الأب جورج صغـبيني
أُنْطُشْ سَيِّدَة المَعُونَاتْ ـ بَعَلْبَكْ
1858 – 2006
لبـنان 2006
كلمة سيادة المطران سمعان عطاالله راعي أبرشية بعلبك- دير الأحمر السامي الإحترام.
بروتوكول 89/2006
دير الأحمر في 30/10/2006
ما من أحد يستطيع أن يفهم أيَّ شيء ولا أن يكون فاعلاً فيه إن لم يعد الى أحداث التاريخ والى الوجوه التاريخيّة وظروف الزمان والمكان والى الفكر الذي وراءه أو في رأس الفاعلين فيه وفي تاريخ الشعوب.
في تموز الماضي 2006، هبّت حرب على لبنان ظلماً وبشكلٍ حاقد وبإرادة، مصمّمة على توجيه الأذى اللعين الى وطن، عُرف بأنه حامل رسالة تاريخيّة عريقة؛ أن مسبّبي هذه الحرب صبّوا حمم صواريخٍ مدمّرة على مدينة بعلبك، طبعاً بشكلٍ مدروس جداً، ولكن ورغم ذلك فإنها، بأزيزها وضجّتها والرعيد دمّرت مناعة الآثارات القائمة، وحفرت حفراً عميقة تمحو تلك الآثارات الدفينة التي تحفظها الطبيعة باحترام. في هذه الحرب المشؤومة، وأنا أنظر الى بعلبك، مقهوراً وثائراً، كنت أقول أين هي الدول حامية الآثارات والتراثات والتاريخ؟ أين هي المؤسسات الدوليّة التي تأخذ على ذاتها حماية التراثات والحضارات وتردع بقوانينها وعملها القوى الشيطانيّة المعادية الهمجيّة وتثنيها عن مسّها بأي أذية؟!
في مثل هذه الأجواء أطلّ عليًّ راهب ملتحٍ، طويل القامة، ووضع بين يديّ صفحات، ملأها بنتاج فكره حول تاريخ حضور رهباني على عتبة هياكل بعلبك، ذروة فنّ الأمبراطوريّة الرومانيّة وحضارتها المعماريّة، التي ما زالت حتى اليوم، تطلع من حناياها رائحة بخور، أحرقته كهنة باعال أمام آلهتهم الخرساء. ان عظمتها تحدّثك عن بطولات القادة الرومان في حروبهم مع مناوئيهم من سائر قادة الشعوب غير الخاضعة لسلطانهم الروماني المستكبر.
في وجه مجموعة الهياكل الرومانيّة في هليوبوليس، مدينة الشمس, رفع رهبان، أتوا من الجبل اللبناني الأخضر، مداميك دير صغير، ألقوا عليه لقب الأنطش، ليعبدوا ، في كنيسته، المكرّسةِ على اسم سيّدة المعونات، الله الحي، الناطق بالأنبياء والمبشّر، بواسطة رسل ابنه الأوحد المتجسّد، بإنجيل الخلاص لجميع أبناء البشر.
والأب جورج الصغبيني، ابن بلدة الطيبة، من جارات بعلبك الخالدة، الحارسةِ أبوابَها والمذكّرة بِطبيعتها الجغرافيّة بجبل سيناء وما يحمل من رموز، وابن رهبنة، ارتبط تاريخها بتاريخ الجبل الأشم لبنان، وأعطت من أبنائها قديسين، رفعتهم الكنيسة على مذابحها، إن الأب جورج هذا أحبّ أن يسلّط الضوء على هويّة هذا الأنطش، وأن يحدّثنا بالكلمة والصورة، عن الحضور الرهباني الفاعل الذي ذكرت، وعن خدمة الرهبان في الحقول الروحيّة والرعويّة والإنمائيّة.
أنطش سيّدة المعونات في بعلبك،تاريخ صُنع، على مدى أكثر من قرن ونصف، من التعبّد والزهد والكرازة والأنجلة والرعاية والشهادة. تاريخ، يضع الأب جورح الصغبيني، الراهب اللبناني "الطيّب"، عناوينه أمام أعيننا للتثمين والعبرة؛ تاريخ يكوّن دليلاً واضحاً لدراساتٍ معمّقة، تكشف لنا عن أهداف هذا الحضور الرهباني ودوره في النيابة الأسقفيّة، التي أؤتمن عليها على مدى عقود، بخاصة على طول المنطقة الشرقيّة للأبرشيّة وعلى اتساع السهل، أهراء روما قديماً. فالسنين الطويلة قي حوار بين الأديان والثقافات وخبرة العيش معاً، تذكّرنا بالحوارات التي كانت تتمّ بين فقهاء الدين الإسلامي ولاهوتيّي الحياة المسبحيّة، وتكوّن اليوم قاعدة صالحة لحوار الحياة الواعي والمسؤول والواعد من أجل شهادة أكثر فاعليّة اليوم وأقوى تجلّياً للأخوّة الشاملة والإحترام المتبادل لبناء السلام المنشود
فالشكر للأب العزيز جورح الصغبيني على الجهود التي بذلها من أجل وضع هذه المعطيات التي ذكرت في متناول محبّي المعرفة وحاملي مسؤوليّة الرسالة الكنسيّة في هذه المنطقة الحبيبة، الغنيّة بالتاريخ المجيد وبالمواقع الآثاريّة العديدة وبالتراثات الإنسانيّة الفنيّة والحضاريّة والرسوليّة. كافأه الله على تعبه وجازاه بتعزية رؤية من يأخذ هذه المعطيات بجدّية ويكشف عن أسرارها وأبعادها المطموسة تحت تراب هذه المنطقة ووراء رموزها الناطقة والتي نراها في المعالم غير المحصاة في بعلبك بالذات أو في مناطقنا، كما وفي المخطوطات، المحفوظة منها والمطمورة في أمكنة لا بدّ وأن يُكشف عنها. الى ذلك فهناك التاريخ الإنساني، وهو الأهم، الذي دوّنته حياة الرهبان الذين تعاقبوا على الأنطش المذكور، وسجّلته خبراتهم الحياتيّة اليوميّة، لا سيّما وان الحوار في بلادنا مبني، أساساً، على حوار الحياة، الذي كان وما يزال وسيبقى رصيدنا الأغنى والأفعل للتفاعل والسير معاً نحو الحقيقة الواحدة. أو لسنا شهوداً أولاً وآخراً على ارادة الله الخلاصيّة الشاملة والنابعة من محبّته غير المحدودة زماناً ومكاناً؟
لك محبّتي، أبت جورج، مع الدعاء.
المطران سمعان عطالله راعي أبرشة بعلبك- دير الأحمر المارونية
إهداء
إلى الرهبان الذين أتوا، إلى عمق الأريوباغوس البقاعي، ليبنوا لهم فيه معبداً، ويحوّلوه من معبد للآلهة المجهولة، إلى معبد لأم إله الآلهة سيّدة المعونات.
إلى الرهبان الذين نزلوا، من جبال لبنان، إلى سهل أهراء روما، ليحوّلوا مواسم الحصاد البشرية، إلى أهراء في كنيسة سيدة المعونات، تحسّباً للسنوات العجاف الإيمانيّة.
إلى الرهبان الذين رعوا القطيع، وسهروا عليه يوم هرب الأجراء، من وجه الذئاب.
إلى الرهبان الذين هم الأعمدة الثابتة، في وجه غدر الزمن، الذين يقرأ التاريخ في صفحات عباءاتهم السوداء الحالكة، قصّة الرايات البيضاء، في علائق الودّ والتعايش، فكانوا مرجعيّة المجتمع البقاعيّ، يستظلّها طالبو الأمن والطمأنينة والكفاف وسدّ العوز.
إلى الرهبان الذين خدموا هذه المنطقة من لبنان، يوم كانت خارجة عنه، فاستظلّوا شعبها وأعادوها من التيه إلى وحدة الوطن.
إلى الرهبان الذين لاقوا الجَور والاضطهاد، في سبيل الحفاظ على البقاء في مدينة الشمس فكانوا فيها كالكواكب يشعّون ضياءً في سماء المنطقة وقداسة وعلماً ًوبطولة.
وأخيراً إلى المؤسّس، وباني أول مدماك في هذا الصرح الديني والروحي والإجتماعي والثقافي، الأب دانيال العلم الحدثي، الذي عرف بقديس قرطبا رزقنا الله شفاعته. وإلى جميع الرهبان الذين خلفوه في خدمة هذه المنطقة، وقد نسيتهم كتب التاريخ وعرفان الجميل... نعيدهم اليوم في هذا المختصر إلى الذاكرة.
الأب جورج صغبيني
تمهيد
مدينة الآلهة التي بناها الجبابرة الذين لم يُعرف لهم نسب ولم تُعرف لهم أمّ، يتيمة بقيت هذه الآلهة، إلى أن جاء الرهبان اللبنانيون الموارنة وبنوا معبداً لأم الإله فيها تجمع شملَهم.
مدينة الماء والينابيع والأعمدة والأشجار الباسقة والأرض المعطاء، كانت تنقصها قصة الرهبان وتواجودهم فيها، من منبع مياه العاصي إلى داخل أسوار أهراء روما البقاعيّة.
مدينة الآثار والأطلال المندرسة، منذ ما قبل التاريخ، من يكتب قصتها في ذاكرة الناس عبر الأجيال، غير دماء الرهبان القديسين وعرق جباه الفلاحين وصمود أبنائها.
مدينة أم العجائب السبع، التي يأتيها السائحون، ويدخلون إليها في أوقات لَهوهم، فيخرجون، منها، أقزاماً، وعلى محيّاهم سؤال وفي قلوبهم عَجَب، عن هذه القلعة التي لا قلاع ولا حصون تضاهيها.
مدينة؟ لا، بل أمّ المدائن وأمّ الحضارات يوم كان الجميع عُرباً رُحَّلا يؤمّونها ليجدوا فيها أمناً ورغيفاً.
من مدينة الشمس التي، لا ينطفئ، نورها في الليالي الحالكات. كان البعل الحامي صحراء البقاع، ساهراً، في مترسته على حدود طول السهل وعرضه.
مدينة أضحت أطلالاً مندرسة،
يرهبك الدخول إليها،
لا تزال أسرارها غير مكشوفة.
سرّها الكبير، طُمس، مع معالمها.
لا يعرف التاريخ قراءة أبجدية تكوينها،
ولا علم الآثار يكنه مدلولات اندثارها.
كأنها قطعت من كوكب جبابرة، سقطت سهواً، في هذه البقعة من الأرض. لتذكّرنا بأننا من أبناء الجبابرة والآلهة الذين سكنوا في هذه القلعة وأقاموا في هذا السهل، فأشبعوا الملايين من الناس، في غابر الزمن، وهم اليوم أشد عوزا من الجياع والمحرومين...
المؤلف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق