالبا أتراكا ليخطفوا البطريرك ويأتوه به ، يقينا منه أنّه اذا ما أصبح هذا الأخير في فبضته ، يبيع الموارنة آخر ثوب عندهم ليخرجوا البطريرك من سجونه ". ما كل هذا الاّ تعبير عن ايمان الموارنة بالدير ، هذا الرمز الأكبر والأهمّ لحياة التقشّف والنهج النسكي ، ومن هذا المنطلق ، لكون الدير ضمانة لديمومة المارونيّة في كيانها وكينونتها، في جنحيها الديني والمدني .



محاضرة المهندس الياس أنطوان جبر






الخطّ والمقياس الهندسي الشرقي الماروني
في وادي قاديشا
والامتداد الطبيعي داخل لبنان
بعد سقوط أنطاكية إلى أيامنا هذه






الأحد 28 حزيران 1998
لمحة تاريخية :
الانطلاقة : من انطاكية كانت الانطلاقة ومهد الحضارة المارونية.
تعريف : انطاكيا أو عصر الحضارة الذهبية كبرى عواصم الشرق ومدنه المزدهرة بالكنائس والكاتدرائيات على سبيل المثال : بابسقا - براد - قلب لوزه - وان في محيط انطاكيا واشعاعها في مار سمعان وتقلا.
انطاكيا الغنية بالكرمة وبصناعة الخمور وتصديره عرفت عصرا" ذهبيا" فبنت على خطّها الشرقي السرياني النابع من الحضارة الكنعانية الفينيقية أبنيتها العظيمة ان في الكنائس أو في          الأبنية المتخصّصة باستقبال الغرباء (كانوا يسمّون نزلا" للغرباء وهي تشبه الفنادق برحابتها ووسعها) وان في الأبنية العامة.
سقطت انطاكيا بيد العرب رغم استبسال المقاومة المارونية عنها لكن جيشها القوي لم يستسلم وانسحب من اسوارها الحصينة باتجاه بيزنطيا.
استرداد انطاكية مجدّدا" بدعم من بيزنطيا من هنا تسمية الموارنة "بالجراجمة" (أو الأبطال) أو "بنو الأحرار".
خسارة انطاكيا مجدّدا" واتجاه الموارنة الى العاصي ومن هنا ولد المعسكر الجديد في حمى صخور الجبل.
وبالتالي تفاعل الحضارة النابعة من انطاكيا لتلد من جديد محميّة بأسوار لا تغلبها جحافل     الجيوش الغازية، منحوتة في الصخر كعرين الأسد في الجبال، شامخة لانها القمة : هكذا ولدت انطاكيا جديدة في قاديشا.

معاني بعض الأسماء فماذا تعني كلمة قاديشا :
قاديشا تعني كل ما هو مقدّس Tout Saint, Tout Sacré ”
قزحيا : أي نبع الحياة  Gazza / Hayya Gazza أي جوهرة أو كنز  و Hayya الحياة أي كنز الحياة كما تحمل معان أخرى الحبيس الحي : gesh hayya و الخشب الناشف : gis heya
حوقا : تعني الدرج أو الطريق الصعب أو العامود
بقاعكفرا : أو ساحة الضيعة وكافرا بالآرامية تعني الضيعة
بزعون : تعني الفراغ التجويف الخفيف
حصرون : بالفينيقية تعني المحصّن المقوى أي القلعة (Hesro’n)
حدشيت : الكلمة حتية تعني بالفينيقية الحديث Hadeth أو القمر الجديد كما سميّت قرطاجة Cart, Hadsht أو الضيعة الجديدة كما قد تكون Tej shit وتعني قمة أو عرش وهو أيضا" "اسم ثالث اولاد آدم"
بشرّي : الباء لتحديد المكان وشارّي هو الأسد المؤله عند الحتيين كما قد تكون Shar من جذر "شر" اي القوة والباء تصغير كلمة "بيت".

التفاصيل الهندسية : البناء القديمة :
في بابسقا - قلب لوزه : المداميك المرتكزة عليها الأبنية حجارة ضخمة على طريق قلعة بعلبك أي الطريقة المعمارية الفينيقية. الخطوط المستديرة التي ترسم الفتحات كالقناطر على الأبواب والشبابيك وهي الخط الفينيقي Ligne courbe  والزخارف المتعرّجة بخط ثابت Ligne brisée كلها تشير الى الفن الهندسي الكنعاني الفينيقي.
من بترا (سلعا) في الأردن الى بعلبك، تدمر، الى كاتدرائيات بابسقا، قلب لوزه عملية تراتبية هندسية خطّها الواضح المعالم الفينيقية الأصلية.

التفاصيل الهندسية : الجديدة (لبنان) :
تبدأ الخطوط الهندسية المارونية في لبنان بالتأقلم مع طبيعة الأرض لترسم الكنائس المحمية Architecture troglodityque أو هندسة عوالم الظلال والعتمة وما تولده من قشعريرة ورهبة وأحاسيس متنوعة مجبولة بالصمت والخشوع.

أين تقع أولى الكنائس المارونية ؟
عدا الكنائس الأم في شمال سوريا. الدراسات التاريخية والجغرافية كما النصوص والمخطوطات المارونية القديمة، الملاحظات القيّمة على هوامش انجيل ربولا، أعمال وأبحاث البطريرك الدويهي، مهمّة Renan في فينيقيا “ La mission de Renan en Phenicie ”.
ملاحظات الأب Lammens - الثوابت التاريخية الأدوات الموجودة والأبنية المشادة والباقية تشير كلها الى وجود نوع من مهد للحضارة المارونية، الأفق الذي عاشت وترعرعت في ظلاله في حنايا الشمال اللبناني تحديدا" في وادي قاديشا أو على ضفاف النهر المقدّس من قزحيا الى بلوزا، بان، حوقا، حدشيت، بشرّي، بقرقاشا، بزعون، حصرون، الديمان، بقاعكفرا، حدث الجبّة كل منطقة جبل المكمل عند اقدام الأرز الجبّار.
نذكر أيضا" ان الأب ضو في كتابه تاريخ الموارنة ذكر بالاضافة الى هذه المنطقة في خطّ مواز لها منطقة جبّة المنيطرة أو وادي المنيطرة.
فماذا تعني كلمة منيطرة ¬ Monastrion أو Monastère أي الدير، هذه المنطقة التي تحوّلت من الوثنية الى المسيحية على يد الراهب ابراهيم تلميذ مار مارون (جبة المنيطرة هي منطقة العاقورا أفقا حتى بسكنتا).
هكذا نتبيّن اذا" وجود أبنية دينية مارونية قديمة هو في مهد نشوئها أو في عرين عظمتها.

الخصائص الهندسية :
ان هندسة الكنائس المسيحية منذ نشوئها كانت مطبوعة بخصائص كانت تتكرّر في كل زمان كانت تشاد فيها كنيسة. هذه الخصائص هي نقطة التشابه أو الوصل بين كافة الكنائس ان في الغرب أو في الشرق.
ان عوامل الخصوصيات أو المتغيرات بين كنيسة وأخرى تختلف باختلاف المواقع الجغرافية، الموقع الطبيعي، المناخ والطقس.
من هذه الخصوصيات طريقة تقسيم الكنائس الى 3 أقسام (Abside) الحنية والرواق الوسطي أو السرداب أو الممر والمدخل Portique.

لنستوضح الحنية : Abside
درجت العادة في الكنائس المارونية القديمة على تكليل المذبح بحنية وراءه كما هي الحال في الكنائس البيزنطية وهي بشكل نصف دائري من الداخل Concane ومن الخارج مستديرة. هذا الشكل رائج في كنائس اهدن في مار نهرا مار ضومط تولا، مار الياس تولا، في بحديدات كما في كنائس انطاكيا وشمال سوريا وعلى الأخص في قلعة سمعان حيث هذا الشكل هو الأكثر وضوحا" ورواجا". هذا ما يدفعنا للاعتقاد بأن الموازنة لحظة الغائهم للحنية، التي تذكر الأغريق Grecque   فكّروا باستبدالها بحنية مصغّرة أو niche وراء المذبح وهي طريقة تعبيرية للتذكير بتلك الحنايا المستديرة من الماضي.
المستديرة الهوائية Coupole هي عنصر أساسي في تركيبة الكنيسة المارونية الأفضل في هذا المضمار هي  المستديرة  الرائعة في مار الياس قرب ضيعة تولا وهي مشابهة لحد بعيد بالمستديرة  الهوائية الرائعة أيضا" والذائعة الصيت في كنيسة جبيل Byblos لكن للأسف كنيسة مار الياس تولا مهملة بسبب الخلاف بين ضيعتي تولا وعبديللي.
بعض الكنائس لها مدخل Portique عقد Portique voute كما هو الحال في كنيسة بحديدات. لهذه الظاهرة : حنية Abside، مستديرة couple عقد voute ومدخل portique. تشكل العناصر العامة للكنائس المارونية القديمة التي يختص بعضها برواق خارجي يسمّى في العامية دهليز.

خصوصيات بعض الكنائس :
بعض هذه الخصوصيات يبدأ بتحويل الفراغ الداخلي الى 3 أروقة أو سراديب nef3 كما هو الحال في بيبلوس التي يرتأي البعض بأنها متأثّرة بالحملات الصليبية ولأن بانوما هم الصليبيون وهذا الرأي مغاير للحقيقة لأن شقيقاتها الكبريات (في انطاكيا) هم على هذا النحو وقبلها بمئات السنين.
والثابت علميا" هو أن كثيرات من مثيلاتها بنيت في عمق الكيان الماروني.
ان المنطقة التي حافظت على كل جوهرها وكيانها وجذورها التاريخية والثقافية (كنائسها) كما هو الحال في معاد ورشكيدا.
مع العلم بأن كنيسة معاد وهي واحدة من الأجمل في لبنان بهندستها المعمارية تضم ثلاثة أروقة أكبر بقليل من شقيقتها في جبيل لكن أقل ارتفاعا".
الداخل مؤلّف من تراتبية لعواميد مزخرفة ومتوّجة بتاج مزخرف بعروق زهرية surmonté de chapiteaux à feuillage وهذا النوع من الزخارف فينيقي المولد.
في مار جرجس رشكيدا المخطّط يرتسم على ثلاثة أروقة (الكنيسة مهجورة في منطقة يسكنها الشيعة). وهي مبنية على أنقاض معبد فينيقي (نظرية شبه صحيحة) الحائط التي تستند عليه أساس الكنيسة مقوّى بأجزاء عواميد مستديرة يذكّروننا بقلعة جبيل.
الصخور الارتكازية لأول المداميك يبيّنوا عظمة الهندسة الفينيقية.
تظهر هذه التأثيرات : في القدس أيضا" معبد داوود الذي بناه الفينيقيون يذكر بأساسات البناء في بعلبك، القلعة في جبيل، قلعة سمعان في شمال سوريا.

العناصر الظاهرة هي :
-Ligne fermée  - الخطوط المقفلة
-Arcade a plein cintre outre passé  - القناطر ذوات نصف الدائرة المتجاو
- decoracien riche en feuillage - الزخارف الفنية بالأوراق
- Chapiteaux qui surmonte les colonnes - التيجان التي تكلّل الأعمدة
مع العلم بأن كنيسة مار جرجس شكيدا تبعد 3 كلم من ضيعة عبرين ونكمّل مسيرا" للوصول الى كنيسة حطون التي يدّعي البعض بأن لها 7 أروقة وسبعة مداخل 3 من ناحية الغرب.
باب من ناحية الشرق مع Portique وباب من ناحية الشمال .... لكن الكنيسة تهدّمت وما تبقّى منها ازيل لحظة بناء الكنيسة الجديدة. ولم أتمكّن من ملاحظة أي أثر يفيدني في تحديد هوية الكنيسة.

طريقة وضع الكنيسة أو خصوصيات بعضها :
بعض كنائسنا تستفيد من خصوصية معينة كالكنائس القلاع والكنائس التؤام.
من الناحية اللاهوتية لا شيء يبرّر هذه النزعة الخاصة كما في كنيستي تولا.
من الناحية الهندسية الصرف نلاحظ أن اعدادا" كبرى من كنائسنا القديمة تضم خزانات كبيرة وفتحات صغيرة من ناحية المدخل ومن هنا نعرف أن الكنيسة كانت تشيّد في موضع الخزّان من جهة حائط الدعم لتخفيف أعباء النش بانشاء هذا الخزّان.
ومن جهة ثانية كان للكنيسة نوع من واجب الحماية والماء التي يحتاجها الانسان هيي عنصر حياة.
- الكنائس التؤام: واحدة كنيسة والأخرى خزّان وللتوسيع نستعمل الخزّان كنيسة جديدة (نظرية سيدة ايلج).
- الكنائس المغلقة  Eglises troglodityques : تشابه بين الأبنية الفينيقية القديمة بدءا" من بترا الى انطاكيا فكابادوسيا الى كنائس قنوين وقاديشا المنحوتة في الصخر وكلها على طريقة Bas relief

داخل الكنيسة :
الداخل بحسب البطريرك الدويهي: في كتابه أظهر الدويهي العناصر التي تقسّم الداخل الى 3 أقسام :
1- قدس الأقداس  Saint des Saints
2- المقدّس Saint  المذبح  Autel
3- البهو  L’Aula
بالنسبة لثلاثة أشخاص الثالوث الكنائس التي تظهر بقوة هذه العناصر هي :
- كنيسة مار ماما في اهدن، كنيسة مار سابا في بشرّي، كنيسة مار ضومط في تولا. هكذا يظهر الدويهي بأن التقسيم الداخلي المائل الى الزخارف وتمييز الأجزاء عن بعضها لذلك نرى الأعمدة في تراتبية من الوراء باتجاه القسم الثالث من المقدّمة الذي هو المذبح أو قدس  الأقداس الذي يتم تتويجه بحنية مزخرفة وسقف بيضاوي.
الحنية  Abside et Cathèdre :
ان الحنية تكون مزخرفة بالموزاييك وبالنقوش fresque بطبيعتها تحيط المقدّس وتخلق نوع مميّز من الغرابة mystère.
كانت الحنية توجّه الى الشرق التي تأخذ معنى رمزي على قمّة الحنية ترتفع منصة Lucarne لجهة الشرق Orient لان الآب هو آب النور  Dieu de lumière. تحت ال Lucarne  موجود مجسم من صخر Cathèdre elevée المذبح هو بشكل مستطيل فلماذا ؟
حسب الدويهي على المذبح ان يكون اطول من الشمال الى الجنوب منه الى الشرق والغرب لكي نستطيع وضع الأغراض على الطاولة، الماء والمبخرة والكأس.
المذبح يرتفع عن الأرض بدرج مؤلف من عدة درجات وهو دائما" منفصل عن جسم الكنيسة بواسطة هذه الدرجات كما هو مكتوب بأن جسم بيضاوي Coupole تظلّل المذبح وهي مرفوعة على 4 أعمدة وأربع برادي بحسب الدويهي. كما هو مكتوب أيضا"  قنطرة مصغّرة niche  على جانبي المذبح من واحدة لحفظ الكأس، الجسد والدم وواحدة لحفظ الذخائر.

الشرفة  Ballustrade :
أمام المذبح هناك شبكة حديدية أو خشبية تقطع المذبح عن باقي الكنيسة وفيها 3 أبواب تشبه ال Iconostase عند الشرقيين.
يكتب الدويهي على هذا الموضوع بأن الآباء أمروا بأن تفتح أبواب الشبكة الشرفة وأن تكون الحواجز مفرغة بطريقة الشبكة لكي يتمكن الناس من مشاهدة الداخل. كما أمروا بتسكير البرادي في بعض الأحيان والطقوس احتراما" للمذبح. هذه الشبكة ليست حائطا"، وكانت تعرف بالعامّية باسم الشعرية.
القسم الثالث من الكنائس المارونية هو الدار أو البهو Dar ou Aula هذا القسم بحسب الدويهي كان فارغا" من اية مقاعد بعكس الطقس البيزنطي وعلى المؤمنين ان يكونوا واقفين للصلاة كما قال الرب اذا أردتم أن تصلّوا فقفوا وقولوا أبانا الذي في السماوات. الدار يحتوي على كرسي الاعتراف والمعمودية وناقوسين من الجهتين المحاذيتين للشبكة كما هناك قرّاءين يوضعان أمام الشبكية لقراءة الانجيل والرسائل.
على ما يبدو كان جرن المعمودية يوضع في الخارج تحت سقفية لكي لا يدخل الى الكنيسة الاّ أبناء النور كما هو ملحوظ في كتاب الواجبات “Le livre de consecrations”.
في الدار أيضا" توجد جرار الماء المبارك في نهار تبريك الماء Eau de l’Epiphanie
النواقيس أيضا" لدق ساعات الصلاة وهكذا يبدو بأن الشعب كان يشارك واقفا" بالصلاة.

الجدرانيات  fresques :
peintures ¬ أهمية كبيرة محيت جميعها ولم يهتم بها أحد. أهمّها : كانت في معاد فمحيت، في دير الصليب ما تزال موجودة ولكن مشوّهة. على ما يبدو كانت هذه الجدرانيات متأثّرة بالفنّ البيزنطي ولكن على الطريقة المارونية.


















محاضرة السيد ريكاردوس الهبر







الأهمية الإيكولوجية لمنطقة وادي قاديشا
في شمال لبنان







الأحد 14 حزيران 1998
تتألف منطقة قاديشا طوبوغرافيا من نظام واديين متوازيين يقطعان سلسلة جبال لبنان الغربية باتجاه شرق _ غرب من ارتفاع 2500 م حتى 550 م. اما الواديان فهما وادي قزحيا شمالا وتعني تسميته "كنز الحياة"، ووادي قاديشا جنوبا ، وتعني تسميته " المقدّس " . الجزء الغربي من قاديشا يُعرف بوادي قنوبين ، وتعني تسميته " المَنْسَك " . يفصل وادي قزحيا ووادي قاديشا جبل مار الياس الذي ينحدر باتجاه شرقي _ غربي ويرتفع بين 1160 م الى 1750 م . ويتدفق في الواديين نهران يلتقيان عند قاعدة جبل مار الياس ليتحدان في نهر واحد يكمل طريقه الى البحر المتوسط مارا بمدينة طرابلس .
يحضن منطقة قاديشا من الشرق جبل ظهر القضيب الذي يرتفع حتى 2750 م ويشكل حاجز طبيعي امام رياح الصحراء من الشرق واهم حوض مائي في لبنان . في سفح ظهر القضيب ، وعلى علو 2000 م ، تقع بقايا غابة ارز لبنان القديمة والشهيرة متوِّجة رأس وادي قاديشا الذي يحوي نظاما وافرا من مصادر المياه العذبة .
لوادي قاديشا اهمية عالمية لأسباب عديدة مثل كونه تجمع فريد لمجموعات شجرية قديمة التواجد والتفاعل تحتوي على فصائل عديدة من الصنوبريات مختلطة مع انواع عديدة من الاشجار العريضة الاوراق المُساقطة او الدائمة الخضرة ، جميعها في منطقة مناخية _ نباتية متعددة الخصائص . كذلك لكونه موطن طبيعي لتركيبة متوازنة من النباتات والحيوانات البلدية مشكلا احتياطيا فريدا" من الكائنات الحية البرية في هذا الجزء من قارة آسيا.
فهو يحتوي على آلاف النماذج الانيقة النمو، المختلطة بانواع عديدة من الاشجار كالعرعر والقيقب والدردار والغُبيراء وخوخ الدب واللبنى والزيزريق. اما انواع الشجيرات الخفيضة المتواجدة مع الاشجار فتشكل مزيجا" هائلا" من الاصناف النادرة او المستوطنة مثل مخلب عقاب الارز ومخلب عقاب صوفر ودحريج لبنان والورد الغروي وغملول لبنان.
وتشكل شقوق الصخور والينابيع والجداول وغَيْض الاشجار والممرات الضيقة والدروب القديمة والفسحات بين الاشجار جنة مكتظة باكثر من 900 نوع من النباتات المزهرة . هذا الامر جعل من وادي قاديشا محج لعلماء النبات عبر 350 سنة منصرمة اسفرت عن اكتشاف وتسمية انواع جديدة عدة من الازهار البرية التي لا ينمو بعضها الا في لبنان مثل بنفسج لبنان . ويعتبر وادي قاديشا مأوى لعدد كبير من انواع الازهار البرية النادرة والمهددة بالانقراض ، وهذه تضم 53 نوعا" مستوطنا" بينها 42 نوعا" اعطي علميا" اسم لبنان مثل حليب الطير اللبناني ونجمة الربيع اللبنانية وقصر النحل اللبناني.
ويقدم وادي قاديشا امكانيات كثيرة وظروف عيش مناسبة لالاف الانواع من الكائنات الحية اللافقارية بفضل غنى وتنوع القاعدة الغذائية النباتية . فكل نوع من الاشجار والشجيرات والاعشاب والازهار يأوي حصراً انواعه الخاصة من تلك الحيوانات الصغيرة . ولوادي قاديشا اهمية خاصة كونه الملجأ الطبيعي لاعداد كبيرة من فراشات المناطق المرتفعة النادرة . كذلك يؤمن الحرش ظروفا"مثالية حيث تجد مئات الحشرات النافعة مَوئلا" مناسبا" . وينمو فيه اكثر من مئة نوع من النباتات المُعَسِّلة والرحيقية مما يجعل من فسحاته المشمسة جنة لانواع عديدة من النحل البري ولمئات من انواع الكائنات المعسّلة .         
ان موقع وادي قاديشا الجغرافي، وغناه في المساكن الطبيعية، ووفرة الاماكن الصالحة للتعشيش، والتنوع الكبير في المأكل والملجأ جعل منه ملاذا" للطيور وموقعا" حيويا" للحفاظ على الثروة الطائرة. فعلى مدار السنة، يعج بكافة انواع الطيور الساكنة والمهاجرة والمعششة ربيعا" وصيفا" والزائرة شتاء" وهي بمعظمها مهددة بالانقراض ومحمية دوليا" مثل: ملك العقبان، نسر البادية، النسر الذهبي، العوسق، الباشق، الشاهين، عقاب النحل، البيدق، الابلق العربي، النقشارة الخضراء، هازجة الشجر، الدُخّلة الرأساء، وجميع انواع النعّار. ويؤمن وادي قاديشا احد الملاجئ الاخيرة للعدد الاكبر من انواع اللبونات المستوطنة والمهددة جديا" بالانقراض. من هذه الحيوانات نذكر كبابة الشوك، السنجاب، القنفضة، ابن آوى، ابن عرس، الغرير، السنّور، الطبسون، الارنب البري، القدّاد، عكبر الحقل، الزبابة والخفاش.
ويعتبر علماء الطبيعة ان وادي قاديشا هو مورد علمي، وثقافي، وجمالي، وسياحي فريد في هذا الجزء من العالم. فهو تراث ومتحف طبيعي وطني لا مثيل له حيث ما زالت تعيش مختلف كائنات الغابات الغابرة المستوطنة والتي تضم بعض اندر واهم انواع المخلوقات المتأقلمة في بيئة مناخية خاصة . لذلك هو بمثابة كنز دفين للبنان وللمنطقة لأنه يختزن معلومات علمية فائقة الاهمية حول انواع الحياة البرية وحول علم اجتماع النبات ودينامية علاقات الكائنات وتطور النظم الطبيعية . كما انه مخزن وطني طبيعي لبذور مئات النبات البري التي ما برحت تجمع وتؤصل معلومات وراثية نادرة منذ آلاف السنين . ولانه مستودع طبيعي اخير لبذور ولشتول انواع عديدة من الاشجار والشجيرات المستوطنة التي لا بد من الاستعانة بها لإنجاح اية عملية اعادة تحريج مستقبلية لمناطق لبنانية مشابهة ، ذات ظروف بيئية كامنة مماثلة .
عندما ذكر العالِم الاميركي، والباحث في النبات جورج بوست في كتاباته: "ان لا مثيل للبنان على هذا الكوكب، ليس فقط لكونه مسرحا لحقبات هامة ولافتة من تاريخ الانسانية ، بل ايضا لتكوينه الجيولوجي الفريد، وللتنوع الكبير في تضاريسه ومناخه ، ولغناه النوعي بالنبات وبالحيوان" كان يشير خاصة الى مناطق شمال لبنان الزاخرة بالمواقع الطبيعية الفريدة التي تحتوي على تنوع طبيعي لا مثيل له .
ويمكن اعتبار هذه المنطقة الصغيرة نسبيا من لبنان حديقة وملجأ ومختبر طبيعي آخر في هذا الوطن الصغير . فالعديد من الفراشات والطيور والاشجار والازهار المتواجدة في المنطقة اطلق عليها مكتشفوها من علماء اجانب وفدوا الى لبنان عبر اربع مئة سنة منصرمة اسماء علمية تشير الى اسم لبنان .
ومن الناحية المناخية ، فان رؤوس الجبال المكللة بالثلوج والمحيطة باعالي وادي قاديشا تضفي على ارجائه مناخا ألبيا" ( نسبة لنظم المناخ في جبال الألب ) ، بينما تنعم المناطق السفلى بنظم طبيعية متوسطية ( نسبة لنظم مناخ المناطق المواجهة للبحر المتوسط ) . ويتخلل هذان الحدّان من الحرارة والارتفاع عدة انواع من المناطق البيئية والمناخية المتدرجة بينهما .
هذه التقلبات المناخية الحادة جعلت من محيط قاديشا حديقة حقيقية ينمو فيها حوالي الف نوع من الازهار البرية المسجلة بالاضافة الى تشكيلة واسعة من الاشجار البرية المثمرة والهامة اقتصاديا . هذه الميزات النادرة لاقت تقديرا لافتا من جميع الذين شهدوا على جمال المنطقة. وغنى الادب، شعرا ونثرا، بكتابات تجمع ما بين جمال وفرادة منطقة قاديشا لا يترك مجالا للاستفاضة . فمثلا كان إرْنِسْت  رونان مسهبا في التعبير حين كتب: "… ان عذوبة الهواء وجمال الاخضرار يشعران المرء بالاشتهاء . كما ان الطبيعة الفريدة والخلابة التي تنجلي رويدا رويدا على تلك المرتفعات تشرح كيف ان الانسان قد أُعطِي جلّ الامكانات لمختلف انواع الاحلام في هذا العالم الرائع " .
وكتب ألفونس لامرتين متعجبا ومسحورا بجمال جبال هذه المنطقة ، فقال : " لم يترك ابدا منظر اية جبال في نفسي هكذا انطباع .
… انها خليط من جمالية الخطوط وعظمة القمم مع دقة التفاصيل وتنوع الالوان".
واخيرا، ان اهم الاسباب الايكولوجية التي تحتم الحماية الطارئة لمنطقة قاديشا المتضمنة جبل ظهر القضيب (من القمم حتى السفوح)، غابة الارز ، جبل مار الياس ، وادي قزحيا ووادي قاديشا ، حتى الوادي الفاصل بين بلدتي طورزا وسرعل هي :
1 _ كثافة المواطن الطبيعية نتيجة للتنوع الكبير في التكوين الجيولوجي والطوبوغرافي والمناخي والترابي.
2 _ التنوع الطبيعي الهائل والبارز من خلال آلاف انواع النباتات والحيوانات التي تضم عددا كبيرا من الانواع المستوطنة اما في لبنان او في هذه المنطقة وحدها .
3 _ فرادة تواجه وتشابك هكذا خليط من النظم الطبيعية ، من جبال متعددة الارتفاعات الى اودية وانهر واحواض مائية ، في هذه المنطقة من العالم.

- تردد فئات نباتات وادي قاديشا
عدد العائلات ………….…… 79
عدد الانواع ……………….  912
عدد النوعيات ………..……  163
عدد الاصناف ……………… 118

- نباتات وادي قاديشا المسماة علميا نسبة الى لبنان
عدد الانواع ……..… 26
عدد النوعيات ……..  07
عدد الاصناف ……..  09

- الامتداد الزمني لحياة نباتات وادي قاديشا
النباتات السنوية …………………........….  162 نوعا
النباتات الحؤولة ( تعيش سنتين لاكمال دورتها )  43  نوعا
النباتات المعمّرة ………........…………….  568 نوعا
الانواع الشجرية ……….........……………  27  نوعا

- درجة خصوصية ( Endemisme  ) نباتات وادي قاديشا
البلد                                       عدد الانواع % من نبات قاديشا
لبنان فقط                                 53               0 , 6
لبنان وسوريا                            38               0 , 4
لبنان وتركيا                            26               0 , 3
لبنان وفلسطين                          03               1 , 0
لبنان وسوريا وفلسطين                42               6 , 4
لبنان وسوريا وتركيا                   93               0 , 19
لبنان وسوريا وتركيا وفلسطين       47               0 , 5
بلدان شرقي حوض البحر المتوسط 75               2 , 8















محاضرة السيد فادي بارودي






الاكتشافات الحديثة
لأديار وصوامع ومغاور وادي قاديشا







الأحد 7 حزيران 1998

إنّ اهتمام الجمعية اللبنانية للأبحاث الجوفية بالوادي المقدّس يعود الى سنة 1988 وهو العام الذي تأسّست فيه جمعيتنا؛ حينها إرتأى بعض من أفرادها الإهتمام بالمغاور والكهوف التاريخية، دون إهمال تلك التي ذات طابع استغواري؛ ومنذ ذلك الحين توالت الاستكشافات والاكتشافات والدراسات وكان لوادي قاديشا منها الحيّز الأكبر .
وقد ساهمت هذه الاكتشافات والدراسات (التي قامت بها الجمعية) بشكل مباشر على ابراز الأهمية التراثية للوادي، وأدّت بالتالي الى ادخال مواقع منطقة قاديشا على لائحة الجرد العام للأبنية الأثرية والتاريخية(1).
ومن المؤسف انّه على رغم ادخال وادي قنّوبين _قاديشا وقزحيّا في لائحة الجرد العام للأبنية الأثريّة، فانّ البعض من أبناء هذه المنطقة، وعن حسن نيّة، أخذوا على عاتقهم ترميم وتجديد عدد من هذه الأماكن الأثريّة دون ان يكون لهم أيّة خبرة ومعرفة في ترميم الأبنية التاريخية، فأتى عملهم مشوِّها" للمجموعة، والأخطر أنّه غيّر في الشكل الأساسي للبناء؛ لذلك سوف تتضمّن هذه اللائحة، الحالة الحاضرة للموقع عند الضرورة.
ولكن تجدر الاشارة الى أنَّ المديرية العامة للآثار بذلت مؤخّرا" جهودا" كبيرة للحفاظ على المواقع واعادة ترميم ما تشوّه منها، بالاضافة الى جهود الجمعيات الأهلية المحلية وخاصة " الهيئة الرسمية للحفاظ على تراث وادي قاديشا " .

قسّمنا منطقة قاديشا الى ثلاثة أقسام :
1 -الوادي الأساسي : يعرف عند العامة بوادي قاديشا(2)، لكن في الخريطة التي وضعتها مديريّة الشؤون الجغرافيّة في الجيش اللبناني (خريطة(Ehden P-7  لاذكر لتسمية وادي قاديشا بل وادي قنّوبين (نسبة الى دير قنّوبين). في الواقع هذا الوادي يبدأ "جيولوجيا " من منطقة الكورة العليا وتحديدا" من كوسبا، صعودا" حتى أسفل الجُرُف الصخري الذي تعلوه بلدة بشرّي، أمّا تسمية قاديشا المُعترف بها حاليا" فتُطلق على الوادي الممتد بين مزرعة النهر حتى أسفل بشرّي، حيث يبلغ طول امتداده حوالي 10كلم. الى الشرق من مزرعة النهر وتحديدا" عند جُرُف قمّة مدينة الراس، يتفرّع هذا الوادي الى واديين: الوادي الكبير أو قنّوبين-قاديشا باتّجاه الجنوب الشرقي، والوادي الصغير او وادي قزحيّا باتّجاه الشرق.
2-وادي قزحيّا: طوله حوالي 3كلم ويمتد من مزرعة النهر صعودا" حتى أسفل بلدة كفرصغاب.
3-منطقة بيت منذر: تقع الى الغرب من وادي قاديشا وموازية له؛ فيها يمر القسم المتبقّي من الطريق القديم الذي كان يربط الساحل الطرابلسي بالبقاع فدمشق. يشرف على هذا الدرب جُرُف شاهق يسمّى "شير الدلماس" او "الدلماز"(3).
هذه الأقسام الثلاثة تقع ضمن ما يسمّى جبّة بشرّي التي كانت حدودها بحسب الاسقف جبرائيل ابن القلاعي:"…من قرن حردين الى قرن أيطو…"(4).
الأماكن المستكشفة من أديار وصوامع ومغاور وكهوف وتجويفات صخرية تقع إمّا في أسفل أو في وسط الجُرُفين المحاذيين لضفَّتَي نهر قاديشا، أو في الأودية الصغيرة المتفرّعة من الوادي الأساسي. حين كانت مأهولة، كان يتم الوصول الى القسم الأكبر من هذه الأماكن عبر صقالة أو سلالم خشبية، بالطبع لم تعد موجودة الآن؛ لذلك كان لا بد من التسلّق لاستكشاف هذه الأماكن العاصية. من الناحية الجيولوجيّة يفوق عدد الكهوف والتجويفات الصخرية في وادي قاديشا، عدد المغاور والهوّات.
اللائحة
وادي قنّوبين – قاديشا (الضفّة اليمنى بدءا" من أعالي الوادي)
منطقة دير مار ليشع (القديم)
1-مار ميخائيل: كهف طبيعي يقع في الجُرُف المحيط بدير مار ليشع القديم الى الشرق منه. بقايا لبناء أثري داخل الكهف (تسلّق صعب)(5).
2-صومعة؟ (لاتشاهد الا عند الوصول اليها): تقع داخل شقّ صخري ضخم في وسط الجُرُف فوق دير مار ليشع القديم. بقايا    لرافدة (خشبية) وبعض الحجارة المنحوتة (تسلّق صعب5 وخطر]صخر مفتَّت[ ).
وادي حولات – حدشيت (الضفّة اليسرى)
هو الأغنى في المنطقة من حيث وجود العدد الأكبر من الكنائس والمحابس الأثرية فيه، وهو الأكثر إهمالا" أثريا" وبيئيّا" (وادي حولات كان لوقت قريب مكبّا" للنفايات).
3-كنيسة مَرت شموني: بناء أثري داخل تجويف صخري. تقع هذه الكنيسة على مطل وادي حولات الذي يشرف على وادي قاديشا. لسنوات خلت كانت هذه الكنيسة مغطاة بجدرانيات تعود الى العصور الوسطى، ولكن احد المغتربين اراد "ترميم" هذه الكنيسة فنزع الملاط والجدرانيات وكحّل الكنيسة بطريقة "حديثة"، مخربا" الصور المقدسة.
الحالة الحاضرة: كارثة أثرية حصلت (داخل الكنيسة) للجدرانيّات (رسم جداري) العائدة الى القرن 13م(6).
4-كنيسة مار بهنا(7): بناء أثري يحتوي على بقايا لرسم جداري وكتابة سريانية على قِطَع من المِلاط الجَصّي.
الحالة الحاضرة: قيل لنا إنّ في نيّة أهالي حدشيت ترميم هذه الكنيسة الأثرية؛ من الضروري تكليف هذا الأمر لمديرية الآثار.
5-مار سركيس: مزار صخري تظلله سنديانتان قديمتان.
وادي حولات (الضفّة اليمنى)
6-دير الصليب: عبارة عن بناء داخل كهف طبيعي ضخم. جدران البناء مزيّنة برسومات تعود الى العصور الوسطى؛ على الجدران أيضا" كتابات سريانية ويونانية وكتابات عربية؛ من بين الكتابات العربية المسيحية واحدة نادرة تعود لأحد النسّاك (يوسف الجراني).
استطعنا اظهار كتابة سريانية بعد أنّ قمنا بتنظيف المِلاط الجَصّي تحت رسم المصلوب، وهذا الرسم يختلف باسلوبه عن بقية التصاوير داخل الكهف.
الرحّالة ابن جبير (عن سنة 1184م) أتى على ذكر التعبّد الذي كان قائما" ومشتركا" بين المتصوّفين المسلمين والنسّاك المسيحيين في جبل لبنان(8)؛ هل هذه الكتابات العربية في دير الصليب تعود الى هذه المرحلة؟
من الصعب التأكّد لأنّ زوّار دير الصليب دوّنوا (وما زالوا يدوّنون) فوق هذه الكتابات الأثرية أسماءهم وتعليقاتهم، مشوّهين بذلك تلك النصوص النادرة.
الحالة الحاضرة: اذا جاز التعبير فآثار دير الصليب "تعيش آخر أيّامها"(9).
7-محابس دير الصليب: تقع في وسط الجُرُف تحت دير الصليب وتضم مجموعة من أربعة كهوف، عثرنا في أحدها على رافدتين خشبيّتين وكِسَر فخّارية (تسلّق صعب).
8-محبسة وكنيسة مار انطونيوس: تقع المحبسة في وسط الجُرُف وهي فريدة في موقعها وبنائها تحيط بها مجموعة من الكهوف (تسلّق صعب).
تقع الكنيسة في أسفل الجُرُف تحت المحبسة، ويُعتقد أنَّها تعود الى العصور الوسطى.
الحالة الحاضرة: لا بد ان تُتَّخذ كنيسة مار انطونيوس أُنموذَجا" لتبيان عملية التشويه التي تحصل على ايدي بعض الأشخاص تحت اسم الترميم؛ التكحيل الحديث لحجارة الواجهة قد أظهر الفرق الشاسع في الفن المعماري بين الحجارة المرمّمة حاليا" في الخارج، وبين حجارة الداخل التي، ولحسن الحظّ،بقيت على تكحيلها القديم؛ على كل شخص مهتمّ بهذه الأبنية التراثية القديمة ان يشاهد هذه الكنيسة بالذات ويعاين في الداخل حجارة القبو الاسطواني، والجدران التي بقيت على حالها من جمال فني تراثي نفّذه أهل هذا الوادي منذ مئات السنين، ويقارن مع ما جرى اليوم لواجهة الكنيسة. والذي زاد في بشاعة هذا العمل المسمّى ترميما"، تركيب باب جديد (خشب سويد لمّاع لا يَمُت بصلة للموقع) مكان الباب القديم (الباب القديم مركون الآن في زاوية داخل الكنيسة).
9-مار سلوان: عبارة عن كهف ضخم يحتوي على بقايا لبناء شبه مهدّم (تسلّق خطر).
10-استكشاف مجموعة من الكهوف والتجويفات في وادي حولات (تسلّق صعب).
الجُرُف الموازي  للطريق المتّجه الى دير قنّوبين (تابع حدشيت)
11-دير مار يوحنّا: يقع هذا الدير شرقيّ دير مار جرجس في وادِ صغير موازِ لوادي حولات في منطقة تُعرف بالمذابح.
     يتم الوصول الى الدير عبر درج محفور جزئيا" في الصخر، ويتألّف (الدير) من تجويفين يحتوي الأول على كنيسة صخرية، والثاني على حجرة مهدّمة جزئيّا مبنيّة بحجر منحوت، سقفها مؤلّف من روافد خشبيّة وقشّ وتراب.
تتألّف الكنيسة من قسمين: مدخل خارجي ورواق داخلي؛ المدخل كناية عن قنطرتين محاذيتين لحائط الرُواق. بُنِيَ المدخل بحجارة منحوتة مُتقنة.
أمّا الرواق الداخلي فمحفور كليّا" في الصخر وينتهي بشرقيّة؛ الحائط الشرقي لهذا الرواق مطلي بعدّة طبقات من المِلاط الجَصّي حيث اكتشفنا على احداها بقايا لجدرانيّات، منها: رسم لحيوان، من المرجّح أن يكون أيّلا"، وصليب شبيه بالذي تمّ اكتشافه في مار اسيا (راجع المقالة الخاصة برسوم دير مار يوحنا).
اسلوب هذه التصاوير يدعونا الى الاعتقاد بانَّ دير مار يوحنا كان ايضا" مركزا" للرهبان الأحباش، وهو على كل حال كان يخص اليعاقبة عام 1501م(10).
الحجرة المهدّمة هي مدفن الدير (بقايا لعظام بشريّة وخِرَق) والظاهر انها دُنِّسَت مرّات عدّة؛ وقد عثرنا على قطعة من القماش المضلّع، أغلب الظن انّها تعود الى الفترة المملوكية، وتُعرف بال "عتابي"(11).
الحالة الحاضرة لدير مار يوحنّا مقبولة ما عدا المقبرة التي ما  زالت تتعرّض "للزيارات".
12-كهوف المذابح: مجموعة من الكهوف في داخل البعض منها عظام بشرية وكِسَر من الفخار.
13-موقع(12) مار جرجس: يقع مار جرجس حدشيت(13) داخل كهف، في الجُرُف الصخري من الضفّة اليمنى لنهر قاديشا، يتم الوصول الى الدير عبر طريقين: من بلدة حدشيت نزولا" نحو وادي قاديشا ومرورا" بوادي حولات. هذا الدرب يمر بين الاديار والصوامع الواقعة داخل الكهوف في الجُرُف (دير الصليب، مار انطونيوس، مار سلوان الخ…)؛ ويعتبر وادي حولات المتفرّع من قاديشا، الأغنى في هذه المنطقة من حيث كثرة الآثار المسيحية المتواجدة فيه(14). أما الطريق الثاني، فهو المتّجه من مركز شركة كهرباء قاديشا الى دير قنوبين مرورا" بأسفل الجُرُف حيث دير مار جرجس.
يتألّف دير مار جرجس من قسمين:
القسم الأوّل كناية عن كنيسة على اسم مار شلّيطا تقع في أسفل الجُرُف وملاصقة له، وهي مبنيّة من حجارة منحوتة بطريقة غير مُتْقَنة، سقفها على شكل قبو، وفي داخلها رواق مستطيل ينتهي بشرقيّة على شكل قبّة ربع كُرَويّة.
القسم الثاني وهو عبارة عن كهف طبيعيّ يقع في وسط هذا الجُرُف ويضم كنيسة (مار جرجس) ومدفن وبعض الحُجُرات؛هذه المجموعة تشكّل ما يسمّى بدير مار جرجس (الأحباش)، حيث يتم الوصول إليه عبر درج من الحجارة المنحوتة، ولا بدّ من اجتياز ممر صخري عامودي يتطلّب بعض المهارة لتسلّقه (من المستحسن استعمال حبل لتسهيل العبور)(15).
تكمن أهمية هذا القسم في الكنيسة الصخريّة، أي كنيسة مار جرجس، وهي كناية عن تجويف طبيعي حُفرت شرقيّتها على شكل عقد مكسور؛ هذه الشرقيّة مطليّة على كامل امتدادها بعدّة طبقات من المِلاط الجصّي. وجدنا على احدى هذه الطبقات رسوما" جداريّة" ذات أشكال هندسية كانت مغطّاة بطبقتين من المِلاط؛ في وسط هذه التصاوير رُسِم شعار او رمز (الرسم الأوسط-راجع المقالة الخاصة برسومات مار جرجس). أمّا المذبح فهو كناية عن حجر مربع الشكل تعلوه بلاطة وكلاهما مغطّيان بعدّة طبقات من مِلاط جصّي.
ينتهي الحائط الصخري الملاصق للجهة الجنوبية لشرقيّة الكنيسة بتجويف صغير يحتوي على عظام بشرية، ربما كان مدفن الدير في تلك الفترة.
هناك كهف يقع فوق الكنيسة قمنا باستكشافه؛ يتطلّب الوصول إليه تسلّقا" صعبا".
قرب الكنيسة هناك ايضا" مجموعة من التجويفات، والظاهر انها إستُعمِلت حُجُرات لسكن الرهبان.
الحالة الحاضرة: لدير مار جرجس ما تزال جيّدة وذلك يعود لصعوبة الوصول اليه.
قنّوبين
14- دير قنّوبين: من أهم الأديار الأثرية في الوادي. اكتشفنا فيه رسما" جداريّا" لم يكن معروفا" من قبل(17). استُكشِفَت الكهوف المحيطة بقنوبين.
15- مغارة – هوّة برزأ: ذات طابع استغواري، تتألف من مدخلين (المغارة والهوّة) وتحتوي على صاعدات وهابطات رائعة.
الحالة الحاضرة: تكسير الرواسب الكلسية في مدخل المغارة(18).
حوقا
16- عاصي حوقا: تجويف ضخم امتداده 213 مترا" أُفُقيّا"، يقع في وسط جُرُف علوه 80 مترا" (تسلّق صعب). في سقف هذا التجويف عثرنا على أقدم كتابة عربية مسيحية مؤرّخة (1193م) اكتُشِفَت داخل مغارة. هذا التجويف كان يُعرف بقلعة حوقا وقد حوصِر وسقط بأيدي المماليك أثناء اجتياحهم للمنطقة سنة 1283م.
الحالة الحاضرة: صعوبة الولوج الى المكان جعلته بمنأى عن التشويه والتخريب، لكن أحد الأصدقاء في قرية حوقا نبّهنا الى أنَّه في نيّة الأهالي تثبيت سُلَّم معدني لتسهيل الصعود الى عاصي حوقا، مما يهدّد الموقع والكتابة والرسومات وبقايا المِلاط الجَصّي بتشويهها وزوالها. هذا الوضع ربما وُجِد حل له وهو إنشاء لجنة من قبل قرية حوقا تأخذ المبادرة للحفاظ على هذه الآثار النادرة والابقاء على عاصي حوقا كما هو.
17- برج مار توما: يقع في أسفل عاصي حوقا وهو مربّع الشكل، مبني بحجارة منحوتة، ذُكِر في المخطوط (1283م) الذي عثر عليه البطريرك الدويهي.
الحالة الحاضرة: كارثة أثرية حصلت منذ مدّة قصيرة لهذا البرج؛ فقد أُزيل القسم الأكبر من حائطه الجنوبي بِفَكّ حجارته لاستعمالها في سيّدة حوقا كما سنرى.

18- سيّدة حوقا: "جوهرة الوادي"  كما لقّبها أحد علماء الآثار(19)؛ وهي مغارة تحتوي على مدخل ضخم، بُنِيَ فيه دير يعود  تاريخه الى 1283م. يحتوي   الموقع أيضا" على مغارة طبيعية يبدأ امتدادها فوق المستوى الأعلى للدير(20).
الحالة الحاضرة: بدأ ترميم الموقع من قبل اشخاص يفتقرون الى الخبرة في ترميم الآثار. التكحيل الحاصل لحجارة الدير لا علاقة له بالتكحيل المُعتَمد في الأماكن الأثرية (هو تكحيل يليق بمنزل في مركز اصطياف). الباطون غزا المكان من الخارج ومن الداخل. هناك مدافن قديمة تقع عند مدخل الدير. لكن الكارثة الكبرى تبقى في الزيادة المنوي القيام بها على البناء، فكيف يُعقل اضافة حجر واحد على بناء أثري علما" أنَّ الحجارة التي سُحِبَت من برج مار توما مخصّصة للاستعمال هنا.
نشير الى أنَّ المديرية العامة للآثار قد قامت مؤخّرا" بتصحيح اعمال الترميم في هذا الموقع، كما أعادت تأهيل الدرب المؤدي اليه.

19- مجموعة من الكهوف والتجويفات التي تحيط بسيّدة حوقا استُكشفت كلّها.
منطقة الفراديس – مزرعة النهر
20- مجموعة من الكهوف والتجويفات والمحابس استُكشِفت بمعظمها.

وادي قنّوبين _ قاديشا (الضفّة اليسرى بدءا" من أعالي الوادي)
21- مغارة الحمام: تقع مغارة الحمام في الضفّة اليسرى من وادي قاديشا وتحديدا" داخل جُرُف صخري شاهق يسمّى "شير الحمام"، تعلوه منطقة تدعى المزرعة، بالقرب من دير مار ليشع الجديد.
إرتفاع شير الحمام (من أعلاه الى قعر الوادي) 175 مترا" عاموديّا" (راجع خريطة مديريّة الشؤون الجغرافيّةAïnâta 0-8  )(21)؛ أمّا مغارة الحمام فموقعها داخل هذا الجُرُف (شير الحمام)، وتحديدا" في نقطة تبعد 40م انطلاقا" من قمّة الجُرُف، و135م انطلاقا" من النهر حتّى قاعدة المغارة (راجع الرسم).
استحال الوصول الى مغارة الحمام بواسطة الهبوط على الحبل من أعلى الجُرف، بسبب النتوء الصخري الضخم الواقع فوق مدخل المغارة مباشرة"، والذي يقف حاجزا" وسدّا" منيعا" أمام كل من يحاول الدخول الى الكهف، وذلك بقذف مسار حبل الهبوط بعيدا" عن التجويف بحوالي 20م، مما يجعل المستغور معلّقا" (على الحبل) في الهواء وغير قادر على التقاط حافّة الصخر مهما حاول التَأرجُح؛ إذن ومن الناحية التِقنِيَّة، لا يمكن قطعا" الوصول الى مغارة الحمام من هذا المسار.
وصف المغارة
عبارة عن كهف طبيعي، مدخله على شكل مُثلّث ضخم (راجع الصور الفوتوغرافيّة)، علوّه من القاعدة (أرض الكهف) الى أعلى نقطة (عند تلاقي ضلعيّ المُثَلَّث) في سقف الكهف حوالي 13م. أرضيّة الكهف على شكل مربّع، ضلعه (عرض الفتحة) 7م، وعمق الكهف من حافَّة الجُرُف حتى الحائط الصخري في الداخل حوالي 6,5م؛ في هذه الأرضيّة هناك فراغ (نتيجة انهيار قسم من أرضيّة الكهف؟)، لذلك يبقى التنقّل في الداخل محفوفا" بالأخطار، وعليه فانَّ المستغورين كانوا يعتمدون على حبل أمان للتنقّل من مكان الى آخر داخل المغارة.
تتألّف المغارة من مستويين منفصلين: في المستوى الأوّل يوجد جدار مبني بحجارة منحوتة بطريقة متقنة؛ طول الجدار 1,35م، علوّه 1,60م، عرض الحجر (مدماك) حوالي 25سنتم. في المستوى الثاني يوجد خزّان للمياه مستطيل الشكل حُفِر في الصخر، طوله 2,90م، عرضه 2,25م وعمقه الحالي 1,30م (الباقي من العمق مغطّى بذرق الحمام). قرب الخزّان هناك آثار لدرج محفور في الصخر ولحجارة منحوتة.
الملاحظ في داخل الكهف وجود عدد كبير من الحفر المربّعة والمحفورة في الحائط الصخري من المغارة؛ هذه الثقوب كانت موضع لروافد خشبيّة، الهدف منها انشاء عدّة مستويات، ربّما للسماح باستقبال عدد معيّن من الأشخاص نظرا" لضيق المكان.
في الحائط الداخلي الصخري للمغارة يوجد 3 فتحات متشابهة على شكل دائرة وكأنّها مداخل لسراديب؛ كان علينا الوصول اليها بطريقة التسلّق وذلك لوجودها على ارتفاع حوالي 6م من مستوى أرض الكهف.
22- مغارة: بالقرب من مغارة الحمام في وسط الجُرُف (تسلّق صعب).
23- مغارة: في أسفل "شير الحمام" تتألّف من مستويين (تسلّق صعب).
بقرقاشا
24- دير مار جرجس ومحبسة مار سمعان: يقع في وسط جُرُف صخري تحت بلدة بقرقاشا. يتألّف الدير من مستويين: السفلي وهو بقايا لبناء داخل تجويف والعلوي هو عبارة عن تجويف امتداده أُفُقي، في داخله حُجرة وكنيسة. ينتهي التجويف الصخري بحنيّة طبيعية ربما كانت المحبسة .
بُني هذا الدير سنة 1112م(22)، وتُعتبر الكنيسة تُحفة أثريّة فريدة. في محبسة مار سمعان كُتِب مخطوط "ريش قريان" سنة 1242م(23).
صعوبة الوصول الى الكنيسة (عبر ممر ضيّق يقع على حافَّة الجُرُف ويمتدّ من الحجرة حتى الكنيسة) كان السبب الأساسي في ابقائها بحالة شبه جيّدة دون تشويه.
الحالة الحاضرة: مشروع "ترميم" كان كارثة أثريّة لهذا الموقع(24). فالركائز المعدنية ثُبِّتَت على المِلاط الخارجي للكنيسة (والذي يرجع الى العصور الوسطى) بادخالها في جدار الواجهة، مخرّبة" بذلك الجزء الأثري الأهم في الموقع، الا وهو واجهة الكنيسة. على هذه الركائز بُنِي جسر حديديّ بين الحجرة والكنيسة، وكانت النتيجة أنَّه حجب الواجهة وشوَّه المكان وغيّر في معالمه بطريقة لا تتَّفق أبدا" مع هذا الأثر ومع الموقع ككل؛ حتى الحجرة جُهِّزَت بخزانة معدنية. مدخل الدير فقد جماله وميزته الصخرية بوضع درج وقاعدة معدنية فيه. بالاضافة الى ذلك، فقد ثُبِّتَت المصابيح الكهربائية الضخمة بطريقة عشوائية، كما تم بناء قبّة جرس من الباطون زيدت على البناء الأثري وشوّهت ما تبقّى من جمال الموقع.
منطقة حصرون
25- موقع مار اسيا: الوصول إلى الدير يتم عبر منفَذين: المنفَذ الأول، من بلدة حصرون نزولا" باتّجاه قعر الوادي عبر درب وعر، مرورا" بمجموعة من الكهوف والتجويفات الصخرية (راجع عنها في لائحة وادي قاديشا)؛ المنفذ الثاني عبر الطريق من شركة كهرباء قاديشا باتجاه قنوبين مرورا" بمفترق وادي حولات حتى سد صغير على نهر قاديشا، ثم صعودا" على درب شديد الإنحدار (يُعرِّض سالكه للإنزلاق أثناء المطر).
شرح عام للموقع
موقع مار اسيا قائمٌ في الجُرُف الصخري من الضفّة اليسرى لوادي قاديشا، وهو عبارة عن نتوء صخري ضخم فيه تجويف واسع تنبسط أمامه قطعة أرض مسطّحة نوعا" ما ومشجّرة؛ يضمّ التجويف:
كنيسة مبنية بالقرب من نبع مار اسيا.
محبسة وهي عبارة عن كهف يقع على علو 12م تقريبا" عن مستوى الموقع.
مدخل مغارة نبع اسيا.
الكنيسة
هو بناء يحتوي على حجرتين (كنيسة مزدوجة) يفصل بينهما حائط؛ كل حجرة مؤلفة من رواق ينتهي بشرقية، أمّا السقف فكناية عن قبو اسطواني على شكل عقد مكسور.
الحجرة الجنوبية بحالة جيّدة تقريبا"، وهي تحاذي الجُرُف الصخري على طول حائطها الجنوبي؛ يقع مدخل الحجرة هذه من الناحية الغربيّة، أمّا شرقيَّتها فإتجاهها، بالطبع، إلى الشرق لكن مع إنحراف 20 درجة، وهي مطليّة بعدّة طبقات من المِلاط الجَصّي؛ تحت احداها (الطبقات) عثرنا على الكتابة الحبشيّة بلغة الغعز، (راجع المقالة الخاصة بالكتابة) وعلى رسم لصليب (مصلّب الأطراف) حيث على طرفيه يوجد الحرفان الأوّلان من اسم يسوع المسيح باللغة اليونانية (IC-XC)(25).
عند مرور الرحّالة  Jean de la Roque في القرن 17م، كان الموقع قد أصبح خاليا"(26)، والظاهر أنَّ الكتابة الحبشيّة كانت قد حُجِبَت وإلاّ لكان هذا الرحالة أتى على ذكرها.
في الحائط الشمالي لهذه الحجرة يوجد باب (نصفه مردوم بالتراب) على شكل قنطرة (وبقربه كوّة نافذة) يسمح بالعبور إلى الحجرة الثانية (الشمالية). البناء شبه منهار باستثناء الشرقيّة المطليّة بثلاث طبقات من مِلاط جَصّي حيث وجدنا على إحداها رسما" جداريّا" (راجع المقالة الخاصة بهذا الرسم) بالإضافة إلى تصاوير هندسيّة وصلبان مع كتابة سريانيّة.
تجدر الاشارة الى الفرق الواضح في طريقة البناء بين الحجرتين مما يدل على انَّ بنائهما لم يتم في مرحلة واحدة، وهذا ما يؤكّده الاختلاف في اتّجاه الشرقيَّتين والواجهتين (بالنسبة الى الشرق).
المحبسة
كناية عن كهف يقع على علو 12م داخل الجُرُف الصخري وقبالة الكنيستين؛ الوصول اليها (المحبسة) يتطلب تسلّقا" صعبا" وخطرا" سببه نوعيّة الصخر المُفتَّت.
من المؤكّد انَّ الوصول إلى المحبسة كان يتمّ قديما" بواسطة صِقالة او سلّم خشبي. بُني على مدخل الكهف جدار من الحجر المنحوت،وقد عثرنا على قطع من الخزف تعود إلى العصور الوسطى (القرن 13-14م) غُرِزَت داخل المِلاط المستعمل لتثبيت الحجارة بعضها ببعض؛ المحبسة من الداخل عبارة عن قاعة طبيعية بطول 20م تقريبا" وبعرض يتراوح بين مترين و 4 أمتار ولا وجود لسبع أو ثماني غرف كما يدّعي الرحّالة الفرنسي(27).
هذه المحبسة كانت تُعرف بمغارة مار شلّيطا؛ يذكر البطريرك الدويهي عن أربعة نسّاك فرنسيّين أتوا ليستحبسوا في جبل لبنان: "…فأختار البعض منهم السكنة في مغارة مار شلّيطا بدير مار اسيا…"(28).
المغارة
تقع المغارة في الطبقات الجيولوجيّةالصخريّة العائدة للعصر الجوراسيّ (J4)، وبالتحديد عند التلاقي بين الجزء العلويّ والصخريّ (J4A) والجزء السفليّ المُرمل (J4B).
عند مدخل المغارة أُنشِئت مؤخّرا" قناة من الباطون لجرّ مياه نبع مار اسيا، ويتم الولوج إليها من داخل القناة المغمورة بالماء حتى الوصول إلى بحيرة صغيرة. لا بد بعد ذلك من التقدّم سباحة في المياه الباردة التي لا يفصل سطحها عن السقف الصخريّ سوى عشرة سنتيميترات تقريبا"؛ هذا الأمر يتطلّب تقنيّة معيّنة كقطع النفس لبعض الوقت إلى أن يصبح الرأس خارج الماء. بعد هذه المرحلة الدقيقة
نصل إلى ممر متعرّج وعر وقليل الماء؛ عرض هذا الممر متران، علوه لا يتعدّى 3 أمتار، ويبلغ طوله نحوا" من 200 متر. تضمّ المغارة هابطات وصاعدات ذات أشكال وألوان متعددة رائعة.
توجد في آخر المغارة بركة ماء صغيرة، وفي إحدى رحلات الاستكشاف استطاع مستغوران من الجمعية اجتياز هذه البركة بطريقة قطع النفس، ووصلا إلى ممر جديد يبلغ طوله نحوا" من 30م يؤدي إلى قاعة تحوي على بركة يصبّ فيها شلال ماء يهبط من ارتفاع يقارب 7م؛ تسلّق المستغوران الطرف الصخري من الشلال ووصلا إلى ممر ثالث ينتهي بقاعة كبيرة دون أي منفذ. الطول الإجمالي لهذا الإمتداد الجوفي يبلغ زهاء 75م.
26_ مجموعة من الكهوف والتجويفات (في داخلها كسَرٌ فخّارية ومدافن قديمة وجدار مبني أمام أحد الكهوف، ربما يرجع الى العصور الوسطى) تقع على الدرب المنحدر من الطريق العام الى مار اسيا.
الحدث
27- مغارة عاصي الحدث:
أ-الموقع: تقع مغارة حدث الجبّة في جُرُف صخري علوّه حوالي 40م، وهي عبارة عن شق طبيعي وسط الجُرُف اتجاهه نحو  الشمال الشرقي، وهي تشرف على وادي قاديشا من علو شاهق. التسلّق والوصول اليها صعب.
ب-وصف المغارة: يوجد في المغارة طبقتين اساسيتين،
الاولى: عبارة عن قاعة واسعة،     
والثانية عبارة عن شُرفة فوق هذه القاعة تُشرف عليها وعلى المنفذ المؤدي الى المغارة.
القاعة الاساسية الواسعة: يوخد عن يسار المدخل معصرة او (مطحنة) قطرها 80سنتم محفورة في الصخر، وعن اليمين في الداخل يوجد بئر ماء مستطيل (1,5X 3,5) عمقه غير مؤكد لأنه مليء بالركام. وفي زوايا هذه القاعة يوجد حجيرات محفورة في الصخر. أرضها مكوّنة من ترسبات من التراب الناعم الجاف.
القاعة العليا: هذه القاعة سقفها قليل الارتفاع (من 3 الى 5 امتار)، في داخلها بئر طبيعي يربطها بالقاعة الاساسية السفلى.
ج- مكتشفات مغارة عاصي الحدث: المكتشفات في مغارة عاصي الحدث تعود الى القرن الثالث عشر، وبالتحديد الى سنة 1283 عندما شنّ المماليك حملة عسكرية على جبّة بشري وحاصروا اهالي بلدة الحدث الذبن اختبأوا في هذه المغارة ومات قسم منهم فيها، كما يذكر الدويهي ومحيي الدين بن عبد الظاهر(29).
فبعد مرور أكثر من 700 سنة على حصول هذه الاحداث، عثر أعضاء من الجمعية اللبنانية للأبحاث الجوفية في مغارة عاصي الحدث على مجموعة أثريّة قد تكون الأهم في تاريخ الاكتشافات  (الأثريّة) التي حصلت حتى الآن في لبنان والتي تعود تحديدا" الى العصور الوسطى؛ هذه المجموعة تحتوي على عدد من الأجساد البشريّة لبعض من أهالي الحدث الذين اختبأوا في المغارة، وماتوا ودفنوا فيها أثناء الحصار الذي ضربه المماليك عليها(30).
سبعة أجساد بشرية مرتدية ثيابها ومكفّنة دُفنت في أرض المغارة، والبعض منها حُفظ في حالة شبه جيدة(31)، إضافة" الى عدد من الأطراف والعظام البشرية والجماجم التي اكتُشفت في أجزاء مختلفة من الكهف؛ امّا مجموعة الثياب المكتشفة فتُعتبر فريدة لكونها انموذج للّباس الشعبي لأهل جبل لبنان في القرن 13م.
إضافة الى هذا اكتشفنا مجموعة كبيرة من اواني الحياة اليومية العائدة لسكّان المغارة وللمماليك ايضا"، سيَّما وانَّ المهاجمين، بعد استيلائهم على عاصي الحدث، حوّلوها الى مركز عسكري.

بدأت الاكتشافات في مغارة عاصي الحدث سنة 1988، أي اثناء الاحداث الأليمة التي كانت تعصف بلبنان(32)؛وكان واجب علينا انقاذ آثار المغارة خاصة" انه في بداية تلك المرحلة (مرحلة الاكتشافات في عاصي الحدث)، كانت المغاور التاريخية والأديار الأثريّة في وادي قاديشا تتعرّض كلها بدون استثناء للنهب والتخريب من قبل جماعات مسلّحة، كانت تبحث عن "الكنوز"؛ فدير قنوبين مثلا، مركز البطريركية المارونية (منذ 1444م حتى اوائل القرن 18م)، تعرّض مرات عدّة "لزيارات" هؤلاء القوم الذين عمدوا الى فتح أنفاق في أسفل الدير مشوّهين بذلك معالمه، وحفروا أرضية كنيسة الدير الأثريّة، ونبشوا المدفن الموجود في الجدار الشمالي للكنيسة.
تحتوي المجموعة التي سُلِّمت الى المتحف الوطني(33) على 293 قطعة أو مجموعة من بينها:
أجساد بشريّة محنّطة طبيعيّا"، البعض منها بحالة جيّدة.
عدد من الأطراف البشريّة، البعض منها بحالة جيّدة.
مجموعة من خصل الشعر المجدولة(34).
أساور، خواتم، عقود.
زنانير جلدية(35)، أحذية، قطع جلدية مختلفة.
مجموعة كبيرة من الثياب من بينها قطع كاملة (فساتين) ومطرّزة (تطريز رائع).
مجموعة كبيرة من الخرق(36).
جديلة من قماش (قطعة نادرة جدّا").
مشالح  (قطع نادرة).
مجموعة كبيرة من الكِسَر الفخّارية واحدة عليها كتابة: "برسم بطرس الحدثي"(37).
مجموعة من السُرُج(38).
مجموعة كبيرة من الكِسَر الزجاجية منها ما هو ملوّن (واحدة عليها كتابة-راجع عنها لاحقا").
ادوات حديدية (مسامير، زردة زنّار، مسلّة، مهماز-قطعة نادرة جدّا").
ملاعق خشبية (واحدة عليها رسم رائع-قطعة نادرة).
مفتاح من خشب مع خيطه (قطعة نادرة جدّا")(39).
أمشاط  (عليها حفر).
مجموعة كبيرة من الخيطان (بعضها ملوّن) وقطع حبال.
حُجُب (حجاب) من قماش في داخلها خيط معقود(40).
بقايا مواد غذائيّة كانت موجودة في الحُفَر مع المومياءات (جوز، لوز، نواة زيتون، ثوم، قشر بصل ورمّان، سنابل قمح مجدولة).
ورق غار محافظا" على رائحته (كان منثورا" فوق الاجساد).
قطع نقود صليبية ومملوكية (عليها اسم السلطان بيبرس وقلاوون(41)).
شفرات سكاكين.
مُدْية أو مِطْواة (سكّين تطوى) كاملة مع مقبض من خشب (قطعة نادرة جدّا")(42).
رأس بلطة من حديد.
رأس معول من حديد.
مجموعة كبيرة من خشب السهام، منها ملوّن ومرسوم عليه (رأس أفعى)(43)؛ قطعة سهم عليها بقايا من ريش الذيل (قطعة نادرة).
مجموعة من رؤوس السهام الحديدية بأشكال مختلفة.
سهم كامل وبدلا" من الريش يحمل الذيل ورقا" (قطعة في غاية الأهمّية)(44).
مجموعة من الأوراق المخطوطة بالعربية والسريانية (بعضها مؤرّخ)، وسنأتي على ذكر محتويات البعض منها.
28- المنطقة الممتدّة من أسفل جُرُف عاصي الحدث حتى دير مار أبون: وهي منطقة شبه معزولة عن بقية الوادي ربما لوعورة مسالكها. قمنا باستكشافها منذ سنوات وعدنا اليها هذا الصيف. تحتوي على مجموعة من الكهوف، قسم منها كان مأهولا".
منطقة الفراديس
29- دير مار أبون ومحبسة مار سركيس
الموقع: يقع دير مار أبون بالقرب من قرية الفراديس في أسفل وادي قاديشا وعلى الضفّة اليسرى منه؛ يتمّ الوصول اليه (مار أبون) من القرية المذكورة عبر درب يجتاز النهر ويسير بمحازاته، ثم صعودا" باتجاه الجنوب عبر مدرّجات مزروعة (بالعامية جلّ) نحو جُرُف فيه مجموعة من كهوف تحوي في داخلها القسم الأكبر من الدير. باتّجاه الجنوب الغربي من هذه الكهوف هناك ابنية صخرية تُعرف بمحبسة مار سركيس.
1- دير مار أبون (يتألّف من قسمين)
القسم الأوّل: عبارة عن أربعة كهوف متتابعة، تقع على نفس المستوى الأفقي (راجع الرسم التخطيطي)؛ يحتوي الكهف الأكبر (عمقه حوالي 19 مترا" وعرضه 20م) على كنيسة بُنِيَت في داخله، وعلى خزّان للمياه يشير شكله على أنّه حديث العهد.
وصف الكنيسة: تقع الكنيسة بأكملها داخل التجويف، وهي مبنيّة بحجارة رمليّة منحوتة جُمِعَت بعضها الى بعض بمِلاط جَصّي هو مزيج من كلس ورماد ورمل.
يقع مدخلها (الباب) في الجدار الشمالي الشرقي ويعلو أسْكُفَّة او ساكِف الباب عقدٌ عاتقٌ (لتخفيف حمل الحائط عن ساكِف الباب)؛ على يمين المدخل من الخارج يشاهد قسم من بناء، الظاهر منه كناية عن قنطرة (؟) على شكل عقد مكسور والباقي منه (من البناء) مطمور تحت أكمة صغيرة.
الكنيسة من الداخل كناية عن رواق واحد ينتهي بشرقيّة مبنيّة على شكل قبّة ربع كُرَويّة(45) وبحنيّتين ملاصقتين للشرقيّة من كل جهة؛ سقفها (الكنيسة) مبني على شكل قبو اسطواني عقده مكسور، ونقطة الارتكاز بين السقف المقبّب والجدران كناية عن إفريز حجري (على شكل شريط زخرفي) لونه أحمر طوبي، ربما هو نوع من آجُرّ او قرميد.
يحتوي الحائط الجنوبي الغربي على ثلاث حنايا حيث تنتهي الحنيّة الأقرب الى الشرقيّة بحجرة صغيرة (راجع الرسم التخطيطي)، أمّا الباقيتان فتجويفهما على شكل مربّع.
تحتوي الجهّة الشمالية الغربيّة من الكنيسة على حجرة كبيرة يفصل بينها وبين رواق الكنيسة جدار، القسم الأكبر منه منهار؛ يشكّل سقف الحجرة امتدادا" لسقف الكنيسة. في الحائط الجنوبي الغربي لهذه الحجرة يوجد مدخل يؤدّي الى سرداب ينتهي بحجرة صغيرة (راجع الرسم التخطيطي).
تكمن أهمّية هذه الكنيسة في هندستها المعماريّة الداخلية المتناسقة والمتوازنة؛ فحجارتها المنحوتة بطريقة مُتقنة تجعل منها تحفة فنيّة معماريّة، ربمّا الأجمل بين مجموعة الكنائس الأثريّة في منطقة قاديشا؛ اضف الى ذلك وجود فتحة على شكل باب في وسط الشرقيّة(46) كانت تؤدّي حتما" الى "السكريستيّا" (أو "بِتْ شمشا" بالسريانية وتلفظ شَمُشِ) وهذا ما يؤكّده وجود اثر لبناء ملاصق ومتلاحم مع صدر الكنيسة (الواجهة الخارجية لشرقية الكنيسة)(47). من المؤكّد أنَّ هذا البناء (الكنيسة) يعود الى جماععة كان لها تقليد هندسيّ كنسيّ عريق.
خارج هذا الكهف يوجد بقايا لبناء هو عبارة عن ثلاثة جدران مبنيّة بحجارة منحوتة؛ الجدار الجنوبي الغربي متّصل بالجُرُف الصخري، امّا الجنوبي الشرقي فيشكّل الواجهة الأكبر لهذا البناء، ويحتوي على مدخلين كانا يؤدّيان الى مستوى سفلي، حاليا" مردوم، باستثناء قبو في الناحية الشمالية للبناء. خارج الكنيسة وبالقرب من الجُرُف الملاصق للجدار الجنوبي الغربي، عثرنا على بقايا تنّور.
الجدار الشمالي الشرقي، المواجه للكهف الثاني، يحتوي على المدخل الأساسي للدير؛ أهميّة هذه الواجهة أنّها ما زالت محافظة على عناصرها الهنديسيّة المعماريّة، خصوصا" من الجهّة الداخليّة حيث الجدار مُليَّس بعدّة طبقات من المِلاط الجَصّي، وعقد المدخل يعلوه عدد من الصلبان المنقوشة؛ بالاضافة الى ذلك هناك كوّة مربّعة الشكل في أعلى الحائط حيث كانت رافدة السقف الاساسية.
نشير الى انَّ طريقة بناء هذه الواجهة مختلفة تماما" عن الكنيسة: حجارة الكنيسة كناية عن "حجر رملي" امّا البناء الخارجي فحجارته كلسيّة صلبة.


الكهفان المتبقِّيان (الثالث والرابع) يقعان على حافَّة جُرُف قليل الارتفاع، والوصول اليهما يتم عبر ممر على شكل قنطرة من حجارة شبه منحوتة يتبعه جسر خشبيّ. التجويف الرابع يحتوي على جدار، قسم منه منهار حاليا".
القسم الثاني: هو كناية عن بناء، يقع على سطح الجُرُف حيث الكهوف الأربعة، وهو مستطيل الشكل مكوّن من عدة مستويات، سقفه منهار وبعض من جدرانه أيضا"؛ طريقة بنائه شبيهة بالعمارة الخارجيّة في القسم الأوّل.
تسمية الدير
أبون (بالسريانية) تعني أبونا. كان يعرف الدير "…دير ماري يوحنا المعروف بمار أبون…"(48). حاليا" يسمّى مار أبون. البعض من أهالي قرية الفراديس يطلقون عليه تسمية "مار بون".
الحالة الحاضرة لدير مار أبون
كارثة أثرية تحصل حاليا"للمكان؛ فالكنيسة تُستَعمل زريبة للماعز والرعيان يشعلون النار للتدفئة في داخلها، لذلك أصبحت أرضيّتها تعلوها طبقة سميكة من الزبل والرماد، وتحوّل لون البناء في الداخل الى أسود داكن؛ أمّا البناء الخارجي (الواجهة) فوضعه لا يحسد عليه، فقد "أفادنا البعض" انَّ حجارته تُفَكَّك من مكانها لاستعمالها، عند الحاجة، لبناء أو دعم المدرّجات (جلّ).
2- محبسة مار سركيس
عبارة عن كنيسة صخريّة وعن يقايا صومعة في وسط جُرُف يقع الى الجنوب من دير مار أبون.
تقع الكنيسة في جُرُف داخل تجويف طبيعي، أُقيم على واجهته (التجويف) جدار مبني بحجارة شبه منحوتة ومطلية بطبقة من المِلاط الجَصّي. يحوي هذا الجدار من الجهّة الجنوبية مدخل الكنيسة، ومن الجهّة الشمالية، شرقيّة ربع كروية عقدها مكسور؛ يُشاهد في وسط الشرقيّة وعلى امتداد أُفقي متَّكأ او إفريز.
يشكّل السقف الطبيعي للتجويف الصخري سقف الكنيسة، وتشاهد في الداخل مشكاتين أو كوّتين غير نافذتين حُفِرَتا في الصخر.
تقع صومعة مار سركيس بالقرب من الكنيسة (الى الجنوب منها) في جُرُف صخري علوه حوالي 50م، وهي كناية عن بقايا لبناء داخل تجويفين قليلي العمق ومتوازيين (الواحد يعلو الثاني بحوالي المترين)، يعلوان المستوى الأرضي بحوالي 15م.
التجويف السُفلي، وهو الأهمّ، لا يتجاوز عمقه الحالي مترا" واحدا" ويحتوي على بقايا لحنيّة صغيرة مبنيّة بحجارة شبه منحوتة حيث يشاهد بقايا لمِلاط جَصّي؛ على ارضية هذا التجويف يوجد كِسَرٌ من الفخّار.
استكشفنا الصومعة بطريقة الهبوط على الحبال من أعلى الجُرُف حتى التجويف لاستحالة التسلّق نتيجة تفتُّت الصخر، الأمر الذي يُفَسّر الحالة الحاضرة للمكان.
الحالة الحاضرة
قام أحد أعضاء الجمعية (وهو جيولوجي) بمُعاينة الموقع وبقايا الصومعة بنوع خاص، وسجّل الملاحظات التالية:
1- الصخر مفتت ومفسّخ، وبالتالي معرّض للانهيار نتيجة عوامل جيولوجيّة مختلفة كزلزال او هزّة أرضيّة، او نتيجة مرور الزمن.
2- حصل شيء ما في هذا الجُرُف وكأنَّ البناء قد انشطر الى قسمين، قسم انهار وقسم بقي لوجوده داخل التجويف؛ والقسم الذي انهار، وهو الأكبر، كان مبنيّا" بالتأكيد على نُتوء صخري (على شكل لسان وربّما كان يشبه النُتوء المبنيّة عليه كنيسة دير مار  جرجس بقرقاشا)   .
3- تأكيدا" على الملاحظة السابقة تُشاهد علامة واضحة في الجُرُف، على شكل شقّ أُفُقي، تقع على الحافَّة السفليّة للتجويف (حيث بقايا  الصومعة).
الظاهر انَّ انهيار الجُرُف ومن ثم الصومعة تسبّب في مقتل أحد الحبساء؛ هذه الحادثة ذكرها الاسقف جبرائيل ابن القلاعي بطريقة أخرى كما سنرى.
وادي قزحيّا
30- المغاور المحيطة بدير مار انطونيوس قزحيّا:.استُكشِفت.
31- مغارة بلعيص والكهوف المحيطة بها.
تقع مغارة بلعيص في الجُرُف الصخري قبالة قمّة مدينة الراس حيث يوجد آثار، أغلب الظن انها تعود الى الفترة الرومانية؛ هذا الجُرُف يعلو الطريق المنحدر من عربة قزحيّا الى دير مار انطونيوس قزحيّا.
قبل الوصول الى الدير بحوالي الخمسماية متر، يبدأ الصعود القاسي والشديد الإنحدار بمحاذاة مجرى مياه موسميّة، باتّجاه شمالي شرقي حتى أسفل الجُرُف، ومن ثم الى ممر أُفقي  (Traversée) عبر الصخور المؤدّية الى المعبر الوحيد الذي يسمح بالولوج الى المستوى السفلي للمغارة. هذا الممر الصعب يتألّف من درجات حُفِرت في الصخر بطريقة غير متقنة، مما يؤكّد ان هذه المغارة، التي جعلتها الطبيعة حصنا" منيعا"، كانت فيما مضى ملجأ لجماعات عاشت واختبأت فيها.
المستوى السفلي للمغارة عبارة عن تجويف صخري له فتحة واسعة تُشرف على كامل وادي قزحيّا تقريبا"؛ يحتوي هذا الملجأ على بعض الكِسَر الفخّارية.
ليس لهذا المستوى ايّة أهمية سوى انه يحتوي على فتحة في السقف هي الممر الوحيد الذي يؤدّي الزاميا"، وبطريقة التسلّق(49)، الى المستوى العلوي، وهو الأهم في هذا الحصن الطبيعي.
المستوى العلوي يتألّف من قسمين:
القسم الأول عبارة عن تجويف تشاهد في وسطه فتحة طبيعية زادت عليها يد الانسان، فحفرتها ووسّعتها على شكل مربّع تسهيلا" للدخول الى المغارة الأساسيّة.
القسم الثاني أو المغارة الأساسيّة كناية عن قاعة طبيعيّة كبيرة ومتشعّبة (راجع الرسم التخطيطي).
الملفت للنظر هي كِسَر الفخّار المنتشرة على أرض المغارة؛ قسم من هذه الكِسَر يرجع الى العصور الوسطى (ق 13-14م)، والقليل منها الى الفترة الرومانية.
هذه المغارة تشبه بموقعها، الى حد ما، مغارة عاصي الحدث في وادي قاديشا؛ فمغارة بلعيص تُعتبر حصنا" طبيعيّا" مُحْكم الدفاع، لا يمكن الاستيلاء عليه الاّ من خلال حصار طويل غايته استسلام سكّانها؛ فقط عند نفاد مؤنِهم.
بالقرب من مغارة بلعيص يوجد مجموعة من الكهوف، قمنا باستكشافها بأكملها (تسلّق صعب)؛ أيضا" استكشفنا الكهوف والمغاور التي تقع في الجُرُف فوق دير مار انطونيوس وتلك التي تحيط به (راجع لائحة المغاور المستكشفة في منطقة وادي قزحيّا).
32- مغارة القلانسيّة: تقع في أعالي وادي قزحيّا، في اسفل بلدة كفرصغاب. طابع استغواري.
33- مغارة مار بولا: تقع بالقرب من محبسة مار بولا. طابع استغواري.
34- هوةّ صليبا: تقع في مشمشيّا بالقرب من الطريق بين حوقا ودير قزحيّا. يبلغ عمق البئر (المغارة العاموديّة) من أسفلها الى أعلاها 77 مترا" (هابطات رائعة). طابع استغواري.
35- مغارة بنت الملك (سرعل): طابع استغواري.
منطقة بيت منذر
36- مغارة الدلماس
الموقع: تقع مغارة الدلماس في جُرُف صخري علوّه حوالي 100 متر يُعرف بشير الدلماس أو الدلماز. المغارة عبارة عن شقّ طبيعي ضخم علوّه 30م تقريبا"، وهو على شكل مُثلّث إتّجاهه نحو الشمال الشرقي؛ يحتوي الشقّ على رواق طبيعي، نُقِرت وهُيًئت فيه مجموعة من الحُجُرات والفجوات على شكل غُرَف، وبُنيت في وسطه عمارة مؤلّفة من عدّة مستويات. يوجد على جانبي الشقّ عدد من الثقوب المقدودة (ركائز لروافد خشبية)، والأدراج المحفورة في الصخر، والفتحات الموسّعة والمُدْمَجة في المجموعة المعمارية. في آخر الشقّ توجد مغارة صغيرة هي كناية عن رواق طوله حوالي 30م.
تكمن أهمية هذه المغارة أوّلا" في موقعها العاصي والإسْتراتيجِيّ، حيث تُشرف على القسم المتبقّي من طريق القوافل القديم (يقع تحت قرية بيت منذر) الذي كان يربط الساحل الطرابلسي مخترقا" جبال لبنان فالبقاع فدمشق(50)، الأمر الذي قد يفسّر الطابع العسكري لهندستها المعمارية، ولو البسيطة؛ وثانيا" لكونها الموقع العسكري الوحيد المتبقّي في جبّة بشرّي.
يصعب وصف ودراسة المستوى الارضي الخارجي للمغارة لوجود طبقة سميكة من زبل الماعز؛ أمّا بقية الموقع، فصعوبة لا بل استحالة الوصول اليه، بحكم علوّه، كانت السبب الاساسي في الحفاظ عليه(51)، وهذا ما سمح لنا بالقيام بدراسة أوّلية له.
وصف الابنية الجوفيّة
القسم الأكبر منها كناية عن حصن معلّق داخل الشقّ يُشرف على الطريق المذكور؛ تّرتكز واجِهَته على عقد مكسور(52)، وبناؤه الداخلي على قبو اسطواني، والاثنان يستندان على جانبيّ الشقّ عن علو 8 أمتار من المستوى الحالي لأرض المغارة.
الواجهة: الحالة الحاضرة للواجهة جيّدة باستثناء القسم الأعلى المنهار، وهي كناية عن حائط ضخم يرتكز، كما ذكرنا، على عقد مكسور ويأخذ في شكل بنائه شكل الشقّ الطبيعي للمغارة؛ نشير الى أنَّ الواجهة مطلية بطبقة من المِلاط الجَصّي(53). العلو الاجمالي لهذه الواجهة 14م تقريبا" (من نقطة انطلاق العقد حتى القسم الأعلى للواجهة)، ومن حيث نوعية البناء، فالعقد كما الحائط، مبنيان بحجر رملي(54) منحوت مستطيل الشكل (ط 40سنتم، ع 20سنتم، إ 20سنتم)؛ سماكة حائط الواجهة تساوي 40سنتم تقريبا" لوجود صفّين متساويين من الحجارة المنحوتة على مستوى كل مدماك. أمّا المِلاط المستعمل لتثبيت الحجارة، فكناية عن مزيج من الكلس والفحم والحصى.
في هذه الواجهة يوجد عدد من النوافذ والفتحات على مستويات مختلفة، حيث تشاهد في المستوى الأوّل نافذة كبيرة مستطيلة في وسط الحائط، وهي تعلو عن مفتاح العقد 40سنتم تقريبا"، بطول 3 أمتار وارتفاع مترا" واحدا"؛ المُلفت ان المستوى الاسفل لهذه النافذة يحاذي مستوى الأرضيّة للقاعة الاساسيّة (المرصوفة بالبلاط) في البناء الداخلي. في المستوى الثاني للواجهة يوجد فتحة بشكل كوّة رمي (ط 20سنتم، إرتفاع داخلي 40سنتم، خارجي 20سنتم) وهي تعلو النافذة الكبيرة من الجهة الشرقية 20سنتم تقريبا". في المستوى الثالث
يوجد ثلاث نوافذ متساوية الحجم (ط 20سنتم، إ 100سنتم). في المستوى الرابع يوجد فتحة مشابهة تماما" من حيث الشكل والحجم لتلك الموجودة في المستوى الثاني (كوّة رمي)؛ أمَّا المستوى الأعلى والأخير للواجهة فهو منهار كلّيا".
فيما يتعلّق بالفتحات التي على شكل كوّات الرمي، فوجودها بالقرب من نوافذ واسعة، واتّجاهها نحو الدرب الوحيد المؤدّي الى الموقع، يُؤكّد انَّ استعمالها كان لغاية عسكرية وهذا أمرٌ محيّرٌ، فصِغَر حجمها يجعل من المستحيل استعمال القوس ورمي السهام منها. فهذه الفتحات تدل على أنّها كوّات رمي لأسلحة نارية.
2- البناء الداخلي: هو كناية عن قاعة ضخمة اساسية تستند على ظهر القبو الاسطواني الذي يشكّل بالنسبة الى القاعة أرضيتها المرصوفة بالبلاط؛ يشكل جانبا الشقّ مع الواجهة جدران القاعة، أمّا امتداد التجويف الصخري افقيا" فوق القاعة فيشكّل شقفا" طبيعيا" لها (تجدر الاشارة الى انّه استعمل الحجر الكلسي في هذا البناء). كان الوصول الى هذه القاعة يتم من المستوى الأرضي عبر درج محفور في الصخر، وروافد خشبية لا تزال تشير اليها عدد من الثّقوب المحفورة بشكل مربّع، انّ علو هذه القاعة (6 أمتار تقريبا") وتوزّع النوافذ والفتحات في الواجهة على مستويات مختلفة، وبقايا ثّقوب مقدودة لجسور وروافد خشبية في وسط جدرانها الصخرية، تفرض وجود طابقين او أكثر في داخلها.
على علو 3 أمتار من سقف القاعة الصخري، يوجد حجرة مستطيلة كان الوصول اليها يتم عبر درج لم يتبقَّ منه الاّ القسم الأعلى المحفور في الصخر؛ هذه الحجرة التي تشكّل الجزء الأعلى للبناء محفورة بأكملها في الصخر، ما عدا جهّتها الشرقية (المستوى الأعلى المنهار من الواجهة الأساسية)؛ فاذا بنا أمام جدران صخرية (داخل الحُجرة) قويمة، تشكّل زوايا مستقيمة، وسقفا" صخريّا" مسطّحا" كليّا". جميع هذه الأقسام مغطّاة بطبقتين من المِلاط الجَصّي الذي أصبح لونه أسود، ربّما بفعل حريق.
لهذه الحجرة أهمية أثرية اذ يوجد في أرضيّتها، في الزاوية الجنوبية، تنّور قطره مترا" واحدا" وما تبقّى من ارتفاعه نصف متر؛ وقد وجدنا بجانبه كِسَرا" لبعض الأواني الخزفيّة المطليّة والتي يمكن تأريخها ما بين القرن 13م و 14م. كذلك عثرنا على قطعة خشبيّة محزّزة، ونبلة  (حديدية)، وخِرق من القماش من بينها واحدة مضلّعة(55).
3- أمّا القسم المتبقّي للأبنية الجوفيّة فكناية عن خزّان لتجميع المياه وعن مجموعة من الحُجُرات المحفورة والمُغلقة بجدران من الحجارة المنحوتة بطريقة غير متقنة.
الخزّان: مؤلّف من حجرة مربّعة الشكل قسم منها محفورٌ في الصخر، والقسم الآخر مبني بحجارة منحوتة بغير اتقان؛ سقفه مبني على شكل قبو اسطواني تتوسّطه فتحة. تُشاهد على ارتفاع 5 أمتار من سقف الخزّان، حجرة صغيرة معدّة لاستقبال مياه الأمطار عبر قنوات محفورة في الصخر، حيث يتم تجميع المياه وجرّها في قسطل من الفخّار الى الفتحة الوسطية في سقف الخزّان.
الحُجُرات: لم يبقى من هذه الحُجُرات سوى اثنتين بحالة جيّدة، تقعان في آخر الشقّ على ارتفاع 5 أمتار، وهما كناية عن غرفتين صخريَّتين مُغلقتين بحائط مبني بحجارة منحوتة.

قْنَيِور
37- مار يوحنا (القحافي) ومار ضوميط: ديران أثريّان.
لم نأتِ في هذه اللائحة على تعداد مجمل الكهوف والتجويفات التي زرناها في منطقة قاديشا خلال السنوات العشر، أي منذ تأسيس الجمعية؛ فقد اكتفينا بتلك التي اعتبرناها جديرة بأن تُزكر لأنَّ هدفنا من هذه اللائحة كان فقط ابراز المغاور التي تحتوي على قيمة أثريّة أو استغواريّة، دون باقي التجويفات المنتشرة في انحاء المنطقة والتي تعد بالمئات(56).
قبل مدّة قصيرة من طبع هذا العدد، عثر أعضاء من الجمعيّة (بولس الخواجة وشقيق غزالة) على مجموعة من المغاور والهوّات ذات الطابع الاستغواري والمتقاربة بعضها من بعض، في مكان تابع لمنطقة قاديشا؛ إحدى الهوّات تحوي في داخلها على مدافن (بقايا عظام وجماجم بشريّة) والتي تُعتبر نادرة، لكون هذه المدافن تقع داخل هوّة وليست داخل مغارة.




































محاضرة الأب الياس حنا







وادي قاديشا والبطريركية المارونية








الأحد 12 تموز 1998


مقدمةّ عامة
بين الوادي المقدّس والبطريركية المارونية تاريخ مشترك، يمتدّ على مدى ثلاثماية سنة تقريبا". وهذا التاريخ المشترك ينقسم الى حقبتين من الزمن : الحقبة الأولى تمتدّ من سنة 1445 الى سنة 1733 ، والحقبة الثانية من سنة 1811 الى سنة 1822 .
وإذا كان وادي قنوبين قد عرف بوادي قاديشا ، أو وادي القديسين ، نسبة لكثافة النسَاك والذهاد الذين قطنوا مغاوره ، على مدى التاريخ ، فإنه يستحق أن يدعى أيضا" وادي البطاركة ، باعتبار ان عشرين بطريركيا" مارونيا" جعلوه مقرّا" لهم ، على مدى ما يقارب ثلاثماية سنة من تاريخ الكنيسة المارونية ، الذي يمتد على مدى ما يقارب خمسة عشر قرنا" .
لم يكن البطاركة الموارنة ليحوّلوا وادي قاديشا مقرا"لسكناهم ، على سبيل الصدفة ، أو بطريق العرض.
بل اختاروه كرسيا" لما يحمل تراث قداسة ، خاصة وأن حياتهم وحياة اساقفتهم ، كانت أقرب الى حياة النساك والذهاد منها الى حياة أمراء في الكنيسة.
إن علاقة البطاركة بوادي قاديشا، وتسليط الأضواء على حياتهم، لأمر جدير بلاهتمام والدراسة والبحث. وما نستعرضه، في حديثنا اليوم، عن هذه العلاقة ، ليس إلا مجرّد محاولة أولى وفريدة من نوعها ، في هذا المجال ، على ان نستكمل بحوثنا في المستقبل ، من أجل الكشف عمّا تخبئه هذه العلاقة من كنوز التقليد الماروني على الاصعدة كافة . فاجيالنا الطالعة التي باتت تعاني من انقطاع مع جذورها ، باتت بحاجة الى العودة الى الينابيع، لتستمدّ منها صمودا" وايمانا" وثباتا" في مسيرتها، على ابواب الألف الثالث لتجسد المسيح .
الوادي المقدّس هواكثر من مكان، واعظم من طبيعة، إنه مدرسة في الاصالة، وقيمة روحية وانسانية: صخوره مناكب الجبابرة ، ومنحدراته أذرع المصلين ترتفع الى فوق لتحتضن زرقة السماء ، مغاوره قلوب تخبئ  اسرار معاناة انسانية عميقة ، روائح زهوره عبير عرق العافية والتعب ، حذير مياهه اهاذيج فرح ، بقايا بيوته ومعابده آثار أقدام الذين وطئوا الموت في مسيرة القيامة . الوادي يتكلّم ، فمن له إذنان سامعتان فليسمع !
الوادي المقدّس هو صورة البطريركية المارونية ورمذها ، وليس فقط مقرّا" من مقراتها . لقد عُرفت به ، أكثر ما عُرفت بباقي مقرّاتها في كفرحي ويانوح وايليج وبكركي . فعندما تغطي غبار الزمن محياها ، وتحفر تقاسيم التاريخ وجهها ، لا بدّ لها من العودة اليه ، تستعيد نضارتها ، وتقوم خطواتها ، وتستلهمه حقا" ورجاء وقوة على الصمود والثبات .
نتوقف في دراستنا وادي قاديشا والبطريركية المارونية حول العناوين التالية :
_ انتقال البطريركية المارونية الى وادي قاديشا .
_ البطاركة الذين قطنوا الوادي المقدّس .
_ حياة البطريركية المارونية في وادي قنوبين .
_ وادي قاديشا مصدر التحولات الكبرى في تاريخ الموارنة .

البحث الاول: انتقال البطريركية المارونية الى وادي قاديشا
لقد اشرنا في مقدّمة بحثنا عن الاسباب البعيدة لانتقال مقرّ البطريركية المارونية من سيدة ايليج ودير سيدة ميفوق الى وادي قاديشا . أما الاسباب القريبة ، فهي شدّة الاضطهادات التي عاناها البطريرك الماروني في وادي ايليج ، واضطراره للانتقال الى وادي قاديشا ، حيث أمّنَ حماية طبيعية وبشرية .
1_ تجديد علاقات البطريركية مع الكرسي الرسولي ( ا )
يعود الفضل الى البطريرك يوحنا الجاجي بإعادة العلاقات الى سابق عهدها ، بين البطريركية المارونية والكرسي الرسولي . هذه العلاقات حافظ عليها الموارنة حفاظهم على حدقة عينهم ، وذلك بسبب شراكتهم الايمانية مع البابا ، خليفة بطرس هامة الرسل ، وخضوعهم له . وبسبب هذه العلاقات عانى الموارنة الأمرّين ، من الهراطقة من ناحية ، ومن الحكام المدنيين من ناحية ، الذين اعتبروا بأن العلاقة بروما هي بمثابة عداء لهم ، خاصة بعد الحملات الصليبية التي نظمتها الباباوية ، في القرون الحادي والثاني والثالث عشر ، من أجل تحرير الاراضي المقدّسة من يد المسلمين وسيطرتهم. ( 2 )
عرفت هذه العلاقات أوجها ، في فترة الحروب الصليبية (القرون 11 و12 و13) وخاصة في أيام البطريرك ارميا العمشيني(1199_1230)، وبدأت تتراجع بعد نهاية الحملات الصليبية (1095_1291 )، حتى تسلم البطريرك يوحنا الجاجي زمام الكرسي البطريركي وحاول إعادة هذه العلاقات الى سابق عهدها ، رغم الصعوبات التي واجهها مع ولاة الدولة العثمانية الحاكمة .
وقد تمثّلت عودة هذه العلاقات ، بدعوة البابا اوجانيوس الرابع ( 1431_1447 )  البطريرك يوحنا الجاجي للمشاركة في أعمال مجمع فلورنسا الذي انعقد سنة 1431 ودامت اعماله حتى سنة 1443 . ( 3) وبسبب عدم تمكن البطريرك من السفر للمشاركة في اعمال المجمع ، لكثرة الاخطار المحدقة بالمسافرين بحرا" ، والتي كان يشكلها القراصنة ؛ وبما أن الكنيسة المارونية كانت تفتقد لمن يتكلّم اللاتينيةوالايطالية، أوفد البطريرك الأب جوان رئيس رهبان القديس فرنسيس في القدس الى البابا، ليطلب درع التثبيت في الرئاسة ، ويقدم عريضة رفعها البطريرك والاساقفة واعيان البلاد ، يؤدون فيها خضوعهم وتسليمهم المطلق لكلّ ما يسنّه المجمع . ( 4 )
2_ سجن موفد البطريرك في طرابلس ومذابح وادي ايليج ( 5 )
عندما رجع الأخ جوان الفرنسيسكاني ، موفد البطريرك ، الى بيروت ، وانتقل الىطرايلس ، انحدر الموارنة للقائه ، فعلم نائب طرابلس فبعث خبرا" قبضوا عليه وعلى رفاقه ، مدعيا" بأن مجمع فلورنسا ، انما يهدف الى توحيد المسيحين ، من أجل استرجاع بلاد الشام من يد الاسلام . وقد اعتبر الحاكم العثماني الأخ جوان جاسوسا" ، بين الغرب والموارنة ، فسجنه .
تناتأ الخبر الى البطريرك الذي كان مقيما" في دير سيدة ميفوق ، فأرسل بعض أعيان الطائفة ، بهدف تبديد مخاوف حاكم طرابلس ، وفك أسر الموفد البطريركي مقابل مبالغ من المال . فما كان من الحاكم إلا أن أطلق سبيل الأخ جوان ومرافقيه ، ولكنه اشترط عليهم الرجوع إليه ، بعد قضاء مهمتهم الدينية لدى البطريرك ولدى وصول الأخ جوان الى ميفوق استقبل بالحفاوة والترحاب الكبيرين ، وجرت مراس تتويج البطريرك ، وتسليمه درع التثبيت . ثم عاد الوفد الروماني الى بيروت بدل أن يعود الى طرابلس طبقا" لشرط حاكمها عندما أخلى سبيلهم ، فحنق حاكم طرابلس ، وأرسل جندا" يطلبون البطريرك ، وعندما لم يجدوه ، نهبوا بيوت ميفوق ودمّروها وقتلوا من فيها ، وقتلوا عددا" من الرهبان والاساقفة ، وسلم البعض الآخر الذي هرب واختبأ قبل وصول الجنود .
3 _انتقال الكرسي البطريركي الى وادي قايشا ( 6 )
على أثر المجازر التي وقعت في وادي ميفوق ، قررّ البطريرك يوحنا الجاجي الانتقال من ميفوق إلى دير قنوبين ، حيث كان الأمن سائدا" . وقد رافقه بعض الأساقفة ، وبعض من عائلة جعجع من جاج ، واضعا" نفسه تحت حماية والدة الإله . وقبيل وصول البطريرك وحاشيته الى دير السيدة في قنوبين ، انتقل رهبان هذا الدير الى دير مار انطونيوس قزحيا ، ليفسحوا في المجال والمكان للبطريرك واساقفته وحاشيته . وكان البطريرك يختبئ خلال النهار في مغارة بعيدة عن مقرّه ، صعبة المنال ، خوفا" من العساكر الاسلامية .
وكان البطريرك في وادي قاديشا تحت حماية المقدّم يعقوب البشراني ، الذي نصبه الملك الظاهر برقوق مقدما" على بشري ، فحكمها من سنة 1382 حتى سنة 1444 ، تاريخ وفاته وانتقال البطريرك الى وادي قايشا .

البحث الثاني: البطاركة الذين قطنوا الوادي المقدّس
بقي دير سيدة قنوبين مقرا" بطريركيا على مدى ثلاثماية سنة ، خلال حقبتين من الزمن : الأولى من سنة 1444 حتى سنة 1733 ، أي حوالي 289 سنة ؛ والثانية من سنة 1811 حتى سنة 1822 ، أي حوالي 11 سنة . فيكون مجموع السنوات التي استقرّ فيها البطاركة في وادي قاديشا ، نحو 300 سنة .
وقد بلغ عدد البطاركة الذين قطنوا دير السيدة في وادي قاديشا 20 بطريركا" ، دُفن منهم 17 بطريركا" في مغارة القديسة مارينا ، المجاورة للمقرّ البطريركي في وادي قاديشا .
نحاول ، في بحثنا أن نسلّط الضوء باختصار ، على كلٍ من هؤلاء البطاركة ، متوقفين حول مزايا وصفات واعمال كلٍ منهم .

1 _ الحقبة الأولى ( 1444 _ 1733 ) ( 7 )
عرفت الكنيسة المارونية ، خلال هذه الحقبة من الزمن تحولات كبرى في تاريخها ، وذلك بفضل بطاركتها العظام الذين تعاقبوا على رعايتها .

- البطريرك يوحنا الجاجي ( 1404 _ 1445 )
ولد هذا البطريرك في جاج ، ولمّا شبّ احبت نفسه النسك والزهد ، فترهّب في دير مار ضومط في اعالي بلدة جاج ، فعُرف بتقواه وصلاحه ، فسيم كاهنا" ثمً أسقفا" . وانتخب بطريركا" ، في دير سيدة ميفوق سنة 1404 ، خلفا" للبطريرك داوود ( 1367 _ 1404 ) .
نقل البطريركية الى وادي قاديشا . واعاد العلاقات بين البطريركية والكرسي الرسولي . وقد كان رجلا" فاضلا" جدّا ومشهورا" بتقواه وقداسته ، وهو من اعظم بطاركتنا ، وقد ساس الطائفة المارونية بكلّ حكمة وغيرة ، وجنبها الاضطهادات ، وصان ايمانها وامانتها .

_ البطريرك يعقوب عيد الحدثي ( 1445  _8   14 )
لا نعرف عنه الشيء الكثير . تم انتخابه في دير سيدة قنوبين بعد تسعة أيام من وفاة يوحنا الجاجي سنة 1445 . تلقى رسالتين من الكرسي الرسولي عن ثبات الموارنة في الايمان المستقيم ، سنتي 1447 و 1455

_البطريرك يوسف بن حسان الحدثي ( 1468 _ 1492 )
وهو يوسف ( الثاني ) بطرس بن يعقوب الشهير بابن حسان من بلدة الحدث في الجبة . تم انتخابه في دير قنوبين ، وارسل الاب غريفون الفرنسيسكاني الى البابا بولس الثاني لالتماس درع التثبيت . فأنعم عليه الحبر الأعظم بهذا الدرع ، وبعث اليه برسالة في 5 آب 1469 ، وهدايا ثمينة .
وما اشتُهر عن هذا البطريرك انه باع آنية الكنائس وتبرّع بمداخيل الكرسي البطريركي لدفع الضرائب للمماليك عن فقراء الكنيسة .
وفي أيامه شز المقدم عبد المنعم مقدّم بشري عن الايمان الكاثوليكي ، واعتنق معتقد اليعاقبة . فاضطهد البطريرك والاساقفة والرهبان والكهنة والمتنسكين في جبل لبنان . (8 )

_ البطريرك سمعان بن حسان الحدثي ( 1492 _1524 )
هو ابن شقيق البطريرك يوسف السابق ذكره . عاش في دير قنوبين وتوفي فيه . وفي أيامه بدأ الحكم العثماني مع السلطان سليم الأول على سلطان المماليك سنة 1516 ، وقد اعفى البطريرك من الفرمان السلطاني ، ووهب أمراء جبل لبنان حرية واستقلالا" .
وفي ايامه انتصر الاهدنيون على المقدّم عبد المنعم الذي شاء أن يستولي على عدد من الاديار ، في بلدة تولى ، في سفح جبل سيدة الحصن .
وفي أيامه ايضا" بدأ المؤرخ الكبير جبرائيل ابن القلاعي اللحفدي يعظ ويرشد في الكنائس والقرى ، من أجل القضاء على اليعاقبة .

_ البطريرك موسى سعاده العكاري ( 1524 _ 1567 )
عاش وتوفي في دير قنوبين ، وهو بلدة البارده في بلاد عكار . كان راهبا" في دير سيدة حوقا . قال عنه السمعاني في مؤلفة المكتبة الشرقية ما نصّه : " انه كان ذا عبادة جذيلة ، وعنيدة متعقدة ، واهتمام كبير بأملاك البطريركية …" . ( 9 )
في أيامه اعترف السلطان العثماني باستقلال الموارنة النوعى، عقب ارسال البطريرك الاب انطون الحصروني لمقابلة السلطان سليمان خان الغازي .
وقد كتب هذا البطريرك الى الامبراطور شارل كان ، يدعوه لانقاذ الموارنة من ايدي العثمانيين . ووعده بوضع خمسين الف مقاتل ماروني بتصرفه .
وفي ايام هذا البطريرك انتشر الدروز في مناطق الشوف والمتن ، وأقاموا علاقات صفاء ومودة مع الموارنة ؛ واخذ الفلاحون الموارنة ينزحون من الشمال الى الجنوب .
وقد شخص البطريرك موسى بنفسه الى القدس الشريف ، وتداول مع رئيس الرهبان الفرنسيسكان ، بشأن ارسال علماء من رهبانيته لتدريس العلوم الفلسفية واللاهوتية في مدارس لبنان.

_ البطريرك مخايل الرزي البقوفاوي ( 1567 _ 1581 )
كان حبيسا" في محبسة مار بيشاي التابعة لدير مار انطونيوس قزحيا ، الذي رئيسا" عليه ، وهو من قرية بقوفا ، وقد اعتزل رئاسة الدير طلبا" للوحدة والزهد . وعندما تم انتخابه بطريركا" ، رفض تواضعا" ، لكنه نزل عند دعوة الروح القدس ، وقبل المهمة .
تميز مخايل الرزي بروح طيّبة وقداسة وتجرّد واندفاع في عمل الخير ، وقد اشتهر بفن الخطّ ، وله مخطوطات في مكتبة حلب المارونية ، مثل اعمال الرسائل ورسائل القديس بولس .
وفور انتخابه جاءت العساكر العثمانية ، واحتلت الكرسي البطريركي في قنوبين ، ونهبوها . فاضطر البطريرك لارضائهم بشيء من المال ، وقد تأخر تثبيته مدة سنة ، بسبب تأخر موفد الى البابا ، وما زاد من هذا التأخير هو اتهامه باتباع مذهب اليعاقبة . فما كان من الكرسي الرسولي إلاّ أن اوفد الراهب اليسوعي جوان باطشتا اليانو يرافقه الاب توما برون ، فوصلا جبل لبنان في ربيع سنة 1578 .
من الاحداث التي جرت في ايام هذا البطريرك نذكر :
- القصادة الرسولية الاولى (1578 _ 1579 ) والثانية ( 1580- 1582 )، برئاسة الاب اليانو، الذي احرق كثيرا" من الكتب.
- طلب انشاء مدرسة مارونية في روما ، سنة 1854.

- البطريرك سركيس الرزي البقوفاوي ( 1581 _ 1597 )
هو سركيس بن يوحنا الرزي من قرية بقوفا ، وشقيق البطريرك مخايل ، وخليفته في محبسة ماري بيشاي في وادي قزحيا ، وعلى الكرسي الانطاكي . في اليوم التاسع لوفاة أخيه ، تم انتخابه ، بحضور الموفدين البابويين اليانو وبرونو اليسوعيين ، ومما حدث في ايامه :
- ارسل 30 شابا" لاقتباس العلوم في روما على دفعتين .
- في ايامه تم افتتاح المدرسة المارونية في روما سنة 1584 ، على يد البابا غريغوريوس الثالث عشر
- ظهور الأمير فخر الدين المعني الثاني الكبير(1590- 1635) ( 10 )
- ارسال الأب جيروم دنديني الى جبل لبنان لفحص ايمان الموارنة ، سنة 1596 . وكتب هذا  الاخير رحلته في كتاب ، وتم انعقاد المجمع في ايلول سنة 1596.

_ البطريرك يوسف الرزي البقوفاوي ( 1597 _ 1608 )
هو ابن موسى الرزي شقيق البطريركين مخايل وسركيس . انتُخب بطريركا" بعد مرور تسعة أيام على وفاة عمة البطريرك سركيس . في 4 تشرين الأول سنة 1597 .
ولم يشأ القاصد الرسولي دنديني التدخل في انتخاب بطريرك . وقد كان يوسف رئيسا" لمحبسة دير مار انطونيوس قزحيا . ومما قام به هذا البطريرك: السعي لتطبيق توصيات وأوامر المجمع المنعقد سنة  1596.
في أيامه بدأت الكنيسة المارونية تتبع التقويم الغريغوري 1606.
ربطت هذا البطريرك صداقة مع يوسف باشا سيفا ، فساعده على تدبير الكنيسة ، وصدّ المعادين له       ومن مآثر هذه العلاقة أن البطريرك نهى احد خدام يوسف باشا عن زواج غير شرعي ، فأبى الطاعة للبطريرك ، فرشقه بالحرم فمات حالا" .
أباح للأساقفة أكل اللحم وللمؤمينين أكل السمك وشرب الخمر في الصوم الكبير.
أباح لدروز البياضة في العرقوب بالتظاهر بالنصرانية.
إزدهار الحياة الرهبانية في عهده وعهد عمّيه البطريركين السابقيّ الذكر.
في أيامه بدأ البطاركة الموارنة  يطلبون من البابوات إرسال رهبان أجانب لإفتتاح المدارس في جبل لبنان سنة 1543.
_ البطريرك يوحنا مخلوف الأهدني (1608 – 1633)
تمَ إنتخابه بطريركا بعد سبعة أشهر من وفاة سلفه، وذلك بسبب حبور الحكام،والفتن التي عمت البلاد، وذلك في 16 تشرين الأول من سنة 1608 .
كان هذا البطريرك كريم الأخلاق ، حكيما" ، فطنا" ، كثير الشفقة على الفقراء والمساكين ، ذا قلب طاهر ، قاسيا" على نفسه ، شغوفا" على غيره . وكان مسموع الكلمة لدى الباب العالي ، ويأتمر بأمره الحكام . ولم يكن يتمتع بثقافة عالية ، إلاّ أنه كان رجل خير وتفكير سليم واحلاق حلوة وثابتة وتقوى عميقة وفاعلة وعزم أكيد على مقاومة كلّ العقبات . وقد تلألأت به أنوار الفضائل فتسامى بها حتى لُقب بالقديس …
من مآثره ، أنه رشق الشدياق خاطر الحصروني بالحرم بعد ان تسبب بنزوحه الى الشوف ليكون تحت حماية الأمير فخر الدين المعني الثاني ، فطلب اليه أن يحوّل الحرم عن الشدياق خاطر ، فحوله على الضخرة ، فانشقت الصخرة لساعتها ، وهي صخرة فوق الحدث ، تدعوها العامة المحرومة .وكان يشفي المرضى واصحاب العاهات لمجرّد وضع يده عليهم .
توفي في كفرزينا، ونُقل ليلا" الى قنوبين في 15 كانون الأول سنة 1633 .
تميزت أيام رئاسة هذا البطريرك بالمآثر التالية :
_ربطته علاقة وطيدة بالامير فخر الدين الثاني ، حتى أن هذا الأمير طلب اليه ارسال المطران جرجس عميره الاهدني سفيرا" له ، الى روما وتوسكانا ، لارسال جيوش لتحرير الاراضي المقدسة . وقد استقدم الأمير بواسطة البطريرك والعلماء والمهندسين والمرسلين الى لبنان ، للتعليم والتصنيع والتبشير .
_استقدم أول مطبعة في الشرق الى دير مار انطونيوس قزحيا سنة 1610 .
_اسس أول معهد اكليريكي في الكنيسة المارونية سنة 1624 في دير سيدة حوقا ، بادارة الآباء الفرنسيسكان. وكان المعهد يدرّس سبع لغات.

_ البطريرك جرجس عميره الاهدني ( 1633 _ 1644 )
هو جرجس بن مخلوف بن عميره الاهدني، أوّل بطريرك من تلامذة المدرسة المارونية في روما، ومن تأليفه: عزمطيق سرياني- لاتيني وتآليف في هندسة الابنية والأبراج  سمّاه البابا اوربانوس الثامن(1623- 1644) "نور الكنيسة الشرقية" ومن مآثر عهده :
_ساعد الأمير فخر الدين الثاني الكبير في القضايا العمرانية .
_في ايامه تمّ انشاء مدرسة للموارنة في مدينة رافنا في ايطاليا ، بين سنتي ( 1639 _ 1668 )

_البطريرك يوسف ابن حبيب العاقوري ( 1644 _ 1648 )
انتُخب بطريركيا" في دير قنوبين ، لكنه دُفن في كنيسة العاقورة مسقط رأسه كان . متزوجا" قبل ارتقائه الى الدرجات المقدسة ، وهو المطران بطرس اسقف العاقورة. ومما قام به هذا البطريرك:
_ تأسيس دير مار يوحنا حراش .
_ اقامة مجمع بيعي في دير حراش سنة 1644 .
_ ألفّ عزمطيقا" سريانيا"، واشعارا" عامية وزجليات .

_ البطريرك يوحنا الصفراوي ( 1648 _ 1656 )
هو يوحنا من بيت البواب من بلدة الصفرا والمعروف بالصفراوي .
كان هذا البطريرك رجلا" طاهرا" ، لا غش فيه ، صاحب قناعة ورضى وبشاشة لا تعرف الكدر ، وقد ربي منذ صباه بالتقوى والسيرة النسكية حتى وصل الى اعلى مراتب الاتضاع ، وكان مدمنا على صلاة المسبحة وملازما" الصوم ، ودخل عليه يوما" مرهج بن نمرون الباني في منزل الشيخ ابي ياغي ابن حبيش في ساحل علما مساء، فوجده ملقى أرضا" ورأى النور خارجا" من وجههيضيء كل أرجاء المنزل، وقد ظهر هذا النور يوم وفاته.
في أيامه تجددت حماية ملك فرنسا للموارنة سنة 1649 .

_ البطريرك جرجس السبعلي ( 1657 _ 1670 )
انتُخب بطريركيا" في دير قنوبين ، لكنه توفي في دير ما شليطا مقبس ودُفن فيه .
_ البطريرك اسطفانوس الدويهي ( 1670 _ 1704 )
هو من سلالة آل الدويهي في إهدن ، وتلميذ المدرسة المارونية في روما . يعجز اللسان عن وصف مآثر هذا البطريرك . لقد آثر التعليم في جامعات الغرب ، واتى لبنان وافتتح مدرسة في بلدته لتعليم الأولاد . من مآثره :
_ مؤلفات عديدة تاريخية وطقسية : حوالي 18 مؤلف .
_ الاصلاح الرهباني سنة 1695 .
_ هرب من دير قنوبين بسبب جور الحكام سنة 1628 الى دير مار شليطا مقبس ، وعاد الى قنوبين سنة 1672 .
_ اشتهر بتكريس الكنائس : حوالي 24 كنيسة .

_ البطريرك يعقوب عواد الحصروني ( 1705 _ 1733 )
هو يعقوب ابن الخوري يوحنا عواد من بلدة حصرون ، وتلميذ المدرسة المارونية في روما . اُنزل عن كرسيه البطريركي سنة 1710 واختير مكانه الاسقف يوسف مبارك الريفوني ، لكن أعيد اعتباره سنة 1714 من قبل الكرسي الرسولي ، الذي اعتبر تنزيله باطلا", توفي في دير مار شليطا مقبس ودُفن فيه .
في أيامه أنشأ البابا اكليمنضوس الحادي عشر دير مار بطرس ومرشللينَس في روما للرهبان اللبنانيين.

_ البطريرك يوسف ضرغام الخازن (1733 _ 1742 )
انتخب بطريركيا" بالصوت الحيّ والاجماع ، ونال درع التثبيت سنة 1733 . وفي أيامه التأم المجمع اللبناني في سنة 1736 في دير سيدة اللويزة . ومعه انتقل البطاركة من سيدة قنوبين الى بلاد كسروان .

2 _  الحقبة الثانية ( 1811 _ 1822 )
امتدت هذه الحقبة مدة عشر سنوات ، وقد توالى خلالها على الكرسي البطريركي ثلاثة بطاركة ، هم :

_البطريرك يوسف التيّان ( 1796 _ 1820 )
هو يوسف التيّان من بيروت ، وتلميذ المدرسة المارونية في روما .
انتخب بطريركيا" في دير سيدة بكركي ، الذي كان قد تقرر أن يكون مركزا" بطريركيا" سنة 1809 . كان يرغب في النسك ، فتنازل عن البطريركية سنة 1809 ، وقضى باقي حياته في المحبسة الى أن توفاه الله في 20 شباط 1820 في دير سيدة قنوبين ، حيث كان قد قضى جزءا" من حياته فيه ، بعد ان قضى قسطا" منها في دير مار يوحنا مارون كفرحي .

_ البطريرك يوحنا الحلو الغسطاوي ( 1809 _ 1823 )
انتخب بطريركيا" في دير مار يوسف عينطورا ، بعد أن تنحى البطريرك يوسف التيّان ، سنة 1809 . وهو الذي انتقل الى دير قنوبين منذ سنة 1811 ، وأخذ في اصلاح املاكه وابنيته ، وهو ايضا" الذي حول دير مار يوحنا مارون في كفرحي الى مدرسة اكليريكية . ودفن في حائط كنيسة سيدة قنوبين .

_ البطريرك يوسف حبيش ( 1823 _ 1845 )
هو يعقوب ابن الشيخ جوان حبيش من ساحل علما. انتخبه الاساقفة بطريركيا" في دير قنوبين خلفا" للبطريرك يوحنا الحلو. انتخب في عمر 35 سنة .
في ايامه: أُنشئ نظام القائمقاميتين، وَوُضِع حدّ لوجود الاديار الرهبانية المزدوجة .

البحث الثالث: حياة البطاركة في وادي قاديشا
تميزت حياة البطاركة الموارنة في وادي قنوبين بالبساطة وسهولة العيش ، وقثف الحياة . وقد شارك البطاركة والاساقفة والرهبان ابناء رعيتهم حياتهم اليومية ، فلم يتميّزوا عنهم بشيء البتة . وهذا ما دفع بكثير من الرحالة لوصف حياة القداسة هذه .
نتوقف في بحثنا الثالث حول تاريخ دير سيدة قنوبين ، وحياة البطاركة والاساقفة والرهبان فيه ، وفي الوادي المقدس .

1 – دير سيدة قنوبين
إن دير سيدة قنوبين المعروف حاليا بالكرسي البطريركي طوال ثلاثماية سنة تقريبا" ، قد عرف تحولات واضافة في بنائه القديم .
وقد اختلف الباحثون والمؤرخون على زمن بنائه ، ومن بناه .
يعود بناء دير قنوبين ، على اغلب الظن ، الى أواخر القرن الرابع واوائل القرن الخامس . فمن المؤرخين من ينسْب تسييده الى الأمبراطور تاودوسيوس ( 379 _ 395 ) . (11) غير ان الاب لامنس اليسوعي يخالف المؤرخين رأيهم ، باعتبار أن لا اثبات تاريخي على ذلك . ويذهب الى الاعتقاد بأن باني دير قنوبين هو تاودوسيوس ( القرن 6 ) أحد كبار آباء النسك ، ويغلب الظن بأن هذا القديس زار لبنان في رحلته الى مقام القديس سمعان العمودي ، في جوار مدينة حلب ، وقد يكون أحد تلاميذ ثاودوسيوس ، الذين انتشروا في بلاد سوريا ، وبنوا الاديرة ، قد جاء جبل لبنان وبنى دير قنوبين . وما يجعلنا نعتقد ذلك ، هو أن الكنيسة المارونية تكرّم القديس تاودوسيوس تكريما" خاصا" ، وتعتبره بين مشاهير النساك . (12)
وقد عُرف الدير بدير قنوبين أي " الحياة الجماعة " لأنه ، على ما يبدو ، كان مقرّا" للحياة الرهبانية الجماعية منذ تأسيسه .

2- حياة البطاركة الموارنة في دير قنوبين
نقتصر في كلامنا على حياة البطاركة في قنوبين على مسكنهم ، لباسهم ، عملهم ، طعامهم وضيانتهم . ونستند في كلامنا على ما جاء في كلام شاهدي عيان زارا البطريرك الماروني في قنوبين هما الاب سلفستر دي سانت إنيون، الذي عاش 42 سنة في سوريا، ومات في حلب سنة 1670، والسائح الفرنسي الفارس لوران دارفيو. (13)

-صلاة البطريرك وقداسته
يقول الأب سلفستر : " قد تكون جرأة مني أن آخذ على عاتقي وصف حياة الحبر الجليل في ادق تفاصيلها، كما يقول المثل ، مع أنه كان من الأفضل أن أضع مقالة أوسع من هذه النبذة الصغيرة لأخبر عن اعماله البسيطة الدقيقة التي تعبق بالقداسة ، والتي تكفي في هذه الأصقاع ( اوروبا ) لتطويب واعلان قداسة من يقتدي بها . لذلك لن أقول إلا الشيء اليسير مما رأيت .
إنه مثال يُحتذى به أن نرى هذا الحبر الوقور…يحضر ليل نهار ، الاحتفالات الدينية ، ويرتل الفرض الالهي دون أن يجلس مطلقا" على كرسيه البطريركي ، بل يظل واقفا" ، كراهب بسيط ، مستندا" فقط على عكاز بشكل آ .

_ عمل البطريرك
ويتابع الأب سلفستر كلامه واصفا" عمل البطريرك :" وهذا الواجب ( الصلوات ) المقدس ومهامه الرعائية لا يمنعانه أبدا" من أن يقوم ، غالب الأحيان ، بأعمال يدوية كثيرة ، يجتهد أن يتقنها بعفوية ، تحمل مرؤوسيه الى الاقتداء التام بمثله لكي يحاربوا البطالة ، أمّ كل رذيلة ، ولكي يقوموا بأعمال مثمرة تؤدي الى تغطية النفقات المتوجبة على الطائفة ، بسبب تجنّي الاتراك عليها وجور الحكام لاذلالها ، وبمعنى أن حياته كلها هي عظة متواصلة ، ليس فقط لرهبانه ، بل أيضا" لرؤساء الأساقفة وللاساقفة الذين يعيشون دوما" بقربه…"

_ مسكن البطريرك
أما عن مسكن البطريرك ، فيقول الاب سلفستر :"…وإذا كان المرء فضوليا" ورغب مساعدة محلّ سكناه ، فأجيبه بأن له مسكنين : واحدا" في دير قنوبين حيث يعيش عادة في قلاية صغيرة ، عرضها حوالي ثمانية أقدام وطولها اثنا عشر قدما" ، ويرقد على سرير مؤلف من ألواح خشب بسيطة ، ويبقى من الغرفة رقعة صغيرة من الأرض تتسع لبسط حصيرة أو سجادة .
أما مسكنه الثاني ، فهو الجبال حيث يعتزل ليس سعيا" وراء الراحة والانشراح ، بل هربا" من الأتراك ؛ فإنه يختبئ من اضطهاداتهم له وملاحقتهم إياه ، في برّية تقع على مسافة يومين من مسكنه الأول ، سيرا" على الاقدام ، يصل اليها بعد أن يعبر الجبال الوعرة المرعبة. هذا هو المخبأ ، يعيش في إحدى زوايا كنيسة صغيرة لا تتسع لأكثر من خمسة اقدام عرضا" ولستة أو سبعة اقدام طولا" . جدران هذا المخبأ هو من الخشب المجبول بالطين، مدخله كثير الانخفاض وقليل العرض ؛ شبابيكه الصغيرة تنسجم والمبنى ككل ، لذلك قلما يدخلها ضوء النهار."

_ كسوة البطريرك والاساقفة
يقول السائح الفرنسي دارفيو الذي زار دير قنوبين سنة 1660 ، متحدثا" عن كسوة البطريرك والاساقفة ما نصّه :" يرتدي هذا الحبر ثوبا" بسيطا" للغاية مؤلفا" من قمباز خفيف القماش ، ويضع على رأسه عمامة ضخمة زرقاء مستديرة ومن نسيج القطن . كانت سابقا" بيضاء اللون ؛ وعندما استولى الحكم العثماني على البلاد أ‘جبر على اتخاذ العمامة الزرقاء لأن العمامة البيضاء كانت لباس المسلمين الخاص…"
إن الأحبار الموارنة كافة يعيشون حياة منضبطة جدا" وقشفة للغاية . إنهم يكتسون لباس الفقراء ، وليس لهم موارد سوى ما تعطيهم إياه الأرض ثمرة عملهم اليدوي . لا نرى عندهم مطلقا" أبّهة احبارنا في اوروبا . كلّ اوانيهم نظيفة وعليها مسحة الفقر ،
لأنهم لا يتحلون بالأقمشة المزركشة الغنية المطرّزة ، ولا بالذهب والفضة ، بل حليتهم الوحيدة هي الفضيلة ، لذلك فإن عصيهم من خشب واساقفتهم من ذهب . والجدير بالذكر أن جميع المسيحين يؤدون لهم الاحترام التام اللامتناهي والطاعة العمياء لكلّ ما يأمرن به ، ويقبلون أيدي رؤساء الاساقفة والكهنة وأقدام البطريرك…لأنهم يحترمونهم كآباء لهم ورؤساء . فنمط حياتهم هذا ، ومعاملتهم لرؤسائهم ، هما أمثولة لنا ولأمثالنا نحن الذين تحررّنا واعتمدنا نمط عيش لا يتلاءم تماما" مع ما تلزمنا به شرائعنا ."

_ طعام البطريرك ومائدته
ويكمل السائح دارفيو كلامه على طعام البطريرك ومائدته فيقول : "…توجهنا صحبة البطريرك الى قاعة كبرى هيأوا لنا فيها العشاء ، فرأينا كمية كبيرة  من اللحم مُعدة على طريقة البلاد ، وقدموا لنا ايضا" انواعا" كثيرة من القاكهة والمربّى والعسل ، وعددا" وافرا" من اباريق الفخار الملأى بالخمر المعتق اللذيذ الذي يفوق بكثير خمر البطريرك نوح ! أكلنا بشهية كبرى ، وكان البطريرك والاساقفة والكهنة الذين جالسونا لا ينفكون يطلبون منا بإلحاح لنستفيض من الأكل والشرب…
أما البطريرك والاساقفة والكهنة الذين كانوا يلحون علينا لنشرب ، فلم يعطونا المثل بذلك ؛ لقد كانوا كثيري التقشف في المأكل والمشرب . كان بعضهم يشرب فقط الماء الصرف ؛ وما هيأوا الوليمة إلا اكراما" لنا ، ولا ظهار روح الضيافة التي يتحلون بها ، لأن حياتهم اليومية تتصف بالبساطة التامة…غالبا" ما يصومون بطريقة قشفة للغاية ، ويشتغلون كثيرا" ، ويقومون ليلا" لصلاة الفرض الالهي ، إنهم للملأ أمثلة صالحة في الانضباط الكامل .

_ الضيافة وحسن الوفادة
يتكلم السائح دارفيو عن استقباله في دير قنويبن ، فيقول :"…لقد استقبلنا فيه الاساقفة والرهبان بتهذيب قلّما لاقاه إنسان عند سكان البرية القاحلة البعيدة عن كلّ مجتمع بشري ، وحيث حياة التوبة الصارمة القشفة لا توحي إلاّ بالخشونة التي لا تعرف أيّ تهذيب…"
وصل البطريرك بعد أن اعلموه بقدومنا بنصف ساعة ، فقبلنا يده باحترام ، وغمرنا هو وقبلنا بحنان ، ووجّه الينا كلاما" مهذبا" للغاية.."
اختم هذا البحث الثالث ، وأقول بأن العلامة الاب ميشال حايك ، كتب يوما" مقالا" في إحدى الجرائد ، تخيّل فيه البطاركة الموارنة ، يسيرون في موكب مهيب ، قاصدين زيارة مقرّهم البطريركي ، وعندما وصلوا الى الصرح ، الذي يشبه القصر ، قفلوا عائدين على اعقابهم ، بعد أن تفرّسوا مليا" ، فلم يعرفوا المقرّ الذي عهدوه خلال حياتهم البطريركية . من له إذنان سامعتان فليسمع صدى التاريخ .

البحث الرابع: وادي قاديشا والتحولات الكبرى في تاريخ الموارنة
خلال فترة اقامتهم في دير سيدة قنوبين، عرف البطاركة وأبناءهم الموارنة تحولات مصيرية وخطيرة في تاريخ كنيستهم لم يسبق لها مثيل. نذكر من هذه التحولات ثلاثة هامة جدا" :
_ نشوء المدرسة المارونية في روما سنة 1584 .
_ اصلاح الحياة الرهبانية 1695 .
_ المجمع اللبناني 1736.

1 _ نشوء المدرسة المارونية في روما سنة  1584 . (14)
تأسست هذه المدرسة على أثر وفادة الاب جوان اليانو اليسوعي الى جبل لبنان ، لفحص ايمان الموارنة ، والتثبت من صحة معتقدهم الكاثوليكي . وقد تقدم بطلب إنشاء هذه المدرسة البطريرك مخايل الرزي، وبقيت هذه المدرسة تخرّخ تلامذة حتى نهاية حبرية البابا لاون الثالث عشر (1878 _ 1903 ) .
تكمن أهمية المدرسة المارونية ، أنها ادخلت الكنيسة المارونية عصر نهضة ثقافية وعلمية لم يسبق لها مثيل ، طوال تاريخها . وقد تخرّج من هذه المدرسة كبار العلماء الموارنة أمثال الصهيوني والسماعنة والحقالاني والباني والدويهي وغيرهم ، حتى قيل عن الموارنة في ذلك العصر " علم كماروني " .
غير أن هذه المدرسة كانت وراء تحوّل كبير في حياة وفكر الكنيسة المارونية الشرقية الأصول . فعلى أثر الحريق الاكبر الذي افتعله الاب جوان اليانو لمخطوطات الموارنة الليتورجية ، زعما"منه بأن هذه الكتب تحتوي العديد من الهرطقات ، بسبب اختلاط الموارنة باليعاقبة ، جاءت المدرسة المارونية لتعدّ شبانا" ، وتنشئهم تنشئة لاتينية غربية من أجل التعليم وتسلم زمام الامور في الكنيسة المارونية . أضف الى ذلك بأن مهمة تلامذة هذه المدرسة لم تكن لتتعدى الأرشفة ، والتعليم في مجال اللغات الشرقية .

2 _ إصلاح الحياة الرهبانية  (15)
إن الحياة الرهبانية في الكنيسة المارونية قبل البدء بحركة اصلاحها ، سنة 1695 ، في عهد البطريرك اسطفانوس الدويهي ، كانت حياة غير منفصلة عن هيكلية الكنيسة ، فالرهبان والراهنات كانوا يعيشون في اديار مذدوجة برئاسة الاساقفة غالبا" ، وكانت هذه الاديار مستقلة ، وخاضعة للسيد البطريرك وللسادة الاساقفة ، وهذا ما أضفى على الكنيسة المارونية وجهها الرهباني ، فعُرفت بالجماعة الرهبانية ، لتحلّق ابنائها حول الأديار، ومشاركتهم الرهبان صلاتهم وعملهم .
بدأت بوادر الاصلاح تظهر في المزكرة التي تركها دنديني قبل أن يترك قنوبين ، للبطريرك يوسف الرزي ، سنة ( 1596 ) . ثم جاء ثلاثة شبان من حلب يرعبون الانخراط في الحياة الرهبانية في جبل لبنان، فألبسهم البطريرك اسطفانوس الدويهي الاسكيم الرهباني وهم : جبرايل حوا ، عبد الله قراعلي ويوسف التبن وانضم اليهم فيما بعد جرمانوس فرحات ، ومنذ ذلك الحين بدأت الحياة الرهبانية تشق خطواتها الأولى على طريق المؤسسة . بحيث تأسست الرهبانية اللبنانية على أيدي هؤلاء الأربعة ، واضحى للرهبانية رئيسا" عاما" واربعة مدبرين ، وثبت قوانينها الأولى البطريرك اسطفانوس الدويهي سنة 1700 .
غير أن الظروف شاءت أن تتحول الحياة الرهبانية من خضوعها للسيد البطريرك ، خاصة مع البطريرك يعقوب عواد (1705_1733)، بحيث اضطر رئيس عام الرهبانية آنذاك مخايل اسكندر للسفر الى روما، واعداد قوانين الرهبانية بمساعدة السمعاني الشهير، والتي ثيتها البابا سنة 1732، فأضحت الرهبانية تتمتع بالحق الحبري، وتتبع الكرسي الرسولي مباشرة .
إن انفصال الحياة الرهبانية على جسم الكنيسة المارونية أحدث شرحا" كبيرا" بين الرهبانية من ناحية ، وبين السلطة الكنسية المحلية من ناحية أخرى ، ما زالت تعاني منه الكنيسة حتى أيامنا .

3 _ المجمع اللبناني 1736  (16)
المجمع اللبناني الذي انعقد في دير سيدة اللويزة سنة 1736 ، برئاسة البطريرك يوسف ضرغام الخازن وحضور القاصد الرسولي يوسف سمعان السمعاني ، شكل مفترقا" هاما" في تاريخ الكنيسة المارونية ، وقد تميزت آثاره على حياة الكنيسة من النواحي التالية :
أولا" : تقسيم رقعة الكنيسة المارونية الى ابرشيات ، واستقلال الاساقفة عن البطريرك .
ثانيا" : ليتنة العقيدة والطقوس في الكنيسة المارونية .
ثالثا" : التنظيم الوحيد للكنيسة المارونية بعد كتاب الهدى ، والمجمع الذي لم يتلوه مجمع لتنظيم الكنيسة .
رابعاً: نسخة معدلة عن مقررات المجمع التريدينتني (1545- 1563).
خامساً: حول الكنيسة المارونية من كنيسة موحّدة وجسم واحد، الى عدة كنائس مستقل، مستكملا" بذلك الخطوات التحولية السابقة مثل انشاء المدرسة المارونية ، واصلاح الحياة الرهبانية .

خلاصة
الكلام على الوادي المقدس ، يتطلب في آن معا" ، وداعة الحمام وحكمة الحيّات ، كما يقول الرّب له المجد.
وداعة الحمام ، لما تميزت به حياة الموارنة ، في هذه الحقبة من الزمن ، بالبساطة والقداسة ،فالقاسم المشترك بين كافة البطاركة الذين توالوا على كرسي انطاكيا ، وقطنوا الوادي المقدس كانت حياة برارة وطهارة وقداسة ، وهذا ما استفضنا في الكلام عليه ، في سياق بحثنا .
أما حكمة الحيّات ، فتنطبق على المحلّل الموضوعي الذي يرى الامور بشفافية ، ورؤية الامور بوضوح ، واظهار الحقائق مهمة شاقة وصعبة، وتكلّف صاحبها غاليا"، لأن الحقيقة جارحة. ان الكنيسة المارونية، وعلى رأسها البطريركية المارونية، عبدت الوادي المقدّس، وما زالت مقيمة فيه ، بما هي عليه وفيه في ايامنا . انتقلت منه بالمكان ، وما زالت قابعة فيه بالروح ، وخلال فترة وجود البطريركية المارونية في وادي قاديشا ، عانت هذه الكنيسة من المحن والمصاعب من الحكام المدنيين ، واستطاعت أن تبعد عنها الكأس ، لكنها شربت كأس التحولات التي ثبتتها السلطة الكنسية في جسدها ، حتى الثمالة ؛ انقطعت مع فكرها وتاريخها مع الحريق الاكبر ؛ تليتنت مع ظهور المدرسة المارونية، وعانت من الانقسام مع اصلاح الحياة الرهبانية، وانعقاد المجمع اللبناني.
الوادي المفدّس هو مرآة الكنيسة المارونية . عليها أن تحمل الارشاد الرسولي، وتهبط الى قعر الوادي، لتتمكن من الصعود الى اعلى القمم.

الحواشي
(1)لمزيد من المعلومات عن هذه العلاقات ، انظر بطرس فهد ، علاقات الطائفة المارونية بالكرسي الرسولي ، مطابع الكريم الحديثة ، جونيه ، دون تاريخ .
(2)انظر بطرس فهد ، بطاركة الموارنة وأساقفتهم من القرن 13 الى 15 ، دار لحد خاطر ، بيروت ، 1985 ، ص 12 _15 ؛ وأيضا" الاب يوسف محفوظ ( المطران فيما بعد ) ، مختصر تاريخ الكنيسة المارونية ، الكسليك ، لبنان ، 1984 ، ص 85 _ 90 .
(3)انظرFrancois becheau ,Histoire de concils,Christ source
de vie , Toulouse (France),1993,pp.101-106.
( 4) أنظر يوسف الدبس،الجامع المفصّل في تاريخ الموارنة المؤهل،دار لحد خاطر، الطبعة الرابعة1987 ،ص 161 _ 162 ؛ وايضا بطرس فهد، بطاركة الموارنة واساقفتهم من القرن13 الى 15 ، دار لحد خاطر، بيروت 1985 ، ص 64_68 .
(5) انظر المراجع عينها .
(6) انظر المراجع عينها .
(7) استندنا في بحوثنا عن حياة البطاركة في هذه الحقبة، الى أول سلسلة وضعها البطريرك الدويهي لهم، والى " تاريخ الأزمنة "؛ والى يوسف الدبس ، الجامع المفصل في تاريخ الموارنة المؤصل، وبطرس فهد، بطاركة الموارنة واساقفتهم ( عدة اجزاء ) والخوري اسقف يوسف داغر ، سلسلة بطاركة الموارنة ؛ والأب يوسف محفوظ ، مختصر تاريخ الكنيسة المارونية .
(8) انظر بطرس فهد ، بطاركة الموارنة واساقفتهم في القرن 13 الى 15 ، ص 90 _ 93 .
(9) السمعاني، المكتبة الشرقية، المجلد الأول، ص 522 .
(10) انظر فيليب حتي، تاريخ لبنان، دار الثقافة، بيروت، الطبعة الثانية، 1978 ، ص450 _467 .
(11) انظر فبليب حتي، تاريخ لبنان، ص 17 ( حاشية ) ,
(12) انظر هنري لامنس، تسريح الابصار فيما يحتوي لبنان من الآثار ، دار الرائد اللبناني، طبعة ثانية 1982 ، جزء اول، ص 111 .
(13) الأب يوسف محفوظ، مختصر تاريخ الكنيسة المارونية، 56 _ 62 .
( ترجم النصوص عن اصولها الى العربية الاب محفوظ نفسه ) .
(14) انظر Nasser GEMAYEL,les echanges culturels entre les Maronites et l'Europe , du college Maronite de Rome ( 1584 ) ou college de Aynwarqa ( 1789 ) , Beyrouth , 1984 .
(15) اظر "بدايات الرهبانية اللبنانية" في التراث الماروني، رهبانيات ا ،تقديم واعداد الاب جوزيف قزي، الكسليك، لبنان، 1988 .
(16) انظر المجمع اللبناني، 1900 ، والذي اعيد طبعه في ذكرى مرور 250 سنة على انعقاده ، بيروت، سنة 1986 .


























محاضرة الأب كرم رزق







قاديشا وادي القديسين








أحد 2 آب 1998
لمحة تاريخية عن وادي قاديشا

مقدّمة
يحاكي وادي قاديشا بأهمّيته التراثية أمكنة قلّ وجودها على سطح الارض، مثل جبل آثوس في اليونان ومنطقة شمالي سوريا، وصعيد مصر. وإذ تقتصر مداخلتي على رسم الخطوط الكبيرة لتاريخه، فيقيني إن الدراسات التي تتناوله ستبيّن مدى غناه الطبيعي والانساني والديني.

العوامل الطبيعية والبشرية
يشكل وادي قاديشا رقعة  بيئيّة لها ميزاتها الطبيعية والجغرافية والاقتصادية والسياسية والحضارية. وقد تفاعل تاريخ الوادي مع المحيط اللبناني والشرق أوسطي.
يقع وادي قاديشا ضمن نطاق جبة بشري، ويمتد الى كوسبا في منطقة الكورة. يمتاز الوادي بقساوة تضاريسه، لا سيما تشكيلاته الصخرية الكلسية الضخمة التي تعود الى الطور الجيولوجي الرابع. يتسع حوضه الاعلى حيث مدرج الارز الذي تظلله اعلى فمم جبال لبنان، كالقرنة السوداء وفم الميزاب. ويضيق في الأسفل الى ان يختفي في سهول الكورة، ويغالي في الانسحاق في الوسط حيث يتجاوز عمقه الالف متر. يمخره نهر قاديشا الذي يتغذى من ينابيع وروافد عديدة، قبل ان يصبّ في طرابلس متخذا اسم نهر "ابو علي". يدخل هذا الشريان في عداد الروابط التي تصل بين الساحل والجبل.
تنتشر الوحدات السكنية القروية على ضفتي الوادي لتشكل المستوى الطبيعي الشبه الاعلى للتجمعات البشرية في الشرق الاوسط. وتتخلل منحدرات الضفتين اخاديد ومغاور وكهوف حوّلها المتوحّدون الى صوامع معلّقة لا يدركها سوى من تحرّر من جاذبية هذا العالم الفاني وتعلّق تقيم العالم الباقي. فمسافة التحرر اللامتناهية هي الحد الذي يفصل بين النساك وبين اهلهم في القرى المجاورة، وبدونها لا يكون نسك وتزهد وتوحد.
حلّ الانسان في هذه التقعة الجغرافية منذ العصور القديمة، واحتفظت الكهوف بعتاده وببقايا ادوات استعماله اليومي. ويعود السكن المنتظم الكثيف في الجبة الى الفرن السابع الميلادي كما تدل على ذلك آثار بعض الكنائس. اما طرح الاسئلة مثل: من كان هذا الانسان؟ لماذا اتى الى الجبة؟ من اين اتى اليها؟ وان توجّب طرحها  فمعالجتها تخرج عن نطاق هذا البحث.
وتطفو اسماء الاماكن الرئيسية في الكتابات المارونية منذ القرن الثاني عشر، المشتق المشتق وتتثبّت في المصادر الاخرى خلال القرون اللاحقة لتقوى على الزمن الى يومنا هذا، المشتق المشتق بينما تضمحل بعض المعالم الثانوية. وفي الحالين يجد الباحث نفسه امام ظاهرة تستجوبه، المشتق المشتق علما ان مآثر ابن القلاعي وحوليّات الدويهي توفّر مادة لمعجم مواقع توبوغرافية. ويطغى ايضا الطابع الماروني على المنطقة خلال الفترة عينها دون ان تنتفي صفة الاختلاط والانفتاح.

العوامل الاقتصادية
قام اقتصاد الجبّة على الزراعة وتربية الماشية التي بقيت المعوّل الرئيسي لسكانها حتى نهاية القرن التاسع عشر. يدّخر المزارع مؤونته من الانتاج الزراعي، وعندما يغلّ الموسم ويفيض المحصول تتيسّر عملية التبادل، لا بل عملية تسديد الضرائب.
ان للزراعة في الجبة ظروفا. يقسو المناخ احيانا كثيرة ويجعل الزراعة عرضة للعوامل الطبيعية، وتخبر الحوليات باسهاب عن عدم انتظام دورات االاحوال المناخية: امطار كثيرة وثلوج كثيفة تسبّب سيولا وفيضانات، برد وبَرَد ورياح عاتية، او جفاف، يتبعها كلّها اوبئة وجراد…
التربة صخرية ووعرية تتأكّلها النبتات الطفيلية، استلزمت جهودا متواصلة لقيام الجلول. اما انواع المزروعات فتتوزّع كالتالي: الحبوب، التوت، الكرمة، الزيتون، كما اتقن الفلاح اللبناني تربية دود القز، والنحل، والمواشي… استعان بها في امور معيشته، استخرج منها مؤونته وتمكّن ان يستبقيها من موسم الى موسم على شكل: زيت، نبيد، دبس، برغل، بذار،عسل، قورمة، وجلود، وفيالج…وظّف في ذلك المطاحن والمعاصر والكرخانات والدبّاغات: وهكذا اكتملت الدورة الاقتصادية.
تقهقرت الزراعة مرارا وسببت نزوحا نحو المناطق الجنوبية او نحو سهل البقاع. كما عزّزت الاضطرابات السياسية هذا النزوح واضفت عليه مرارا طابع اللاعودة. وكان لهذا النزوح بعض النتائج الايجابية على صعيد تماسك جبل لبنان.
وفّرت الزراعة على المدى البعيد بحبوحة نسبية لم تؤد الى نمو ديموغرافي مضطّرد. يمكن للباحث ان يتبيّن ذلك اذا ما قارن قوائم الاحصاءات وجداول الضرائب مع مناطق متاخمة للجبة في نفس الفترات الزمنية.
وما يؤكّده الدويهي عن الازدهار في الجبّة سنة 1458، اثر ارتقاء البطريرك بطرس بن يوسف بن يعقوب الشهير بابن حسّان الحدثي، ينطبق فقط على حلقة من الدورات الاقتصادية. ويقول: "كانت قرية الحدث وكل البلاد في عز واطمئنان. حتى ان في خميس الاسرار لما اندقّ الناقوس لسمع القدّاس الطاهر ومناولة الاسرار الالهية انضبطوا خمسماية مسّاس للفلاحة على باب هيكل مار دانيال من الذين كانوا يحرسوا ارض الحدث. وانعدّوا في اهدن في الحارة الفوقه سبعين بغل الذين كانوا يسافرون الى مدينة دمشق. وكان فيها خمسة عشر قوّاس يأكلون علوف من مدينة طرابلس".[18]
ان لهذا النص معاني اقتصادية ومجتمعية بليغة اذ يشير الى انماط التبادل التي كان يؤمّنها ابناء الجبّة بين طرابلس والشام، وهو ينمّ ايضا عن طبقة من "الاداريين" الذين يتقاضون اجورا ثابتة لقاء خدماتهم.
وتراجعت الزراعة عند مغيب القرن التاسع عشر، وأدّت الى هجرة من الجبة الى الخارج، ربما نسبتها كانت الاقوى بين المناطق اللبنانية. وكان لهذه الهجرة البعيدة ان اتت الى الجبّة برأس مال أجنبي، لا سيّما عند عتبة القرن العشرين.

العوامل السياسية
عرفت الجبّة، ومن ضمنها قاديشا، ما بين القرن الثاني عشر والقرن التاسع عشر، انظمة سياسية متنوّعة. ولم تكن قط بمنأى عن الصراعات الدولية الكبيرة.
دخلت الجبّة اولا تحت سيطرة كونتية طرابلس الصليبية الى حين سقوطها بايدي المماليك سنة 1289. وابّان هذه الفترة، تسنّى للموارنة ان يحافظوا على نوع من التنظيم الداخلي. اما التأريخ الذي يجتهد في استنباط طرق للتنسيق بين الموارنة والصليبيين فهو بعيد عن الواقع والحقيقة والمصادر.
وتبعت الجبة نيابة طرابلس المملوكية. ولأسباب سياسية واستراتيجية استهدف المماليك الموارنة اثناء محاربتهم الصليبيين للاستيلاء على مدينة طرابلس.
شنّت قوات السلطان الظاهر بيبرس حملتين على قرى الجبة سنة 1266 و 1268.
وجرّد التركمان حملة على الجبة بايعاز من الملك المنصور قلاوون (1279-1290) سنة 1282 بغية اضعاف الموارنة والالتفاف على طرابلس. نجحت الحملة، وقد دوّنها محيي الدين بن عبد الظاهر في سيرة قلاوون، وكذلك البطريرك الدويهي وقد استقاها من شحيمة احد النساك في دير مار أبون. ولعلّ هذه الحملة قضت على استقلالية الموارنة وعلى تحصيناتهم التي تعود جذورها ربما الى زمن حلولهم في الجبة، واستيطان المردة فيما بينهم.
وتوالت الحملات على جبل لبنان، أخصّها سنة 1292، و 1300، و1305، وهي وان وُجّهت ضد فرق الشيعة، فقد طالت الموارنة في بلاد البترون وجبيل وكسروان، وسبّبت حتما هجرة العديد منهم الى قبرص وجزر اخرى في المتوسط.
تشدّد المماليك 1282-1282 1حيال المسيحيّين، اضطهدوهم وطبّقوا عليهم احكام اهل الذمّة. نكّلوا بالموارنة، سجنوا بعض اساقفتهم في دمشق، وحرقوا البطريرك االحجولاوي قرب جامع طيلان في طرابلس سنة 1367. دفع الموارنة ضريبة جسيمة نتيجة الصراع المملوكي الصليبي الذي استمرّ على شبه غزوات للساحل اللبنابي، ونتيجة الصراع المملوكي التتري_المغولي في البرّ، ونتيجة الاتهامات والظنون. تضاءل عديدهم، افتقروا، شحّت موارد عيشهم، وهاجر خلق كبير منهم.
تغيّرت احوال الموارنة ابّان حكم المماليك البرجيّة (1383-1516). اعترف هؤلاء بزعامة مقدّميهم التي دامت حتى سنة 1621. لاحظ ابن القلاعي هذا التغيير، وعبّر عنه في زجليّاته:  
    
وادي على نهر قاديشا                  سلطان عابر يتمشى
  عزمه راهب يتعشى                 تعجّب من حياة الرهبان
نعم نعم تلك السلطان                   واعطى مربعه للرهبان
ان من يسكن في الشقفان              يعمّر من مال السلطان
وأقاموا مقدّم في بشرّي                على الدياري والنهري
ضدّ الطغيان المصري                 يقيم حرّاسا ويكون سهران
.............................……
حاكم بدبّوس دنياني                    وبعصا شدياق روحاني
طايع الاسقف وسلطاني                بشرف الكنيسة والايمان
اقتبل منهم اسم الكاشف                وسيف العز عليه حالف…

ويضيف الدويهي في شرعية المقدّمية البشراوية ما يلي: "عندما تدروش الملك الظاهر (برقوق) يقال انه قدم قرية بشرّي فأقام الشدياق يعقوب ابن ايوب مقدّما وكتب له بذلك صفيحة من نحاس، ثم نزل الى دير قنّوبين فبات هناك وعجب من سيرة الرهبان فكتب لهم صفيحة من نحاس يكونوا معافين  ويكون ديرهم له الرئاسة على ديورة تلك الجهات. لقد نسب احد المؤرّخين الفرنسيّين هذه الواقعة الى تيمورلنك  ولكنه لم يفد عن مصادره.وهي ان صحّت تستوجب نقداً منهجياً Fausses  décrétales   هذه النصوص وغيرها الكثير تذكّر بال ……خاصاً، لاسيما وأنّها  تطرح قضايا  خطيرة، مثل مفهوم السلطة، علاقة المقدّمين برؤسائهم المدنيين، وعلاقتهم بالبطريركية المارونية.
انّ تضافر عدد من الظروف الملائمة حدا بالبطريركية المارونية ان تستقرّ في قنوبين منذ عهد البطريرك يوحنّا الجاجي سنة 1444. ولكن ما عتّمت ان انفجرت مشكلة الوجود اليعقوبي في الجبّة في نهاية القرن الخامس عشر. انّ لهذه المسألة ابعاداً سياسية واقتصادية ودينية وثقافية، تخطّت حدود المنطقة، ولكنها انتهت لصالح الموارنة.
ثمّ دخلت الجبّة تحت الحكم العثماني سنة 1516، وأُلحقت بولاية طرابلس، تماما كما في عهد المماليك. حافظت على نوع من الاستقلالية في ظل نظام الالتزام الذي تعهّده آل حماده لمدّة طويلة خلال القرنين السابع والثامن عشر. وبالرغم من المشاكل الكبيرة التي عانتها الجبّة، كردّات فعل على الصراع العثماني الاوروبي في المتوسط والبلقان، بقيَ ارتباطها وثيقاً بطرابلس عن طريق التبادل التجاري والمعاملات الحقوقية التي شملت اهل الذّمة، كما تثبت ذلك سجلاّت المحكمة الشرعية في مركز الولاية.
وفي نفس الوقت عرفت الجبّة تحوّلاً كبيراً اذ بدأت تتجه رويداً رويداً نحوجبل لبنان خلال امارة العسّافيّين وامارة المعنيين لتنضم  نهائياً الى الجبل ابّان الامارة الشهابية، ولتصبح جزءا لا يتجزّأ منه في عصر القائممقاميتين والمتصرّفية، ثمّ ركناً في كيان لبنان المستقل والحاضر. تتمثّل وسائط هذا التحوّل بسياسة الامراء السابق ذكرهم، وبتدبير كواخيتهم ومساعديهم، وبمصالح بعض التجّار، وبنزوح بعض السكان…

العوامل الثقافية
اما على الصعيد الديني الحضاري، فقد لعبت الجبّة، وقلبها وادي قاديشا، دوراً يفوق حجم مساحتها الطبيعيّة. استقرّ البطريرك الماروني في دير سيدة قنّوبين. أحاط به أساقفة الطائفة وجمع غفير من الرهبان المتوحّدين الذين غطّى بخور تقادمهم الوادي، كما ينقل الدويهي عن البطريرك يوحنا الصفراوي المتوفي سنة 1659: "…كانت الديورة والاودية محبوكة من الرهبان والحبسا … ايام الحدود والاعياد كان يعقد دخان البخاخير في تلك الاودية بشبه الضبابة".
ترأس دير قنوبين على سائر اديرة ومناسك قاديشا التي يربو عددها على العشرين، واهمّها: دير مار انطونيوس قزحيّا، دير مار ليشع، دير الصليب، دير مار يوحنا،  دير مار جرجس، دير سيدة حوقا،  دير مار آبون،  دير مار أسيا، محبسة مار بيشوي، محبسة مار بولا…
زادت ثروة دير قنوبين تباعا من جرّاء حسن ادارة القيّمين عليه حسبما يؤكّد الدويهي في تاريخ الازمنة، واكتنزت مقتنياته بفعل الوقفيّات كتعبير عن ايمان راسخ وعن محبّة اخويّة مثلما تشهد هوامش انجيل ربولا. شرّع قنوبين ابوابه لكل طارق او صاحب قضيّة، قريب او غريب، مسيحي او مسلم كما لاحظ دنديني، رغم ان النكبات والبلص والنهب والحرق توالت علىالكرسي البطريركي. وشاركته الأديرة الأخرى في نفس المصير.
قنّوبين هو فجر الحداثة في الطائفة المارونية وفي لبنان. عُقدت فيه خمس مجامع خلال القرن السادس عشر: سنة 1557، 1569،  1578، 1580، 1596 . حضر المجمعين الاخيرين تباعاً كل من اليانو و دنديني، موفدي الكرسي الرسولي. وعقد فيه مجمع سادس سنة 1755. نظَّمت هذه المجامع، وغيرها شؤون الكنيسة المارونية الروحية والزمنية. فيه تقرّر افتتاح المدرسة المارونية في روما سنة 1584، وافتتاح مدرسة حوقا سنة 1624 كمدرسة اعدادية للاولى. فيه اختير طلابهما، وكان جلّهم من قرى الجبّة في العقود الاولى. فهاك السماعنة وباقي الحصارنة، وهاك الصهيوني وعميرة والدويهي من اهدن، وهاك ابن نمرون الباني وغيرهم هؤلاء هم باكورة سفراء التثاقف بين الشرق والغرب. ومؤخّراً إنتظم في ركبهم، المشتق كلٌّ على طريقته، القدّيس شربل، الطوباوي نعمة الله الحرديني، جبران خليل جبران…
تبنّى "قنّوبين" التقويم الغريغوري سنة 1606 وواجه معارضة  حادّة قبل ان يستحصل على البيورولدي_ أي الفرمان الذي اذن بإدراج هذه الطريقة لإحتساب الزمن_. أمَّ قنوبين وقاديشا رحّالة، دبلوماسيون، وقصّاد رسوليون. اكتظّ قاديشا بالنساك طلاّب الكمال، مسيحيّين ومتصوّفين، تفرّدوا باختبار روحاني لا يقاس بمعايير اعتيادية. زاولوا الاعمال اليدوية، كتبوا ونسخوا، فحُفظت آثارهم في كبريات المكتبات العالمية3. طلب قنوبين العلم والتمس الكتب فَرَست اولى المطابع في قزحيا سنة 1610 عندما كان الشرق يهوم في سبات عميق.
تجدّدت الحياة الرهبانية في قاديشا سنة 1695، وهكذا استمرّ التقليد الرهباني حيّاً أكثر من الف عام على التوالي. قاديشا هي ذاكرة امّة وتستحق ان تدرج على لائحة التراث العالمي.





محاضرة ألاب عبدو بدوي







التصاوير الجدرانية
في وادي قاديشا







الأحد 5 تموز 1998
التصاوير الجدرانية في وادي قاديشا هي جزء لا يتجزأ من التصاوير الجدرانية في لبنان ومن ايقونوغرافية الكنيسة المارونية بالذات.لقد اتحفنا رهبان وادي قاديشا ومن رسم لاديارهم ومناسكهم من الفنانين ، بعدة تصاوير جدرانية ، على حقبات مختلفة ، يعطينا ما تبقى منها ونجا من التدمير على ايدي بني شعبنا وغيرهم ، فكرة واضحة عن ايقونوغرافية وادي قاديشا وعن ارتباطها بباقي التصاوير في المناطق اللبنانية الاخرى ( جبيل والبترون مثلا ) ومنطقة الشرق الاوسط ( سوريا ، تركيا ، قبرص ، مصر واثيوبيا ). معظم هذه التصاوير في وادي قاديشا لم يطرح على بساط البحث والدرس، الا بعض الاستثناءات ( كالقديسة شمونة مثلا ) .
لنأخذ هذه التصاوير تدريجيا من اعلى الوادي حتى اسفله أي من شرقه حتى غربه ، وسنحاول ترتيبها حسب الاسلوب الايقونوغرافي والحقبات التاريخية ، وهنا نسرد لائحة بها :

اولا _ القديسة شمونة :
تصاوير هذه المغارة ، ويا للاسف لم تعد في الوجود ، الا في بعض السليدات والصور لدى البعض ولدى السيدة اريكا دود التي انبرت لوحدها في دراسة هذه التصاوير ومقارنتها مع غيرها في لبنان والمنطقة ( ARCHEOLOGIE AU LEVANT ,( Receuil R. Saidah … 1982 . في اواخر الثمانينات ، نذرت احدى النساء التقيات المغتربة في اوستراليا ، مالا لترميم هذه الكنيسة المغارة ، فاتى الترميم على كل الرسوم بحجة انها عتيقة ويجب ازالتها .
استنادا الى السيدة دود والى ما لدينا من وثائق نجد في القديسة شمونة المواضيع الايقونوغرافية التالية :
نجد صورة القيامة المعروفة بالهبوط الى الجحيم وصور بعض الاباء والقديسين دون تحديد هويتهم وبعض الكتابات السريانية الاسطرنجلو غير المقرؤة . موضوع الهبوط الى الجحيم هو من التأثير البيزنطي الواضح رغم غرافيكية الرسوم السريانية ، دودّ حاولت مقارنة هذه الرسوم مع رسوم من منطقة الكبادوك وبحديدات .
استنادا الى دودّ ، هذه الرسوم تعود الى القرن الثالث عشر ، انه تصوير محلي جذوره بيزنطية ويحمل بعض التأثيرات الصليبية ، ويمكننا مقارنته مباشرة مع رسوم كبادوكية من القرن الثاني عشر . انها تصاوير سريانية غريبة تعود الى اواسط القرن الثالث عشر، وكما نعلم القديسة شمونة لها اكرام خاص لدى السريان الغربيين.

ثانيا _ دير الصليب :
داخل حنايا الكنيسة المبنية ضمن مغارة في شير حدشيت ، بقي لنا مما كان مرسوما ، صورة البشارة ، صورة الصلب وصور بعض آباء الكنيسة الذين نعرفهم من الاموفريون المصلب . اسلوب هذه التصاوير متطور اكثر مما سبق وبيزنطينيته واضحة . انها تعود ايضا الى القرن الثالث عشر . ملاك البشارة رائع الوجه والنظرات. المصلوب لم يعد واضحا ومعه كتابات سريانية عامودية غير مقرؤة حتى الآن .

ثالثا _ مار بهنا :
انه اختصار مار بهنام او بهنان، الشهيد البطل السرياني. هناك بقايا كنيسة صغيرة على الطريق بين دير الصليب والقديسة شمونة، لم يبقى منها سوى بعض الحجارة وبقايا لوحة جدرانية غير واضحة المعالم.

رابعا _ سيدة الدر :
هذه الكنيسة المغارة تقع على مشارف وادي قاديشا غربي بلدة بشري. اهميتها تكمن بما تحتوي من جدرانيات. هذه المغارة تتألف من معبد وعدة غرف محفورة في الصخر .
فوق المذبح بقايا جدارية المعمودية وعلى جدران الغرف صور قديسين وقديسات لم تحدد اسماؤهم نظرا لحالة التصاوير المتردية بسبب الرطوبة وغير ذلك من تخريب الطبيعة والانسان .
هذه التصاوير ليست بعيدة عن ما ذكرنا اعلاه ، باستثناء صورة المعمودية التي تبدو مغايرة في اسلوبها الاكثر بدائية .

خامسا _ مار آسيا ، مار يوحنا ومار جرجس :
هذه المجموعة نعرفها الان باديار الاحباش في قاديشا .
نجد فيها تصاوير بدائية تركها الرهبان الاحباش الذين قطنوا هذه الاماكن في القرن الخامس عشر . قد اكتشف هذه الصور فريق من الجمعية اللبنانية للابحاث الجوفية ، وقد قمنا شخصيا بدراسة هذه التصاوير في العدد الخامس من نشرة الجمعية الذي صدر مؤخرا. [19]
باختصار انها رسوم صلبان مصلبة الاطراف ، واخرى مخصورة ، ناهيك عن بعض الخيالة والحيوانات بتصوير تخطيطي بدائي ، وبعض التقاطيع الهندسية . وجدنا لهذه الاشكال تردادا في بعض الاماكن والمخطوطات بين اثيوبيا ، طور عابدين ، الكبادوكيا ، لبنان ، وسوريا.

سادسا _ سيدة قنوبين :
تقسم تصاوير سيدة قنوبين الى ثلاثة اقسام :

أ- القبو تحت الكنيسة:
حيث توجد بقايا تصاوير جدرانية حفظ منها عند الباب الداخلي رأس لم تحدد هويته ، يعود على اغلب الظن الى نهاية القرن  الثاني عشر . انه قريب من تصاوير القديسة شمونة .

ب-  صورة تتويج العذراء على جدار الكنيسة الشمالي :
هي من تصوير الراهب اللبناني الماروني بطرس القبرصي[20] في اوائل القرن الثامن عشر ، ثم اعيد ترميمها في القرن التاسع عشر على يد الفنان الماروني كنعان ديب الدلبتاوي .
الصورة تمثل الثالوث الاقدس متوجا السيدة العذراء الجالسة فوق ارز لبنان وعند اقدامها البطاركة الموارنة يحيطون بالمذبح وفي وسطه الحمل. عند اسفل الصورة كتابة سريانية كرشونية غير واضحة المعالم.
واستنادا الى وثيقة مخطوطة في ارشيف ابرشية طرابلس ، عثر عليها الدكتور جان نخوّل ، انه هو الذي رسم جدرانية تتويج السيدة العذراء ، على الجدار الشمالي لكنيسة سيدة قنوبين بامر من البطريرك الدويهي .
هذه الصورة تمثل حقبة بحد ذاتها من الايقونوغرافيا المارونية ، اذ نجد موضوعا غريبا رسمه الراهب اللبناني بناء على حلم رآه البطريرك الدويهي وطلب منه ان يرسمه كما يقال . جاء الاسلوب مخضرما بين الايقونوغرافيا والفن الاوروبي الما بعد النهضوي . وجه العذراء ليس بعيدا بملامحه مثلا عن وجه سيدة ايليج . الملائكة الصغار الملتحفون بالغيم ، من عصر النهضة . الشمس والقمر من الايقونوغرافيا السريانية.

ج- صورة الحنية الرئيسية والجانبين :
انها اقتباس عن الشفاعة DEISIS  لكن بتحوير متعمد ، اذ جعل القديس اسطفانوس شفيع البطريرك الدويهي مكان يوحنا المعمدان . السيد الضابط الكل وكأنه الحبر الأعظم بتاجه المثلث . الثياب تذكرنا بلباس الأيقونات الانطاكية المعروفة بالملكية . الرسام غير معروف ، لكن الاسلوب يوحي لنا بأنه حلبي او شامي . نقدر تاريخها في نهاية القرن التاسع عشر . اما في الحنايا الجانبية ، فنجد شمالا من ذات الاسلوب القديس يوسف حاملا الطفل يسوع وبيده الزنبقة والمنشار ( ساروقة ) . اما في الجهة الجنوبية ، فنجد دانيال النبي في جب الاسود وكأن الصورة لا علاقة لها بالصورتين الاخريتين .انها مختلفة الاسلوب .

سابعا _ تصاوير اخرى :
هناك في اماكن اخرى بعض بقايا تصاوير تزينية في عدة اماكن ، ككنيسة دير قزحيا وعاصي وحوقا مثلا ، لن نقوم بدرسها لانها تشكل موضوعا كاملا ، الا اذا اكتشفت لها ملحقات .

خلاصة :
هذه التصاوير بمعظمها ، وضعها متردد وتحتاج الى الترميم والصيانة وتستحق دراسة شاملة وواسعة . يمكننا مقارنتها مع مثيلاتها في غير مناطق ، خاصة بلاد البترون وجبيل ، وبالاخص مع جدرانيات دير مار موسى النبك ومار يعقوب قارا في سوريا . دورتها الايقونوغرافية متشابهة ، معظمها صور آباء الكنيسة مع بعض المشاهد الخلاصية الكبرى ، كالقيامة ( مرت شمونة ) الصلب والبشارة ( دير الصليب ) المعمودية ( سيدة الدر ) والشفاعة ( قنوبين ) . بالطبع لا نجد الدورة المتكاملة الموجودة في دير مار موسى مثلا ، لكن هذا القليل هو ذو اهمية تاريخية ، روحية وايقونوغرافية .
  الأب جورج الـسغبيني
- مواليد بلدة الطيبه- بعلبك 9آذار 1948
- تلقى دروسه الابتدائية في مدرسة البلدة ومدرسة المطرانية في بعلبك سنة 1958 
- تابع دروسه التكميلية عند الآباء اللعازاريين 1959
- دروسه التكميلية والثانوية في معهد الروح القدس الكسليك 1963
- سيم كاهنا بعد إنهائه الدروس الفلسفية واللاهوتية في الكسليك  في 14 آب  1976
علّم في مدارس الرهبانية وتسلّم إدارة أديار ومؤسسات اجتماعية:
- عيّن قاضيا في المحكمة الروحية في أبرشية صور والأراضي المقدسة 1981
- عين رئيسا على دير مار يوسف بسكنتا 1984- 1990
- أسس ونرأس إقليم المتن الخامس بسكنتا كاريتاس لبنان سنة 1986- 1991
- عين رئيسا لدير مار الياس المطوشي في قبرص 1991- 1994
- عين قيما على دير مار الياس الكحلونية 1994- 1998
- عين رئيسا لإقليم المتن الأعلى كاريتاس  حمانا 1994- 1998
- عين رئيسا لدير مار شربل بقاعكفرا  1998- 2001
محاضرات ومقالات في الجرائد والمجلات وكتب مطبوعة:
-  قربانتي الأولى، أبرشية صور والأراضي المقدسة- 1981 (نفد)
-  مار شربل، أبرشية صور والأراضي المقدسة- 1981 (نفد)
-   زياح مار ساسين، مطبعة لطيف-  1984 (نفد)
-  الشاعر المجهول، مطبعة لطيف - 1986
-  الشاعر المجهول في ذكرى رحيله- 1987 (نفد)
-   روزنامة مار يوسف– بسكنتا ، مطبعة لطيف – 1987 (نفد)
-   دليل هاتف- بسكنتا، مطبعة لطيف – 1987 (نفد)
-   معرض مار يوسف بسكنتا ، 1988 (نفد)
-   بناء كنيسة مار يوسف-  بسكنتا-  1988 (نفد)
-   خدمة المحبة ، المطبعة البولسية - 1997
-   تاريخ دير مار موسى الدوار- تاريخ قرية، مطبعة كركي- مار موسى - 1998
-   كاريتاس لبنان، 25 سنة في خدمة المحبة، مطبعة كركي-  1998(نفد)


[1] - راجع المحفوظ الفاتيكاني السرياني،رقم215،صفحة 53.
[2] - المرجع ذاته،صفحة86.
[3] - المرجع ذاته،صفحة93.
[4] - المرجع ذاته،صفحة96.
[5] - المرجع ذاته،صفحة99.
[6] - المرجع ذاته،صفحة 111 .
[7] - المرجع ذاته،صفحة 113.
[8] - المرجع ذاته،صفحة 114.
[9] - المرجع ذاته،صفحة115،119.
[10] - المرجع ذاته،صفحة 120
[11] - المرجع ذاته،صفحة 143
[12] - المرجع ذاته،صفحة 135
[13] - المرجع ذاته،صفحة 141
[14] - الأب ايرونيموس دنديني ، رحلة الى جبل لبنان ، باريس 1685 ، صفحة 222 .
[15] - Jean de LA ROQUE"  Voyage de Syrie et du Mont-Liban, ( Coll.Voyageurs d'Orient,  ed.Dar Lahad Khater, Beyrouth , 1981, pp. 18-12.
[16] - Laurent d'Arvieux . Memoire , ( Coll.Voyageurs d'Orient, II),  ed. Dar Lahad Khater, Beyrouyth, 1982,pp. 181-187.
[17] - المترجم
(1)     – الجريدة الرسمية – العدد 15- 13/4/1995: "قرار رقم 13، ادخال وادي قاديشا- قنوبين في لائحة الجرد العام للابنية     الأثرية… المادة الاولى: ادخل في لائحة الجرد العام للابنية الأثرية المنطقة المعروفة بوادي قاديشا- قنوبين مع مجموعة الابنية من مغاور طبيعية واصطناعية واديرة وكنائس وبيوت في نطاق هذا الوادي…المادة 2: لا يجوز القيام بأي عمل من شأنه تغيير المنظر الطبيعي والبيئي لهذا الوادي دون موافقة المديرية العامة للآثار المسبقة على الاعمال المنوي اجراؤها والمواد المنوي استعمالها…".       
(2) - قاديشا بالسريانية ( تلفظ قَديشو ) تعني مقدّس، والسبب انّ الوادي يُعتبر منذ فجر المسيحية واديا" مقدّسا" لكونه مسكن النسّاك   والمتعبّدين؛ هناك مخطوط يعقوبي يسمّي الوادي " وادي الذخائر "(راجع مقالة أية حدث؟) نسبة الى ما تركه هؤلاء النسّاك من آثار            (بقايا عظام، ثياب) والتي اعتُبِرَت ذخائر مقدّسة من قِبَل المؤمنين .  

(3)Ehden P-7: Delmaz.

(4) – الجميّل زجليات، ص123 (رقم426).
(5)- تسلّق صعب: يعني استعمال الحبال للتسلّق أو للنزول مع أسافين معدنيّة خاصة تُغرس في الصخر. 

(6) – عن رسومات هذه الكنيسة قبل إزالتها: Dodd notes .
(7) –التسمية بقيت، بالرغم من أنّ مار بهنا او بهنام حُذِف من السنكسار الماروني الحالي. مار بهنا او بهنام هو القدّيس الشهير عند اليعاقبة          والذي كان له تذكار عند الموارنة في كَلَنداراتهم القديمة.
         
(8) –راجع Pouzet Damas, p.241. لم ننشر هذه الكتابات والسبب ان احد المؤرّخين طلب منا أن ينشرها ضمن دراسة تتناول هذا الموضوع بالذات. 
(9) –منذ مدّة، وليست ببعيدة، كان دير الصليب يُستعمل زريبة للماعِز.
(10) -    Catalogue Bkerké 59._
(11) –بخصوص "العتابي" راجع Makrizi histoire, p.222.
(12) –سمّيناه موقعا" لأنَّ المكان يحتوي على موضعين مستقلّين.
(13) –عن دير مار جرجس راجع دويهي توتل، ص 218-219، دويهي فهد، ص 365-368، دويهي تاريخ، ص 142.
(14) – (1989).
(15) –أغلب الظن أنَّ الولوج إلى هذا الدير كان يتمّ عبر سُلَّم خشبي مع العلم ان الرهبان الأحباش كانوا وما زالوا حتى يومنا هذا في بعض الأديرة المبنيّة داخل الكهوف العاصية الواقعة في بلاد الحبشة، يصعدون الى مساكنهم تسلّقا" أو مستعينين بالحبال؛ راجع .Grefter Ethiopien, p. 79 
(17) –راجع مقالة يعاقبة وأحباش، قسم نوح البقوفاوي.
(18) –من المعروف انَّ الصاعدات والهابطات التي تتطلّب مئات السنين لتتكوّن، تفقد كل لمعانها وجمالها اذا أُخرِجت الى نور النهار وتصبح مجّرد حجر عادي لا قيمة لها.
(19) –زار عالم الآثار الاب Charles MILLER  وادي قاديشا برفقتنا، وقد اطلق على موقع سيّدة حوقا اسم "جوهرة الوادي" للناحية الجماليّة والأثرية التي يختزنها هذا المكان؛ الاب MILLER  هو عميد كلية العلوم الانسانية في جامعة
.ST.MARY’S (San Antonio Texas)

(20) –يوجد في أسفل سيّدة حوقا كهف طبيعي بُنِي الدير فوقه؛ في سقف هذا الكهف كان يوجد رسومات جدارية أُزيلت كلها منذ سنوات.
(21) –لا تشير الخريطة الى اسم الجُرُف، ولكن التسمية أتت بحسب عرف العامة.
(22) – دويهي توتل، ص22؛ التواريخ المذكورة في حولياته عثر عليها البطريرك الدويهي أثناء بحثه في المخطوطات القديمة وهي اذن مصدر ثقة، لذلك ومن الناحية الأثرية، يُعتبر دير مار جرجس وخاصة كنيسته موقعا" مهمّا". 
(23) – هذا المخطوط يخص مكتبة جامعة Salamanque  في اسبانيا. عنه راجع تابت ريش قربان.
        الاب يوحنا تابت ، ريش قربان ماروني قديم، الكسليك، لبنان، 1988.  
(24) – في سنة 1989 اتصل بنا أحد الأصدقاء منبّها" من مشروع لترميم دير مار جرجس بقرقاشا من قِبَل الأهالي الذين يفتقرون الى     خبرة وقدرة في ترميم هكذا آثار؛ حينها وجّهنا رسالة الى الأب (المرحوم) يواكيم مبارك (تاريخ 8/11/89) شارحين له الوضع، ثم عدنا والتقينا معه وكان جواب الاب مبارك أنَّه حاول عبثا" ثني الأهالي عن ترميم هذا الموقع. 
(25) – هل الطبقة التي كانت تغطّي الكتابة والرسم وُضِعت لإخفاء الدليل على وجود الأحباش بعد رحيلهم من هذا المكان كونهم  "هراطقة" أم لتجديد مِلاط الحائط؟ نحن نعتقد ان الطبقة التي تغطّي الكتابة وُضِعت لتجديد ملاط الكنيسة لأنه كان باستطاعة أولئك الذين أتوا بعد الأحباش إزالتها.
(26)La Roque voyage, p.p.22-23 .
(27) – المرجع السابق.
(28) – دويهي فهد، ص 555؛ الرحّالة Jean de La Roque  أتى على ذكر الناسك الفرنسي الذي استحبس في هذا الكهف.
(29) + البطريرك اسطفانوس الدويهي، تاربخ الازمنة، نشرة الاب فردينان توتل اليسوعي، بيروت، 1951 ص. 145- 146. 
    +  محيي الدين بن عبد الظاهر، الروض الزاهر في سيرة الملك الظاهر، تحقيق ونشر عبد العزيز الخويطر، الرياض، 1976
        ص. 304-305. 
(30) – عن هذا الاكتشاف: Momies du Liban .
(31) – عدم وجود رطوبة وعدم وجود مواد عضوية في ارضية المغارة كانا من بين الاسباب التي حافظت على بعض الاجساد والثياب       والمخطوطات: (Ghossain) Momies du Liban .
(32) – امام الاوضاع المتردّية حينها في لبنان؛ كان لا بد من المحافظة بوسائلنا على المكتشفات لحين تسليمها الى السلطات المختصّة، وُضعت تلك المكتشفات بعهدة احد افراد الجمعية، في غرفة ملائمة، وجُهِّزت الغرفة بكل الوسائل المتاحة لجعل جو المكان كما كان عليه في المغارة من رطوبة لا تتجاوز الحد الذي يؤثّر على المجموعة الأثريّة، خاصة" على الاجساد (التي وضعت في توابيت من Plexiglass  مع مواد كيماوية لابعاد عنها خطر "الفطر") والثياب والمخطوطات والاواني الخشبيّة والحديديّة والجلديّة، والتي نُظِّفت بكل عناية وبحسب الاصول المتّبعة، وهذا ما عاينه خبيران من المتحف البريطاني اللذان زارا الغرفة برفقة أعضاء من مديرية الآثار وأثنياء على عمل الجمعية.
(33) – في تاريخ 7 كانون الاول 1992 وفي المتحف الوطني، أُعلن رسميا" عن هذا الاكتشاف خلال مؤتمر صحفي عقده وزير السياحة             الأستاذ نقولا فتّوش (المديريّة العامة للآثار كانت تتبع في حينها وزارة السياحة) وباشراف المديريّة العامّة للآثار وباشتراك الجمعية اللبنانية للأبحاث الجوفية صاحبة الاكتشاف. ظلّت المكتشفات في عهدة الجمعية لحين تسليمها الى المتحف الوطني في تاريخ 23/11/1994، والأقمشة والثياب في 12/1/1995.                                            
(34) – لها علاقة بالسحر.
(35) – كانت تقيّد أيدي المومياءات.
(36) – واحدة عليها تطريز يمثّل طائري الإبيس Ibis  رمز الخلود.
(37) -  والمعنى: "خاصة بطرس من (قرية) الحدث"؛ الكتابات (من اسماء أو تمنّيات أو دلالات) على الأواني الفخّارية والزجاجية كانت عادة متّبعة في الشرق خاصة في العهد المملوكي، منها مثلا "مشروب الهنا" أو "مأكول الهنا".   
(38) – اناء يوضع فيه زيت وفتيلة للاضائة.
(39) – المفتاح الخشبي كان موضوعا" فوق احدى المومياءات (إمرأة بالغة)، ووضع المفتاح فوق الجثّة له دلالة: بحسب العادات المتّبعة                خاصة في شمال لبنان، فانَّ الشخص المتوفّي اذا كان آخر فرد من العائلة، بمعنى آخر انَّه بوفاته لم يبقَ أحد من أفراد عائلته على قيد الحياة،       فعند خروج جثّته من منزله يعمد المعزّون الى رمي مفتاح البيت على سطحه (سطح البيت)، وهذا يعني انَّ الفقيد بموته قد أقفل المنزل نهائيّا"؛ الظاهر انَّ إمرأة المغارة (المومياء) كانت آخر فرد على قيد الحياة من عائلتها وبموتها أثناء الحصار رمى من كان حولها المفتاح فوقها. 
(40) – الخيط المعقود او المربوط داخل الحجاب يعني "ربط الشرّ".
(41) – واحدة تحمل من جهة اسم السلطان قلاوون ومن الجهة الثانية اسم الخليفة العبّاسي في مصر "الحاكم بأمر الله أبو العبّاس أحمد                    (661-701 هـ)" (قطعة نادرة).
(42) – الشفرة تُطوى داخال المقبض؛ وُجِد سكّين شبيه بمُدْية الحدث، في فرنسا، يعود الى المرحلة الغاليّة
        (Gaulois): .Encyclopédie médiévale, p. 676
(43) – كان النبّال يتفنّن بالرسم او بتلوين خشب السهم بأشكال مختلفة.
(44) – هذا السهم الكامل كان موضوعا" بجانب نصف هيكل عظمي، السهم المكتشف أعطى بعدا" جديدا" في علم تقنيّة القوس والنشّاب                 في القرن 13م في جبل لبنان، والسبب أنَّ الورق المستعمل في الذيل (مكان الريش) يعطي اداء أفضل من الريش: سرعة ومسافة أكبر وتوازن مميّز في مسار النبلة. موارنة جبل لبنان كانوا مشهورين في رمي السهام.
- عن هذا السهم راجع .Momies du Liban. pp. 206-208  
(45) – الحجارة المنحوتة المكوِّنة لقوس العقد (في شرقية الكنيسة) تتعاقب بالنسبة للّون الأسود واللون الأحمر الطوبي.
(46) – حاليا" القسم الأسفل من هذا المنفذ مُغلق بحجارة وذلك لاستعمال الكنيسة زريبة للماعز.
(47) – نشير الى انَّ كنيسة دير مار أبون من بين الكنائس القليلة في منطقة قاديشا التي يلاحظ فيها وجود اثر لسكريستيّا. 
(48) – دويهي توتل، ص 208.
(49) – صديقنا سيمون مارون من عينطورين هو الذي نبّهنا الى وجود هذه المغارة وهو قد تسلّقها مستعينا" بقسم من جذع شجرة كبديل                     لسُلَّم خشبي؛ لكن عند مجيئنا الى المغارة كان جذع الشجرة قد سقط الى أسفل الجُرُف، فكنّا ملزمين على استعمال تقنيّة التسلّق     الاصطناعي في صخر مُفَتَّت.
(50) – بالطبع خارج موسم الثلوج؛ عن هذا الطريق راجع مقالة يعاقبة وأحباش، حاشية 200.
(51) – منذ سنوات، كان لنا لقاء مع رئيس الجمهورية الأسبق الاستاذ سليمان فرنجية، وكانت امنيته ان نصل الى الحجرة الأعلى في هذه        .       المغارة كونه حاول عبثا" الوصول اليها أيام شبابه؛ هذه الأمنية تحقّقت فقط في صيف 1995.
       - أثناء تسلّقنا الى الموقع الأعلى في المغارة، كان همّنا تفادي الحجارة التي كانت تتساقط لمجرّد لمسها؛ لم نكتفِ بالحجرة العليا بل   .         تخطّيناها الى شقّ كبير يعلو الفتحة الاساسية للمغارة. احد الرعاة، الذي شاهدنا ونحن في أعلى الشقّ، سألنا بعفوية اذا كنّا قد        .         ثبّتنا على ظهرنا "جوانح للطيران".     
(52) – ليس بالامكان الجزم فيما يتعلّق بشكل الهندسة المعمارية لهذا العقد، وذلك أنَّ طريقة بنائه غير مستندة على طراز هندسي معيّن؛                                                                                                                                                              .       هذا يعود ربما الى البساطة في الهندسة المعمارية لهذا الموقع ككل.
(53) – هذا الأمر غير مستغرب نظرا" لاستعمال حجارة "كلسيّة-دولوميتيّة" سهلة التفتّت، وميزة المِلاط ايضا" انّه يحمي
        الحجارة هذه من العوامل الطبيعية.   
(54) – هذا الحجر كلسيّ دولوميتيّ وليس الحجر الرمليّ المعروف في الساحل.
(55) – هذا النوع من القماش المضلّع كان يسمّى ابان العهد المملوكي "العتابي"؛ .Makrizi p. 222 
(56) – رهبان دير قنّوبين في القرن 17م ذكروا انَّ العدد (المغاور والكهوف والتجويفات) هو 800،
        راجع .Voyage, p. 20 La Roque 
[18] البطريرك اسطفان الدويهي، مخطوطة الفاتيكان رقم 215، ص 94.
333 في ما يخصّ النسّاخ، انظر مقالة الخورأسقف مخايل الرجّي،"كتاب تاريخ الازمنة للدويهي وثبت النسّاخ في القرن 16"، في الاصول التاريخية، المجلّد الثالث، 1958، ص232_237.
[19] - لبنان الجوفي عدد 5 اذار 1998
[20] - الاب بطرس القبرصي :نذر في دير قزحيا 31 / 12 / 1711، توفي مرسلا" بمدينة عكا سنة 1744 . توجد صورة من عمله للسيدة العذراء من النوع الايليجي في متحف دير طاميش . ذكره اللبودي في احدى رسائله سنة 1731.