2017/03/04

بنـاء الكنائـس والمعـابـد فـي بـلاد المسلميـن الأب جورج صغبيني




بنـاء الكنائـس والمعـابـد فـي بـلاد المسلميـن

 
ورد في بناء الكنائس والبيع وسائر المعابد في الأحاديث النبوية وكلام أهل العلم في المذاهب الأربعة، وفي رسالتين للإمام أبي العباس ابن تيمية. خاصة ببناء الكنائس في بعض البلاد الإسلامية وبعض دول الجزيرة العربية.
وقد أجمع العلماء على تحريم بناء الكنائس في البلاد الإسلامية، وعلى وجوب هدمها إذا أُحدثت، وعلى أن بناءها في الجزيرة العربية كنجد والحجاز وبلدان الخليج واليمن أشد إثما وأعظم جرما. لأن الرسول  أمر بإخراج اليهود والنصارى والمشركين من جزيرة العرب، ونهى أن يجتمع فيها دينان، وتبعه أصحابه في ذلك.
ولما استخلف عمر أجلى اليهود من خيبر عملا بهذه السنة، لأن الجزيرة العربية هي مهد الإسلام ومنطلق الدعاة ومحل قبلة المسلمين فلا يجوز أن ينشأ فيها بيت لعبادة غير الله سبحانه كما لا يجوز أن يقر فيها من يعبد غيره.
حتى تطهر بلاد المسلمين عموما والجزيرة العربية خصوصا من جميع المعابد الشركية، وأن يوفق ولاة أمر المسلمين إلى إزالتها والقضاء عليها طاعة لله سبحانه وامتثالا لأمر رسوله وسيرا على منهج سلف الأمة وتحقيقا لما دعا إليه علماء الإسلام من إزالة الكنائس والمعابد الشركية المحدثة في بلاد المسلمين.


منع إحداث الكنائس في بلاد الإسلام في الأحاديث نذكر منها:
ما روى أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حبان المعروف بأبي الشيخ في كتاب شروط الذمة، قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن الحارث، عن كثير بن مرة قال: سمعت عمر بن الخطاب  يقول: قال رسول الله "لا تُحدثُوا كنيسة في الإسلام ولا تُجددوا ما ذَهَب منها" أي ما تهدّم.
وروى أبو أحمد عبد الله بن عدي الحافظ الجرجاني في كتابه "الكامل" عن كثير بن مرة قال: سمعت عمر بن الخطاب  يقول: قال رسول الله" لا نذر في معصية، ولا يمين في معصية، وكفارته كفارة يمين.
وقال ابن عدي بإسناده: قال رسول الله" لا تبنى كنيسة في الإسلام ولا يجدد ما خرب منها".
وروى أبو داود في باب إخراج اليهود من جزيرة العرب من سننه وهو من أبواب كتاب الخراج والفيء، والترمذي في كتاب الزكاة من جامعه.  قال أبو داود ج 2 ص 148" حدثنا سليمان بن داود العتكي، عن ابن عباس قال: قال رسول الله  : لا تكون قبلتان في بلد واحد.
وقال الترمذي في: " باب ما جاء ليس على المسلمين جزية " حدثنا يحيى بن أكثم، عن ابن عباس قال: قال رسول الله  « لا تصلح قبلتان في أرض واحدة وليس على المسلمين جزية «  
وقد ذكر شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية في فتوى له، في الكنائس ذكرها ابن القيم في كتاب أحكام أهل الذمة (2 / 685) ذكر أن حديث: « لا تكونُ قبلتانِ في بلدٍ واحد « «روى أحمد وأبو داود بإسناد جيد، وجزم بأن شرط عمر في شروطه المشهورة أن لا يجددوا في مدائن الإسلام ولا فيما حولها كنيسة ولا صومعة ولا ديرا ولا قلاية؛ امتثال من عمر لهذا الحديث « لا تكون قبلتان في بلد واحد « .
وما روى أبو داود في " باب الإقامة بأرض الشرك " من سننه (2 / 84) قال: " قال رسول الله  « من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله « .
وقال السبكي في فتواه في منع ترميم الكنائس ص 375 من الجزء الثاني من فتاوى السبكي قال: " قال: قال رسول الله   « لا تُسَاكِنُوا المشركينَ ولا تُجَامِعُوهم، فَمنْ سَاكَنَهُم أو جامعهم فَهو مِثلُهم « ، وذكر السبكي أن هذا الحديث هو معنى الحديث الأول، وأن الكتابي يسمى مشركا، فالحديث على ذلك يشمله عنده فيستدل به على تحريم مساكنته، ثم قال: " والمساكنة إن أخذت مطلقة في البلد يلزم أن لا يكون لهم في تلك البلد كنيسة؛ لأن الكنيسة إنما تبقى لهم بالشرط إذا كانوا فيها ".
وروى مالك في " ما جاء في إجلاء اليهود من المدينة "، من الموطأ عن إسماعيل بن أبي حكيم أنه سمع عمر بن عبد العزيز يقول: " كان من آخر ما تكلم به رسول الله  أن قال: « قاتل الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد لا يبقين دينان بأرض العرب « . وروى مالك أيضا في ذلك الباب عن ابن شهاب: أن رسول الله  قال: « لا يجتمع دينان بجزيرة العرب « . قال مالك: قال ابن شهاب: ففحص عن ذلك عمر بن الخطاب حتى أتاه اليقين أن رسول الله  قال: « لا يجتمع دينان في جزيرة العرب « . فأجلى يهود خيبر.
قال مالك: " وقد أجلى عمر بن الخطاب يهود نجران وفدك. فأما يهود خيبر فخرجوا منها ليس لهم من الثمر ولا من الأرض شيء. وأما يهود فدك فكان لهم نصف الثمر ونصف الأرض؛ لأن رسول الله  كان صالحهم على نصف الثمر ونصف الأرض فأقام لهم عمر نصف الثمر ونصف الأرض قيمة من ذهب وورق، وإبل وحبال وأقتاب، ثم أعطاهم القيمة ثم أجلاهم منها ".
وورد في رواية مالك الأخيرة فقال عمر لليهود: " من كان منكم عنده عهد من رسول الله فليأت به وإلا فإني مجليكم ". وروى أحمد في مسنده موصولا عن عائشة ولفظه عنها قالت: « آخر ما عهد رسول الله  أن لا يترك بجزيرة العرب دينان « .
وروى أحمد بن حنبل وأبو عبد القاسم بن سلام عن توبة بن نمر عمن أخبره: قال: قال رسول الله  « لا خِصَاء في الإسلام ولا كنيسة « .
وقال أبو عبيد في كتاب الأموال: قال رسول الله  « لا خصاء في الإسلام ولا كنيسة «
وقال أبو الحسن علي بن عبد الكافي السبكي في فتوى له في منع ترميم الكنائس في ج 2 من فتاوى السبكي ص 374 بعد إيراده هذا الحديث من طريقي الإمامين أحمد بن حنبل وأبي القاسم بن سلام: " استدلوا به على عدم إحداث الكنائس، ولو قيل إنه شامل للإحداث والإبقاء لم يبعد، ويخص منه ما كان بالشرط بدليل ويبقى ما عداه على مقتضى اللفظ، وتقديره: لا كنيسة موجودة شرعا ".
وروى أبو عبيد القاسم بن سلام في " كتاب الأموال " قال: " حدثني أبو الأسود قال: قال عمر بن الخطاب: " لا كنيسة في الإسلام ولا خصاء "
وروى علي بن عبد العزيز قال: قال عمر بن الخطاب  " لا كنسية في الإسلام ولا خصاء " .
وقد ورد في الشروط المشهورة عن عمر بن الخطاب  " أن لا يجددوا في مدائن الإسلام ولا فيما حولها كنيسة ولا صومعة راهب ولا قلاية ".
نص "الشروط العمرية"
قال الخلال في كتاب " أحكام أهل الملل ": حدثنا غير واحد من أهل العلم قالوا: كتب أهل الجزيرة إلى عبد الرحمن بن غنم " إنا حين قدمت بلادنا طلبنا إليك الأمان لأنفسنا وأهل ملتنا على أنا شرطنا على أنفسنا أن لا نحدث في مدينتنا كنيسة ولا فيما حولها ديرا ولا قلاية ولا صومعة راهب ولا نجدد ما خرب من كنائسنا ولا ما كان منها في خطط المسلمين، وأن لا نمنع كنائسنا من المسلمين أن ينزلوها في الليل والنهار، وأن نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل، ولا نؤوي فيها ولا في منازلنا جاسوسا، وأن لا نكتم غشا للمسلمين، وأن لا نضرب بنواقيسنا إلا ضربا خفيا في جوف كنائسنا، ولا نظهر عليها صليبا ولا نرفع أصواتنا في الصلاة ولا القراءة في كنائسنا فيما يحضره المسلمون، وأن لا نخرج صليبا ولا كتابا في سوق للمسلمين، وأن لا نخرج باعوثا - قال: والباعوث يجتمعون كما يخرج المسلمون يوم الأضحى والفطر - ولا شعانين، ولا نرفع أصواتنا مع موتانا، ولا نظهر النيران معهم في أسواق المسلمين، وأن لا نجاورهم بالخنازير ولا يبيع الخمور، ولا نظهر شركا ولا نرغب في ديننا ولا ندعو إليه أحدا، ولا نتخذ شيئا من الرقيق الذي جرت عليه سهام المسلمين، وأن لا نمنع أحدا من أقربائنا أرادوا الدخول في الإسلام، وأن نلزم زينا حيثما كنا، وأن لا نتشبه بالمسلمين في لبس قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر ولا في مراكبهم ولا نتكلم بكلامهم ولا نكتني بكناهم، وأن نجز مقادم رؤوسنا ولا نفرق نواصينا ونشد الزنانير على أوساطنا، ولا ننقش خواتمنا بالعربية، ولا نركب السروج، ولا نتخذ شيئا من السلاح ولا نحمله ولا نتقلد السيوف، وأن نوقر المسلمين في مجالسهم ونرشدهم الطريق، ونقوم لهم عن المجالس إن أرادوا الجلوس، ولا نطلع عليهم في منازلهم، ولا نعلم أولادنا القرآن، ولا يشارك أحد منا مسلما في تجارة إلا أن يكون إلى المسلم أمر التجارة، وأن نضيف كل مسلم عابر سبيل ثلاثة أيام ونطعه من أوسط ما نجد. ضمنا لك ذلك على أنفسنا وذرارينا وأزواجنا ومساكيننا، وإن نحن غيرنا أو خالفنا عما شرطنا على أنفسنا وقبلنا الأمان عليه فلا ذمة لنا وقد حل لك منا ما يحل من أهل المعاندة والشقاق ".
فكتب بذلك عبد الرحمن بن غنم إلى عمر بن الخطاب، فكتب إليه عمر: " أن أمض لهم ما سألوا والحق فيهم حرفين اشترطهما عليهم مع ما شرطوا على أنفسهم: أن لا يشتروا من سبايانا، ومن ضرب مسلما فقد خلع عهده ".
فأنفذ عبد الرحمن بن غنم ذلك وأقر من أقام من الروم في مدائن الشام على هذا الشرط .

وذكر‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌ سفيان الثوري ‌‌‌‌‌‌‌‌‌قال: ‌‌‌‌كتبت لعمر بن الخطاب  حين صالح نصارى الشام وشرط عليهم فيه أن لا يحدثوا في مدينتهم ولا فيما حولها ديرا ولا كنيسة ولا قلاية ولا صومعة راهب، ولا يجددوا ما خرب، ولا يمنعوا كنائسهم أن ينزلها أحد من المسلمين ثلاث ليال يطعمونهم، ولا يؤووا جاسوسا، ولا يكتموا غشا لمسلمين، ولا يعلموا أولادهم القرآن، ولا يظهروا شركا، ولا يمنعوا ذوي قراباتهم من الإسلام إن أرادوه، وأن يقروا المسلمين، وأن يقوموا لهم من مجالسهم إذا أرادوا الجلوس، ولا يتشبهوا بالمسلمين في شيء من لباسهم ولا يتكنوا بكناهم، ولا يركبوا سرجا، ولا يتقلدوا سيفا، ولا يبيعوا الخمور، وأن يجزوا مقادم رؤوسهم، وأن يلزموا زيهم حيثما كانوا، وأن يشدوا الزنانير على أوساطهم، ولا يظهروا صليبا ولا شيئا من كتبهم في شيء من طرق المسلمين، ولا يجاوروا المسلمين بموتاهم، ولا يضربوا بالناقوس إلا ضربا خفيا، ولا يرفعوا أصواتهم بالقراءة في كنائسهم في شيء من حضرة المسلمين، ولا يخرجوا شعانين، ولا يرفعوا أصواتهم مع موتاهم، ولا يظهروا النيران معهم، ولا يشتروا من الرقيق ما جرت فيه سهام المسلمين.
فإن خالفوا شيئا مما شرطوه فلا ذمة لهم، وقد حل للمسلمين منهم ما يحل من أهل المعاندة والشقاق.

وقال الربيع بن تغلب: كتبت لعمر بن الخطاب  حين صالح نصارى أهل الشام:
" بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصارى مدينة كذا وكذا: إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا وأهل ملتنا، وشرطنا لكم على أنفسنا أن لا نحدث في مدائننا ولا فيما حولها ديرا ولا قلاية ولا كنيسة ولا صومعة راهب، فذكر نحوه ".
وقال الإمام ابن القيم بعد أن أورد في كتابه " أحكام الذمة ": " وشهرة هذه الشروط تغني عن إسنادها، فإن الأئمة تلقوها بالقبول وذكروها في كتبهم واحتجوا بها، ولم يزل ذكر الشروط العمرية على ألسنتهم وفي كتبهم، وقد أنفذها بعده الخلفاء وعملوا بموجبها.
ذكر أبو القاسم الطبري من حديث أحمد بن يحيى الحلواني قال: حدثنا عبيد بن جياد، حدثنا عطاء بن مسلم الحلبي، عن صالح المرادي، عن عبد خير قال: رأيت عليا صلى العصر فصف له أهل نجران صفين، فناوله رجل منهم كتابا فلما رآه دمعت عينه ثم رفع رأسه إليهم فقال: يا أهل نجران هذا والله خطي بيدي وإملاء رسول الله  فقالوا: يا أمير المؤمنين، أعطنا ما فيه، قال: ودنوت منه فقلت: إن كان رادا على عمر يوما فاليوم يرد عليه، فقال: لست براد على عمر شيئا صنعه، إن عمر كان رشيد الأمر، وإن عمر أخذ منكم خيرا مما أعطاكم، ولم يجر عمر ما أَخذ منكم إلى نفسه إنما أجراه لجماعة المسلمين ".
وذكر ابن المبارك عن الشعبي أن عليا  قال لأهل نجران: " إن عمر كان رشيد الأمر ولن أغير شيئا صنعه عمر " وقال الشعبي: قال علي حين قدم الكوفة: " ما جئت لأحل عقدة شدها عمر ".
قال عبد الرزاق في " المصنف " (6 /60) عن ابن التيمي، قال: سئل ابن عباس هل للمشركين أن يتخذوا الكنائس في أرض العرب؟ فقال ابن عباس: " أما مصر المسلمون فلا ترفع فيه كنيسة ولا بيعة ولا بيت نار ولا صليب ولا ينفخ فيه بوق ولا يضرب فيه ناقوس ولا يدخل فيه خمر ولا خنزير. وما كان من أرض صولحت صلحا فعلى المسلمين أن يفوا لهم بصلحهم ". و"مصر المسلمون": ما كانت من أرض العرب أو أخذت من أرض المشركين عنوة.
‌‌‌‌وقال أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا معتمر بن سليمان، عن أبيه، قال: قيل لابن عباس: أللعجم أن يحدثوا في أمصار المسلمين بناء أو بيعة؟
فقال: أما مصر مصّرته العرب فليس للعجم أن يبنوا فيه بناء - أو قال بيعة - ولا يضربوا فيه ناقوسا ولا يشربوا فيه خمرا ولا يتخذوا فيه خنزيرا أو يدخلوا فيه. وأما مصر مصّرته العجم ففتحه الله على العرب فنزلوا (يعني عليهم) فللعجم ما في عهدهم، وللعجم على العرب أن يوفوا بعهدهم ولا يكلفوهم فوق طاقتهم.
وقال أحمد بن حنبل: حدثنا معتمر بن سليمان التيمي، عن أبيه، قال: سئل ابن عباس عن أمصار العرب أو دار العرب هل للعجم أن يحدثوا فيها شيئا؟  فقال: " أيُّما مِصر مَصَّرَتْهُ العربُ فَلَيسَ للعَجمِ أن يبنوا فيهِ ولا يضربُوا فيه ناقوسا ولا يشربوا فيهِ خمرا ولا يتخِذُوا فيه خنزيرا، وأيما مصر مصّرتهُ العجمُ ففتحه الله على العرب فنزلوا فيهِ فإن للعجم ما في عهدهمِ وعلى العربِ أن يوفُوا بعهدهم ولا يُكلفوهم فوق طاقتهم .
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام في " كتاب الأموال " ص 97: " سمعت علي بن عاصم يحدث عن ابن عباس قال: " أيما مصر مصرته العرب ليس لأحد من أهل الذمة أن يبنوا فيه بيعة، ولا يباع فيه خمر، ولا يقتنى فيه خنزير، ولا يضرب فيه بناقوس، وما كان قبل ذلك فحق على المسلمين أن يوفوا لهم به " .
والإمام أبو عبيد شرح هذا الحديث حيث قال في كتاب الأموال ص 97 - 100: " كل مصر مصرته العرب " يكون التمصير على وجوه: فمنها: البلاد التي يسلم عليها أهلها مثل المدينة والطائف واليمن، ومنها: كل أرض لم يكن لها أهل فاختطفها المسلمون اختطافا ثم نزلوها مثل الكوفة والبصرة وكذلك الثغور.
ومنها: كل قرية افتتحت عنوة فلم ير الإمام أن يردها إلى الذين أخذت منهم، ولكنه قسمها بين الذين افتتحوها كفعل رسول الله  بأهل خيبر.
فهذه أمصار المسلمين التي لا حظّ لأهل الذمة فيها، إلا أن رسول الله  كان أعطى خيبر اليهود معاملة لحاجة المسلمين كانت إليهم، فلما استغنى عنهم أجلاهم عمر وعادت كسائر بلاد الإسلام. فهذا حكم أمصار العرب، وإنما نرى أن أصل هذا من قول رسول الله  « أخرجوا المشركين من جزيرة العرب « .
وحدثنا حجاج عن حماد بن سلمة عن أبي الزبير عن جابر قال: « أمر رسول الله  بإخراج اليهود من جزيرة العرب « .
وحدثنا يزيد عن حماد عن أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله  « لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلما « . قال: فأخرجهم عمر .
وحدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ومحمد بن عبيد عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: أجلى عمر المشركين من جزيرة العرب وقال: " لا يجتمع في جزيرة العرب دينان ". وضرب لمن قدم منهم أجلا قدر ما يبيعون سلعهم.
وحدثنا أبو معاوية عن الأعمش، قال: جاء أهل نجران إلى علي  فقالوا: شفاعتك بلسانك وكتابك بيدك، أخرجنا عمر من أرضنا فردها إلينا صنيعة، فقال: ويلكم إن عمر كان رشيد الأمر فلا أغير شيئا صنعه عمر. وقال أبو معاوية عن الأعمش: كانوا يقولون: لو كان في نفسه عليه شيءٌ لاغتنم هذا.
وحدثنا أبو معاوية عن حجاج يقول: قال علي  لما قدم هاهنا - قال أبو عبيد: يعني الكوفة - ما قدمت لأحل عقدة شدها عمر. قال أبو عبيد: وإنما نرى عمر استجاز إخراج أهل نجران - وهم أهل صلح - لحديث يروى عن النبي  فيهم، يحدثونه عن إبراهيم بن ميمون عن أبي عبيدة بن الجراح عن النبي  أنه كان آخر ما تكلم به أن قال: « أخرجوا اليهود من الحجاز، وأخرجوا أهل نجران من جزيرة العرب « . قال أبو عبيد: وإنما نراه قال ذلك  لنكث كان منهم أو لأمر أحدثوه بعد الصلح، وذلك بيّن في كتاب كتبه عمر إليهم قبل إجلائه إياهم منها.
وحدثنا ابن أبي زائدة قال: قال لي محمد بن سيرين: انظر كتابا قرأته عند فلان بن جبير فكلم فيه زياد بن جبير قال: فكلمته فأعطاني، فإذا في الكتاب:
" بسم الله الرحمن الرحيم، من عمر أمير المؤمنين إلى أهل رعاش كلهم، سلام عليكم، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فإنكم زعمتم أنكم مسلمون ثم ارتدتم بعد، وإنه من يتب منكم ويصلح لا يضره ارتداده، ونصاحبه صحبة حسنة، فادكروا ولا تهلكوا، وليبشر من أسلم منكم، فمن أبى إلا النصرانية فإن ذمتي بريئة ممن وجدناه بعد عشر تبقى من شهر الصوم من النصارى بنجران.
أما بعد: فإن يعلى كتب يعتذر أن يكون أكره أحدا منكم على الإسلام أو عذبه عليه إلا أن يكون قسرا جبرا ووعيدا لم ينفذ إليه منه شيء.
أما بعد: فقد أمر يعلى أن يأخذ منكم نصف ما عملتم من الأرض وإني لن أريد نزعها منكم ما أصلحتم.
قال أبو عبيد: فهذه الأمصار التي ذكرنا في صدر هذا الباب - أي: باب ما يجوز لأهل الذمة أن يحدثوا، - وأشباهها مما مصّر المسلمون هي التي لا سبيل لأهل الذمة فيها إلى إظهار شيء من شرائعهم.
وأما البلاد التي لهم فيها السبيل إلى ذلك فما كان منها صلحا صولحوا عليه، فلن ينتزع منهم، وهو تأويل قول ابن عباس: " وما كان قبل ذلك فحق على المسلمين أن يوفوا لهم به ".
فمن بلاد الصلح: أرض هجر والبحرين وأيلة ودومة الجندل وأذرح، فهذه القرى التي أدت إلى رسول الله  الجزية فهي على ما أقرهم عليه، وكذلك ما كان بعده من الصلح منه: بيت المقدس، افتتحه عمر بن الخطاب صلحا، وكذلك مدينة دمشق افتتحها خالد بن الوليد صلحا وعلى هذا مدن الشام كانت كلها صلحا دون أرضها على يدي يزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة وأبي عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد، وكذلك بلاد الجزيرة يروى أنها كلها صلحٌ صالحهم عليها عياض بن غنم، وكذلك قبط مصر صالحهم عمرو بن العاص، وكذلك بلاد خراسان يقال إنها أو أكثرها صلحٌ على يدي عبد الله بن عامر بن كريز، وكان منتهى ذلك إلى مرو الروذ، وهذا في زمن عثمان.
وأما ما وراء ذلك فإنها افتتحت بعد على يدي سعيد بن عثمان بن عفان والمهلب بن أبي صفرة وقتيبة بن مسلم وغيرهم.
قال أبو عبيد: فهؤلاء على شرطهم لا يحال بينهم وبينها، وكذلك كل بلاد أخذت عنوة فرأى الإمام ردها إلى أهلها وإقرارها في أيديهم على ذمتهم ودينهم، كفعل عمر بأهل السواد، وإنما أخذ عنوة على يدي سعد. وكذلك بلاد الشام كلها عنوة ما خلا مدنها على يدي يزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة وأبي عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد. وكذلك الجبل أخذ عنوة في وقعة جاولاءَ ونهاوند على يدي سعد بن أبي وقاص والنعمان بن مقرن، وكذلك الأهواز أو أكثرها، وكذلك فارس على يدي أبي موسى الأشعري وعثمان بن أبي العاص وعتبة بن غزوان وغيرهم من أصحاب النبي  وكذلك المغرب على يدي عبد الله بن سعد بن أبي سرح.
حدثنا عبد الله بن صالح عن موسى بن علي بن رباح عن أبيه قال: المغرب كله عنوة.
قال أبو عبيد: وكذلك الثغور، حدثنا هشام بن عمار عن يزيد بن سمرة، عن الحكم بن عبد الرحمن بن أبي العصماء الخثعمي، وكان ممن شهد فتح قيسارية، قال: حاصرها معاوية سبع سنين إلا أشهرا ثم فتحوها وبعثوا بفتحها إلى عمر بن الخطاب فقام عمر فنادى: ألا إن قيسارية فتحت قسرا. قال أبو عبيد: " فهذه بلاد العنوة وقد أقر أهلها فيها على مللهم وشرائعهم.
وقد قال السبكي في فتواه في منع ترميم الكنائس (2 /393): الذي اقتضاه أنه لا شيء يبقى من الكنائس إلا بعهد حيث يجوز العهد " كما ذكر في كلامه على أثر ابن عباس (2 /391) وهذا نصه: " قد أخذ العلماء بقول ابن عباس هذا وجعلوه مع قول عمر وسكوت بقية الصحابة إجماعا ".
قال أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرني معمر قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عروة - يعني ابن محمد - أن يهدم الكنائس التي في أمصار المسلمين، قال: وشهدت عروة بن محمد يهدمها بصنعاء ". ذكر هذه الرواية بسندها ومتنها شمس الدين بن القيم في " أحكام أهل الذمة " (2 /676) وقد روى عبد الرزاق في مصنفه (6 /59) تحت عنوان " هدم كنائسهم وهل يضربوا بناقوسهم " هذا الأثر عن عمّه وهب بن نافع: " كتب عمر بن عبد العزيز إلى عروة بن محمد أن يهدم الكنائس التي في أمصار المسلمين، قال: فشهدت عروة بن محمد ركب حتى وقف عليها ثم دعاني فشهدت على كتاب عمر وهدم عروة إياها فهدمها ". ولا يناقض هذا ما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن حفص بن غياث عن أبي بن عبد الله النخعي قال: جاءنا كتاب عمر: " لا تهدم بيعة ولا كنيسة ولا بيت نار صولحوا عليه " ؛ لأن قوله: " صولحوا عليه " قيد لا بد منه ؛ لأنه لم يقل أحد بإبقائها من غير صلح ولم يقل فيه ببلاد الإسلام فهو عام، والذي تقدم - أي كتابة عمر بن عبد العزيز على عروة بن محمد بهدمها - خاص ببلاد الإسلام ويكون هذا - أي قول عمر في رواية ابن عبد الله النخعي: " لا تهدم بيعة ولا كنيسة ولا بيت نار صولحوا عليه " في بلاد المجوس وبلاد النصارى التي صولحوا عنها.
وعن عمر بن عبد العزيز جمع السبكي في فتواه في منع ترميم الكنائس ج2 من فتاوى السبكي ص390-391 بين الروايتين المنقولتين عن عمر بن عبد العزيز. وقال شمس الدين بن القيم في أحكام أهل الذمة (2 /690): " وقد كتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله أن لا تهدموا كنيسة ولا بيعة ولا بيت نار " ولا يناقض هذا ما حكاه الإمام أحمد أنه أمر بهدم الكنائس، فإنها التي أحدثت في بلاد الإسلام.
وروى عبد الرزاق في مصنفه (6 /60) قال: " أخبرنا معمر عن رجل عمن سمع الحسن قال: " من السنة أن تهدم الكنائس التي بالأمصار القديمة والحديثة ". وعن عبد الرزاق روى الإمام أحمد بن حنبل كما في " أحكام أهل الذمة " (2 /676) قال: " قال عبد الرزاق وأخبرنا معمر عمن سمع الحسن يقول: إن من السنة أن تهدم الكنائس التي في الأمصار القديمة والحديثة ".
وقد ورد في هدم الكنائس مرفوعا ما أخرجه أبو الشيخ ابن حبان قال عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله  « اهدموا الصوامع واهدموا البيع «. ولكن السبكي قال في فتواه في منع ترميم الكنائس ج2 من الفتاوى ص373 – 374.
روى أبو عبيد القاسم بن سلام في باب " ما يجوز لأهل الذمة أن يحدثوا في أرض العنوة وفي أمصار المسلمين وما لا يجوز " من " كتاب الأموال " قال: " لا ينبغي لبيت رحمة أن يكون عند بيت عذاب " قال أبو عبيد: أراه يعني الكنائس والبيع وبيوت النيران يقول: "لا ينبغي أن تكون مع المساجد في أمصار المسلمين".

قال الإمام محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة: " لا ينبغي أن تترك في أرض العرب كنيسة ولا بيعة، ولا يباع فيها خمر وخنزير، مصرا كان أو قرية ".  ونقل ذلك عنه الإمام شمس الدين ابن القيم في " أحكام أهل الذمة " (2 /694)، وأما ما يعزى إلى الإمام أبي حنيفة من القول بأحداث الكنائس في القرى فيقول السبكي في فتواه في منع ترميم الكنائس، يقول حول ذلك (2 /387 - 388): " لعل أبا حنيفة إنما قال بإحداثها في القرى التي ينفردون بالسكنى فيها على عادتهم في ذلك المكان، وغيره من العلماء يمنعها لأنها في بلاد المسلمين وقبضتهم، وإن انفردوا فيها فهم تحت يدهم فلا يمكنون من إحداث الكنائس لأنها دار الإسلام، ولا يريد أبو حنيفة أن قرية فيها مسلمون فيمكن أهل الذمة من بناء كنيسة فيها. فإن هذه في معنى الأمصار فتكون محل إجماع وتكون الألف واللام في القرى التي جرت عادتهم بسكنهم فيها لاشتغالهم بأعمال المسلمين من الفلاحة وغيرها. أو لما يرجى من إسلامهم صاغرين باذلين للجزية، فإنا لو لم نبقهم في بلاد الإسلام لم يسمعوا محاسنه فلم يسلموا، ولو بقيانهم بلا جزية ولا صغار غروا وأنفوا، فبقيناهم بالجزية لا قصدا فيها بل في إسلامهم.
قال السبكي: وبعد أن كتبت هذا وقفت على شرح " مجمع البحرين " لابن الساعاتي من كتب الحنفية فقال: " وهذا المذكور إنما هو في الأمصار دون القرى؛ لأن الأمصار محل إقامة الشعائر، وقال صاحب " الهداية ": والمروي في ديارنا يمنعون عن إظهار ذلك في القرى أيضا. في قرى الكوفة لأن أكثر أهلها أهل الذمة، وفي أرض العرب يمنعون من ذلك في أمصارهم وقراهم.
وقد قال في موضع آخر من هذه الفتوى في هذا الباب من الآثار قال ص 388: " وقول أبي حنيفة بإبقائها في القرى بعيد لا دليل عليه، ولعله أخذه من مفهوم قول ابن عباس، بقول ابن عباس الذي أشار إليه حيث قال (2 /391) من الفتاوى: " وأما قول ابن عباس فاشتهر اشتهارا كثيرا قيل لابن عباس: أللعجم أن يحدثوا في أمصار المسلمين بناء أو بيعة، فقال: أما مصر مصرته العرب فليس للعجم أن يبنوا فيه بناء - أو قال بيعة - ولا يضربوا فيه ناقوسا، ولا يشربوا فيه خمرا، ولا يتخذوا فيه خنزيرا أو يدخلوا فيه. وأما مصر مصرته العجم ففتحه الله على العرب فنزلوا - يعني عليهم - فللعجم ما في عهدهم، وللعجم على العرب أن يوفوا بعهدهم ولا يكلفوهم فوق طاقتهم " قال السبكي: " وقد أخذ العلماء بقول ابن عباس هذا وجعلوه مع قول عمر وسكوت بقية الصحابة إجماعا ".
وأما أصحاب مالك فقال في الجواهر: " إن كانوا في بلدة بناها المسلمون فلا يمكنون من بناء كنيسة، وكذلك لو ملكنا رقبة بلدة من بلادهم قهرا، وليس للإمام أن يقر فيها كنيسة بل يجب نقض كنائسهم بها. أما إذا فتحت صلحا على أن يسكنوها بخراج ورقبة الأبنية للمسلمين وشرطوا إبقاء كنيسة جاز. وأما إن افتتحت على أن تكون رقبة البلد لهم وعليهم خراج ولا تنقض كنائسهم فذلك لهم ثم يمنعون من ترميمها، قال ابن الماجشون: ويمنعون من رم كنائسهم القديمة إذا رثت إلا أن يكون ذلك شرطا في عقدهم فيوفى لهم، ويمنعون من الزيادة الظاهرة والباطنة. ونقل الشيخ أبو عمر أنهم لا يمنعون من إصلاح ما وهي منها وإنما منعوا من إصلاح كنيسة فيما بين المسلمين لقوله:  « لا يُرفع فيكم يهودية ولا نصرانية « فلو صولحوا على أن يتخذوا الكنائس إن شاءوا.
وقال ابن الماجشون: لا يجوز هذا الشرط ويمنعون منها إلا في بلدهم الذي يسكنه معهم المسلمون فلهم ذلك وإن لم يشترطوه، قال: وهذا في أهل الصلح. وأما أهل العنوة فلا تترك لهم عند ضرب الجزية عليهم كنيسة إلا هدمت ثم لا يمكنون من إحداث كنيسة بعد وإن كانوا معتزلين عن بلاد الإسلام "
هذا ما نقله ابن القيم عن المالكية في حكم الأمصار التي وجدت فيها الكنائس، ومن المالكية الذين بحثوا في موضوع الكنائس الإمام أبو بكر محمد بن الوليد الفهري الطرطوشي المالكي في كتابه " سراج الملوك " قال في حكم الكنائس: " أمر عمر بن الخطاب  أن تهدم كل كنيسة لم تكن قبل الإسلام، ومنع أن تحدث كنيسة، وأمر أن لا تظهر عليه خارجة من كنيسة ولا يظهر صليب خارج من الكنيسة إلا كسر على رأس صاحبه، وكان عروة بن محمد يهدمها بصنعاء، وهذا مذهب علماء المسلمين أجمعين، وشدد في ذلك عمر بن عبد العزيز وأمر أن لا يترك في دار الإسلام بيعة ولا كنيسة بحال قديمة ولا حديثة. وهكذا قال الحسن البصري قال: من السنة أن تهدم الكنائس التي في الأمصار القديمة والحديثة ويمنع أهل الذمة من بناء ما خرب "
وهذا كلام الطرطوشي في "سراج الملوك" وما ذكره عن عروة بن محمد بن عبد العزيز والحسن البصري رواه عنهما الإمام أحمد بن حنبل عن عبد الرزاق كما في " أحكام أهل الذمة " لابن القيم، فقد قال ابن القيم: قال أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرني معمر قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عروة - يعني ابن محمد - أن يهدم الكنائس التي في أمصار المسلمين. قال: وشهدت عروة بن محمد يهدمها في صنعاء. قال عبد الرزاق: وأخبرنا معمر عمن سمع الحسن يقول: إن من السنة أن تهدم الكنائس التي في الأمصار القديمة والحديثة ".
وقال الشافعي في المختصر: " ولا يحدثوا في أمصار المسلمين كنيسة ولا مجتمعا لصلواتهم، ولا يظهرون فيها حمل الخمر ولا إدخال خنزير، ولا يحدثوا بناء يطولون به على بناء المسلمين، وأن يفرقوا بين هيئاتهم في المركب والملبس وبين هيئات المسلمين، وأن يعقدوا الزنار على أوساطهم، ولا يدخلوا مسجدا، ولا يسقوا مسلما خمرا ولا يطعموه خنزيرا، وإن كانوا في قرية يملكونها منفردين لم يعرض لهم في أمرهم وخنازيرهم ورفع بنيانهم، وإن كان لهم بمصر المسلمين كنيسة أو بناء طويل كبناء المسلمين لم يكن للمسلمين هدم ذلك وترك على ما وجد ومنعوا من إحداث مثله. وهذا إذا كان المصر للمسلمين أحيوه أو فتحوه عنوة. وشرط هذا على أهل الذمة. وإن كانوا فتحوا بلادهم على صلح منهم على تركهم وإياه خلوا وإياه، ولا يجوز أن يصالحوا على أن ينزلوا بلاد الإسلام يحدثون فيها ذلك ".
قال صاحب " النهاية " في شرحه:  "البلاد قسمان: بلدة ابتناها المسلمون فلا يمكن أهل الذمة من إحداث كنيسة فيها ولا بيت نار فإن فعلوا نقض عليهم.
فإن كان البلد للكفار وجرى فيه حكم المسلمين فهذا قسمان:
فإن فتحه المسلمون عنوة وملكوا رقاب الأبنية والعراص تعين نقض ما فيها من البيع والكنائس، وإذا كنا ننقض ما نصادف من الكنائس والبيع فلا يخفى أنا نمنعهم من استحداث مثلها، ولو رأى الإمام أن يبقي كنيسة ويقر في البلد طائفة من أهل الكتاب فالذي قطع به الأصحاب منع ذلك.
وذكر العراقيون وجهين:
أحدهما: أنه يجوز للإمام أن يقرهم ويبقي الكنيسة عليهم.
والثاني: لا يجوز ذلك وهو الأصح الذي قطع به المراوزة: هذا إذا فتحنا البلد عنوة. فإن فتحناها صلحا فهذا ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أن يقع الفتح على أن رقاب الأراضي للمسلمين ويقرون فيها بمال يؤدونه لسكناها سوى الجزية، فإن استثنوا في الصلح البيع والكنائس لم ينقض عليهم.
وإن أطلقوا وما استثنوا بيعهم وكنائسهم ففي المسألة وجهان:
الوجه الأول: أنها تنقض عليهم؛ لأن المسلمين ملكوا رقاب الأبنية والبيع، والكنيسة تغنم كما تغنم الدور.
الوجه الثاني: لا نملكها؛ لأن شرطنا تقريرهم وقد لا يتمكنون من المقام إلا بتبقية مجتمع لهم فيها يرونه عبادة.
وحقيقة الخلاف ترجع إلى أن اللفظ في مطلق الصلح هل يتناول البيع والكنائس.
القسم الثاني: أن يفتحها المسلمون على أن تكون رقاب الأرض لهم، فإذا وقع الصلح كذلك لم يتعرض للبيع والكنائس.
ولو أرادوا إحداث كنائس:  فإنهم لا يمنعون فإنهم متصرفون في أملاكهم، وبعض المسلمين منعهم من استحداث ما لم يكن، فإنه إحداث بيعة في بلد هي تحت حكم الإسلام "  .
وأما الحنبلية: فقد قال الخلال في كتاب " أحكام أهل الملل " باب " الحكم فيما أحدثته النصارى مما لم يصالحوا عليه ": أخبرنا عبد الله بن أحمد قال: كان المتوكل لما حدث من أمر النصارى ما حدث كتب إلى القضاة ببغداد يسألهم أبي حسان الزيادي وغيره، فكتبوا إليه واختلفوا، فلما قرئ عليه قال: اكتب بما أجاب به هؤلاء إلى أحمد بن حنبل ليكتب إليّ ما يرى في ذلك.
قال عبد الله: ولم يكن في أولئك الذين كتبوا أحد يحتج بالحديث إلا أبا حسان الزيادي، واحتج بأحاديث عن الواقدي، فلما قرئ على أبي عرفه وقال: هذا جواب أبي حسان، وقال: هذه أحاديث ضعاف، فأجابه أبي واحتج بحديث ابن عباس قال: سئل ابن عباس عن أمصار العرب أو دار العرب هل للعجم أن يحدثوا فيها شيئا؟. فقال: " أيما مصر مصرته العرب... " فذكر الحديث قال: وسمعت أبي يقول: ليس لليهود ولا للنصارى أن يحدثوا في مصر مصره المسلمون بيعة ولا كنيسة، ولا يضربوا فيه بناقوس إلا فيما كان لهم صلحا. وليس لهم أن يظهروا الخمر في أمصار المسلمين على حديث ابن عباس: " أيما مصر مصره المسلمون ".
وأخبر حمزة بن القاسم وعبد الله بن أحمد بن حنبل وعصمة قالوا: حدثنا حنبل قال: قال أبو عبد الله: " وإذا كانت الكنائس صلحا تركوا على ما صالحوا عليه. فأما العنوة فلا. وليس لهم أن يحدثوا بيعة ولا كنيسة لم تكن، ولا يضربوا ناقوسا، ولا يرفعوا صليبا، ولا يظهروا خنزيرا، ولا يرفعوا نارا ولا شيئا مما يجوز لهم فعله في دينهم يمنعون من ذلك ولا يتركون. قلت: للمسلمين أن يمنعوهم من ذلك؟. قال: نعم، على الإمام منعهم من ذلك. السلطان يمنعهم من الإحداث إذا كانت بلادهم فتحت عنوة. وأما الصلح فلهم ما صولحوا عليه يوفى لهم وقال: الإسلام يعلو ولا يعلى ولا يظهرون خمرا. قال الخلال: كتب إليّ يوسف بن عبد الله الإسكافي: ثنا الحسن بن علي بن الحسن أنه سأل أبا عبد الله عن البيعة والكنيسة تحدث قال: يرفع أمرها إلى السلطان .

تقسيم البلاد التي يوجد فيها أهل العهد والذمة وحكم الكنائس فيها
قسم الإمام ابن القيم في " أحكام أهل الذمة " (2 /669) البلاد التي تفرق فيها أهل الذمة والعهد إلى ثلاثة أقسام:
أحدها: بلاد أنشأها المسلمون في الإسلام.                                                    
الثاني: بلاد أنشئت قبل الإسلام فافتتحها المسلمون عنوة وملكوا أرضها وساكنيها.
الثالث: بلاد أنشئت قبل الإسلام وفتحها المسلمون صلحا.
ثم قال ابن القيم:
أما القسم الأول: فهو مثل البصرة والكوفة وواسط وبغداد والقاهرة. أما البصرة والكوفة فأنشئتا في خلافة عمر بن الخطاب.
قال يزيد بن هارون: أخبرنا عن نافع بن الحارث قال: كان أمير المؤمنين قد هم أن يتخذ للمسلمين مصرا، وكان المسلمون قد غزوا من قبل البحر وفتحوا الأهواز وكابل وطبرستان، فلما افتتحوها كتبوا إليه: أنا وجدنا بطبرستان مكان لا بأس به، فكتب إليهم: إن بيني وبينكم دجلة ولا حاجة لي في شيء بيني وبينكم فيه دجلة أن نتخذه مصرا.
قال: فقدم عليه رجل من بني سدوس يقال له ثابت فقال له: يا أمير المؤمنين، إني مررت بمكان دون دجلة به بادية يقال لها الخريبة ويقال للأرض البصرة، وبينها وبين دجلة فرسخ فيه خليج يجري فيه الماء وأجمة قصب، فأعجب ذلك عمر  فدعا عتبة بن غزوان فبعثه في أربعين رجلا فيهم نافع بن الحارث زياد أخوه لأمه.
قال سيف بن عمرو: مصرت البصرة سنة ست عشرة واختطت قبل الكوفة بثمانية أشهر. وقال قتادة: أول من مصر البصرة رجل من بني شيبان يسمى المثنى بن حارثة، وإنه كتب إلى عمر  " إني نزلت أرضا بصرة " فكتب إليه: " إذا أتاك كتابي هذا فاثبت حتى يأتيك أمري ". فبعث عتبة بن غزوان معلما وأميرا فغزا الأبلة.
وقال حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن: إن عمر بن الخطاب  مصر البصرة والكوفة.
قال: وأما واسط فبناها الحجاج بن يوسف سنة ست وثمانين من الهجرة في السنة التي مات فيها عبد الملك بن مروان.
وأما بغداد فقال سليمان بن المجالد وزير أبي جعفر: " خرجت مع أبي جعفر يوما - قبل أن نبتني مدينة بغداد - ونحن نرتاد موضعا نبني فيه مدينة يكون فيها عسكره، قال: فبصرنا بقس شيخ كبير ومعه جماعة من النصارى فقال: اذهب بنا إلى هذا القس نسأله، فمضى إليه فوقف عليه أبو جعفر فسلم عليه ثم قال: يا شيخ أبلغك أنه يبنى هنا مدينة؟ قال: نعم، ولست بصاحبها، قال: وما علمك؟ قال القس: وما اسمك؟ قال: اسمي عبد الله، قال: فلست بصاحبها، قال: فما اسم صاحبها؟ قال: مقلاص. قال: فتبسم أبو جعفر وصغا إليّ فقال: أنا والله مقلاص، كان أبي يسميني وأنا صغير مقلاصا، فاختط موضع مدينة أبي جعفر.
وتحول أبو جعفر من الهاشمية إلى بغداد وأمر ببنائها، ثم رجع إلى الكوفة في سنة أربع وأربعين ومائة وفرغ من بنائها ونزلها مع جنده وسماها مدينة السلام سنة خمس وأربعين ومائة، وفرغ من بناء الرصافة سنة أربع وخمسين ومائة.
وقال سليمان بن مجالد: الذي تولى الوقوف على خط بغداد: الحجاج بن أرطاة وجماعة من أهل الكوفة، وكذلك سامرا بناها المتوكل، وكذلك المهدية التي بالمغرب وغيرها من الأمصار التي مصرها المسلمون، فهذه البلاد صافية للإمام إن أراد الإمام أن يقر أهل الذمة فيها ببذل الجزية جاز، فلو أقرهم الإمام على أن يحدثوا فيها بيعة أو كنيسة أو يظهروا فيها خمرا أو خنزيرا أو ناقوسا لم يجز، وإن شرط ذلك وعقد عليه الذمة كان العقد والشرط فاسدا، وهو اتفاق من الأمة لا يعلم بينهم فيه نزاع ".
قال الإمام أحمد: حدثنا حماد بن خالد الخياط، عمن أخبره قال: قال رسول الله  «: لا خصاء في الإسلام ولا كنيسة «.
وقال علي بن عبد العزيز: قال عمر بن الخطاب  " لا كنيسة في الإسلام ولا خصاء ".
وقال الإمام أحمد: سئل ابن عباس عن أمصار العرب أو دار العرب هل للعجم أن يحدثوا فيها شيئا؟.  فقال: " أيما مصر مصرته العرب فليس للعجم أن يبنوا فيه ولا يضربوا ناقوسا ولا يشربوا فيه خمرا ولا يتخذوا فيه خنزيرا، وأيما مصر مصرته العجم ففتحه الله  على العرب فنزلوا فيه فإن للعجم ما في عهدهم وعلى العرب أن يوفوا بعهدهم ولا يكلفوهم فوق طاقتهم ".
قال عبد الله بن أحمد: وسمعت أبي يقول: " ليس لليهود والنصارى أن يحدثوا في مصر مصره المسلمون بيعة ولا كنيسة ولا يضربوا فيه بناقوس إلا في مكان لهم صالح، وليس لهم أن يظهروا الخمر في أمصار المسلمين ".
وقال المروذي: قال لي أبو عبد الله: سألوني عن الديارات في المسائل التي وردت من قبل الخليفة فقلت: أي شيء تذهب أنت؟ فقال: ما كان من صلح يقر وما كان أحدث بعد يهدم.
وقال أبو طالب: سألت عبد الله عن بيع النصارى ما كان في السواد وهل أقرها عمر؟.  فقال: السواد فتح بالسيف فلا يكون فيه بيعة، ولا يضرب فيه ناقوس، ولا يتخذ فيه الخنازير ولا يشرب الخمر ولا يرفعوا أصواتهم في دورهم إلا الحيرة وبانقيا ودير صلوبا، فهؤلاء أهل صلح صولحوا ولم يحاربوا، فما كان منها لم يخرب وما كان غير ذلك فكله محدث يهدم. وقد كان أمر بهدمها هارون، وكل مصر مصرته العرب فليس لهم أن يبنوا فيه بيعة ولا يضربوا فيه ناقوسا ولا يشربوا فيه خمرا ولا يتخذوا فيه خنزيرا. وما كان من صلح صولحوا عليه فهو على صلحهم وعهدهم. وكل شيء فتح عنوة فلا يحدثوا فيه شيئا من هذا، وما كان من صلح أقروا على صلحهم واحتج فيه بحديث ابن عباس .
وقال أبو الحارث: سئل أبو عبد الله عن البيع والكنائس التي بناها أهل الذمة وما أحدثوا فيها مما لم يكن.  قال: تهدم وليس لهم أن يحدثوا شيئا من ذلك فيما مصّره المسلمون، يمنعون من ذلك إلا مما صولحوا عليه.
قيل لأبي عبد الله: ما الحجة في أن يمنع أهل الذمة أن يبنوا بيعة أو كنيسة إذا كانت الأرض ملكهم وهو يؤدون الجزية وقد منعنا من ظلمهم وأذاهم؟.  قال: حديث ابن عباس: " أيما مصر مصرته العرب ".
وقال أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرني معمر قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عروة - يعني ابن محمد - أن يهدم الكنائس التي في أمصار المسلمين.  قال: وشهدت عروة بن محمد يهدمها بصنعاء.
وقال عبد الرزاق: وأخبرنا معمر عمن سمع الحسن يقول: إن من السنة أن تهدم الكنائس التي في الأمصار القديمة والحديثة. ذكره أحمد عن عبد الرزاق.
وهذا الذي جاءت به النصوص والآثار هو مقتضى أصول الشرع وقواعده، فإن إحداث هذه الأمور إحداث شعار الكفر، وهو أغلظ من إحداث الخمارات والمواخير، فإن تلك شعار الكفر وهذه شعار الفسق.
ولا يجوز للإمام أن يصالحهم في دار الإسلام على إحداث شعائر المعاصي والفسوق، فكيف إحداث مواضع الكفر والشرك.
فإن قيل: فما حكم هذه الكنائس التي في البلاد التي مصرها المسلمون؟
قيل: هي على نوعين:
أحدهما: أن تحدث الكنائس بعد تمصير المسلمين لمصر، فهذه تزال اتفاقا .
الثاني: أن تكون موجودة بفلاة من الأرض ثم يمصر المسلمون حولها المصر، فهذه لا تزال والله أعلم.
القسم الثاني: من البلاد - حسبما أوضحه ابن القيم - الأمصار التي أنشأها المشركون ومصروها ثم فتحها المسلمون عنوة وقهرا بالسيف، قال: فهذه لا يجوز أن يحدث فيها شيء من البيع والكنائس، وأما ما كان من ذلك قبل الفتح فهل يجوز إبقاؤه أو يجب هدمه؟  فيه قولان في مذهب أحمد، وهما وجهان لأصحاب الشافعي وغيره.
القول الأول:  تجب إزالته وتحرم تبقيته؛ لأن البلاد قد صارت ملكا للمسلمين فلم يجز أن يقر فيها أمكنة شعار الكفر، كالبلاد التي مصرها المسلمون ولقول النبي  « لا تصلح قبلتان ببلد « .  وكما لا يجوز إبقاء الأمكنة التي هي شعار الفسوق كالخمارات والمواخير، ولأن أمكنة البيع والكنائس قد صارت ملكا للمسلمين فتمكين الكفار من إقامة شعار الكفر فيها كبيعهم وإجارتهم إياها لذلك، ولأن الله تعالى أمر بالجهاد حتى يكون الدين كله له، وتمكينهم من إظهار شعار الكفر في تلك المواطن جعل الدين له ولغيره.
والقول الثاني: يجوز إبقاؤها لقول ابن عباس: " أيما مصر مصرته العجم ففتحه الله على العرب فنزلوه فإن للعجم ما في عهدهم "، ولأن رسول الله  فتح خيبر عنوة وأقرهم على معابدهم فيها ولم يهدمها، ولأن الصحابة فتحوا كثير من البلاد عنوة فلم يهدموا شيئا من الكنائس التي بها، ويشهد لصحة هذا وجود الكنائس والبيع في البلاد التي فتحت عنوة، ومعلوم قطعا أنها ما أحدثت بل كانت موجودة قبل الفتح.
وقد كتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله: " أن لا تهدموا كنيسة ولا بيعة ولا بيت نار ".
ولا يناقض هذا ما حكاه الإمام أحمد أنه أمر بهدم الكنائس، فإنها التي أحدثت في بلاد الإسلام، ولأن الإجماع قد حصل على ذلك فإنها موجودة في بلاد المسلمين من غير نكير.
وفصل الخطاب أن يقال: إن الإمام يفعل في ذلك ما هو الأصلح للمسلمين، فإن كان أخذها منهم أو إزالتها هو المصلحة - لكثرة الكنائس أو حاجة المسلمين إلى بعضها وقلة أهل الذمة - فله أخذها أو إزالتها بحسب المصلحة، وإن كان تركها أصلح - لكثرتهم وحاجتهم إليها وغنى المسلمين عنها - تركها.
وهذا الترك تمكين لهم من الانتفاع بها لا تمليك لهم رقابها، فإنها قد صارت ملكا للمسلمين، فكيف يجوز أن يجعلها ملكا للكفار؟! وإنما هو انتفاع بحسب المصلحة، فللإمام انتزاعها متى رأى المصلحة في ذلك.
ويدل عليه أن عمر بن الخطاب والصحابة معه أجلوا أهل خيبر من دورهم ومعابدهم بعد أن أقرهم رسول الله  فيها. ولو كان ذلك الإقرار تمليكا لم يجز إخراجهم عن ملكهم إلا برضا أو معاوضة.
ولهذا لما أراد المسلمون أخذ كنائس العنوة التي خارج دمشق في زمن الوليد بن عبد الملك صالحهم النصارى على تركها وتعويضهم عنها بالكنيسة التي زيدت في الجامع.
ولو كانوا قد ملكوا تلك الكنائس بالإقرار لقالوا للمسلمين: كيف تأخذون أملاكنا قهرا وظلما؟ بل أذعنوا إلى المعارضة لما علموا أن للمسلمين أخذ تلك الكنائس منهم وأنها غير ملكهم كالأرض التي هي بها.
فبهذا التفصيل تجتمع الأدلة
ويدل عليه فعل الخلفاء الراشدين ومن بعدهم من أئمة الهدى، وعمر بن عبد العزيز هدم منها ما رأى المصلحة في هدمه، وأقر ما رأى المصلحة في إقراره، وقد أفتى الإمام أحمد المتوكل بهدم كنائس السواد وهي أرض العنوة.
القسم الثالث: من البلاد ما فتح صلحا.
قال ابن القيم فيه: وهذا نوعان:
أحدهما: أن يصالحهم على أن الأرض لهم ولنا الخراج عليها، أو يصالحهم على مال يبذلونه وهي الهدنة، فلا يمنعون من إحداث ما يختارونه فيها؛ لأن الدار لهم، كما صالح رسول الله  أهل نجران ولم يشترط عليهم أن لا يحدثوا كنيسة ولا ديرا.
النوع الثاني: أن يصالحهم على أن الدار للمسلمين ويؤدون الجزية إلينا.
فالحكم في البيع والكنائس على ما يقع عليه الصلح معهم من تبقية وإحداث وعمارة؛ لأنه إذا جاز أن يقع الصلح معهم على أن الكل لهم جاز أن يصالحوا على أن يكون بعض البلد لهم.
والواجب عند القدرة: أن يصالحوا على ما صالحهم عليه عمر  ويشترط عليهم الشروط المكتوبة في كتاب عبد الرحمن بن غنم: " أن لا يحدثوا بيعة ولا صومعة راهب ولا قلاية " فلو وقع الصلح مطلقا من غير شرط حمل على ما وقع عليه صلح عمر، وأخذوه بشرطه لأنها صارت كالشرع، فيحمل مطلق صلح الأئمة بعده عليها.

رسالتتن لشيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية
إحداهما: أوردها ابن القيم في " أحكام أهل الذمة " (2 /677 - 686).
والثانية: في "مجموعة الرسائل والمسائل" لشيخ الإسلام ابن تيمية التي أولها "الرسالة العرشية".
الرسالة الأولى لابن القيم
ورد على شيخنا - أي شيخ الإسلام ابن تيمية - استفتاء في أمر الكنائس صورته: ما يقول السادة العلماء في إقليم توافق أهل الفتوى في هذا الزمان على أن المسلمين فتحوه عنوة من غير صلح ولا أمان، فهل ملك المسلمون ذلك الإقليم المذكور بذلك؟ وهل يكون الملك شاملًا لما فيه من أموال الكفار من الأثاث والمزارع والحيوان والرقيق والأرض والدور والبيع والكنائس والقلايات والديورة ونحو ذلك، أو يختص الملك بما عدا متعبدات أهل الشرك؟ فإن ملك جميع ما فيه، فهل يجوز للإمام أن يعقد لأهل الشرك من النصارى واليهود  الذمة على أن يبقى ما بالإقليم المذكور من البيع والكنائس والديورة ونحوها متعبدا لهم وتكون الجزية المأخوذة منهم في كل سنة في مقابلة ذلك بمفرده أو مع غيره أم لا؟ فإن لم يجز  فهل يكون حكم الكنائس ونحوها حكم الغنيمة يتصرف فيه الإمام تصرفه في الغنائم أم لا؟
وإن جاز للإمام أن يعقد الذمة بشرط بقاء الكنائس ونحوها، فهل يملك من عقدت له الذمة بهذا العقد رقاب البيع والكنائس والديورة ونحوها، ويزول ملك المسلمين عن ذلك بهذا العقد أم لا؛ لأجل أن الجزية لا تكون عن ثمن مبيع؟ وإذا لم يملكوا ذلك وبقوا على الانتفاع بذلك وانتقض عهدهم بسبب يقتضي انتفاضه إما بموت من وقع عقد الذمة معه ولم يعقبوا، أو أعقبوا.
فإن قلنا: إن أولادهم يستأنف معهم عقد الذمة كما نص عليه الشافعي فيما حكاه ابن الصباغ وصححه العراقيون واختاره ابن أبي عصرون في "المرشد" فهل لإمام الوقت أن يقول: لا أعقد لكم الذمة إلا بشرط ألا تدخلوا الكنائس والبيع والديورة في العقد، فتكون كالأموال التي جهل مستحقوها وأيس من معرفتها، أم لا يجوز له الامتناع من إدخالها في عقد الذمة؟ بل يجب عليه إدخالها في عقد الذمة. فهل ذلك يختص بالبيع والكنائس والديورة التي تحقق أنها كانت موجودة عند فتح المسلمين ولا يجب عليه ذلك عند التردد في أن ذلك كان موجودا عند الفتح أو حدث بعد الفتح أو يجب عليه مطلقا فيما تحقق أنه كان موجودا قبل الفتح أو شك فيه؟
وإذا لم يجب في حالة الشك فهل يكون ما وقع الشك في أنه كان قبل الفتح وجهل الحال فيمن أحدثه لمن هو لبيت المال أم لا؟
وإذا قلنا: إن من بلغ من أولاد من عقدت معهم الذمة - وإن سلفوا - ومن غيرهم لا يحتاجون أن تعقد لهم الذمة بل يجري عليهم حكم من سلف إذا تحقق أنه من أولادهم يكون حكم كنائسهم وبيعهم حكم أنفسهم أم يحتاج إلى تجديد عقد وذمة؟ وإذا قلنا: إنهم يحتاجون إلى تحديد عقد عند البلوغ، فهل تحتاج كنائسهم وبيعهم إليه أم لا؟.
فأجاب: ما فتحه المسلمون كأرض خيبر التي فتحت على عهد النبي  وكعامة أرض الشام وبعض مدنها، وكسواد العراق - إلا مواضع قليلة فتحت صلحا - وكأرض مصر، فإن هذه الأقاليم فتحت عنوة على خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب .
وقد روي في أرض مصر أنها فتحت صلحا وروي أنها فتحت عنوة.
وكلا الأمرين صحيح، على ما ذكره المتأهلون للروايات الصحيحة في هذا الباب - فإنها فتحت أولا صلحا ثم نقض أهلها العهد، فبعث عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب  يستمده فأمده بجيش كثير فيهم الزبير بن العوام ففتحها المسلمون الفتح الثاني عنوة.
ولهذا روي من وجوه كثيرة أن الزبير سأل عمر بن الخطاب  أن يقسمها بين الجيش، كما سأله بلال قسم الشام، فشاور الصحابة في ذلك، فأشار عليه كبراؤهم كعلي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل أن يحبسها فيئا للمسلمين ينتفع بفائدتها أول المسلمين وآخرهم، ثم وافق عمر على ذلك بعض من كان خالفه ومات بعضهم فاستقر الأمر على ذلك.
فما فتحه المسلمون عنوة فقد ملكهم الله إياه كما ملكهم ما استولوا عليه من النفوس والأموال والمنقول والعقار.
ويدخل في العقار معابد الكفار ومساكنهم وأسواقهم ومزارعهم وسائر منافع الأرض، كما يدخل في المنقول سائر أنواعه من الحيوان والمتاع والنقد.
وليس لمعابد الكفار خاصة تقتضي خروجها عن ملك المسلمين، فإن ما يقال فيها من الأقوال ويفعل فيها من العبادات إما أن يكون مبدلا أو محدثا لم يشرعه الله قط، أو يكون الله قد نهى عنه بعد ما شرعه.
وقد أوجب الله على أهل دينه جهاد أهل الكفر حتى يكون الدين كله لله وتكون كلمة الله هي العليا، ويرجعوا عن دينهم الباطل إلى الهدى ودين الحق، ويعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
ولهذا لما استولى رسول الله  على أرض من حاربه من أهل الكتاب وغيرهم كبني قينقاع والنضير وقريظة، كانت معابدهم مما استولى عليه المسلمون.
لكن وإن ملك المسلمون ذلك فحكم الملك متبوع، كما يختلف حكم الملك في المكاتب والمدبر وأم الولد والعبد، وكما يختلف حكمه في المقاتلين الذين يؤسرون وفي النساء والصبيان الذين يسبون، كذلك يختلف حكمه في المملوك نفسه والعقار والأرض والمنقول.
وقد أجمع المسلمون على أن الغنائم لها أحكام مختصة بها لا تقاس بسائر الأموال المشتركة.
ولهذا لما فتح النبي  خيبر أقر أهلها ذمة للمسلمين في مساكنهم وكانت المزارع ملكا للمسلمين عاملهم عليها رسول الله  بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع، ثم أجلاهم عمر  في خلافته واسترجع المسلمون ما كانوا أقروهم فيه من المساكن والمعابد.
فصل: وأما أنه هل يجوز للإمام عقد الذمة مع إبقاء المعابد بأيديهم؟
فهذا فيه خلاف معروف في مذاهب الأئمة الأربعة.
منهم من يقول: لا يجوز تركها لهم لأنه إخراج ملك المسلمين عنها وإقرار الكفر بلا عهد قديم.
ومنهم من يقول بجواز إقرارهم فيها إذا اقتضت المصلحة ذلك، كما أقر النبي  أهل خيبر فيها، وكما أقر الخلفاء الراشدون الكفار على المساكن والمعابد التي كانت بأيديهم.
فمن قال بالأول قال: حكم الكنائس حكم غيرها من العقار، منهم من يوجب إبقاءه كمالك في المشهور عنه وأحمد في رواية.
ومنهم من يخير الإمام فيه بين الأمرين بحسب المصلحة، وهذا قول الأكثرين، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه، وعليه دلت سنة رسول الله  حيث قسم نصف خيبر وترك نصفها لمصالح المسلمين.
ومن قال: يجوز إقرارها بأيديهم، فقوله أوجه وأظهر، فإنهم لا يملكون بهذا الإقرار رقاب المعابد كما يملك الرجل ماله، كما أنهم لا يملكون ما ترك لمنافعهم المشتركة كالأسواق والمراعي، كما لم يملك أهل خيبر ما أقرهم فيه رسول الله  من المساكن والمعابد.
ومجرد إقرارهم ينتفعون بها ليس تمليكا كما لو أقطع المسلم بعض عقار بيت المال ينتفع بغلته أو سلم إليه مسجد أو رباط ينتفع به لم يكن ذلك تمليكا له، بل ما أقروا فيه من كنائس العنوة يجوز للمسلمين انتزاعها منهم إذا اقتضت المصلحة ذلك كما انتزعها أصحاب النبي  من أهل خيبر بأمره بعد إقرارهم فيها.
وقد طلب المسلمون في خلافة الوليد بن عبد الملك أن يأخذوا من النصارى بعض كنائس العنوة التي خارج دمشق، فصالحوهم على إعطائهم الكنيسة التي داخل البلد، وأقر ذلك عمر بن عبد العزيز أحد الخلفاء الراشدين ومن معه في عصره من أهل العلم.
فإن المسلمين لما أرادوا أن يزيدوا جامع دمشق بالكنيسة التي إلى جانبه - وكانت من كنائس الصلح - لم يكن لهم أخذها قهرا، فاصطلحوا على المعاوضة بإقرار كنائس العنوة التي أرادوا انتزاعها، وكان ذلك الإقرار عوضا عن كنيسة الصلح التي لم يكن لهم أخذها عنوة.
ولذلك لو انقرض أهل مصر من الأمصار ولم يبق من دخل في عهدهم فإنه يصير للمسلمين جميع عقارهم ومنقولهم من المعابد وغيرها فيئا، فإذا عقدت الذمة لغيرهم كان كالعهد المبتدأ، وكان يعقد لهم الذمة أن يقرهم في المعابد وله أن لا يقرهم بمنزلة ما ، فإنه لو أراد الإمام عند فتحه هدم ذلك جاز بإجماع المسلمين، ولم يختلفوا في جواز هدمه وإنما اختلفوا في جواز إبقائه.

وأما المجودون الآن إذا لم يصدر منهم نقض عهد فهم على الذمة، فإن الصبي يتبع أباه في الذمة وأهل داره من أهل الذمة كما يتبع في الإسلام أباه وأهل داره من المسلمين؛ لأن الصبي لما لم يكن مستقلا بنفسه جعل تابعا لغيره في الإيمان والأمان، وعلى هذا جرت سنة رسول الله وخلفائه والمسلمين في إقرارهم صبيان أهل الكتاب بالعهد القديم من غير تجديد عقد آخر.
وهذا الجواب حكمه فيما كان من معابدهم قديما قبل فتح المسلمين. أما ما أحدث بعد ذلك فإنه يجب إزالته ولا يمكنون من إحداث البيع والكنائس كما شرط عليهم عمر بن الخطاب  في الشروط المشهورة عنه: أن لا يجددوا في مدائن الإسلام ولا فيما حولها كنيسة ولا صومعة ولا ديرا ولا قلاية؛ امتثالا لقول رسول الله  « لا تكون قبلتان ببلد واحد « رواه أحمد وأبو داود ، ولما روي عن عمر بن الخطاب  قال: " لا كنيسة في الإسلام ". وهذا مذهب الأئمة الأربعة في الأمصار ومذهب جمهورهم في القرى.
وما زال يعمل به، مثل عمر بن عبد العزيز الذي روى الإمام أحمد عنه أنه كتب إلى نائبه على اليمن: أن يهدم الكنائس التي في أمصار المسلمين، فهدمها بصنعاء وغيرها.
وروى الإمام أحمد عن الحسن البصري أنه قال: " ومن السنة أن تهدم الكنائس التي في الأمصار القديمة والحديثة ". وكذلك هارون الرشيد في خلافته أمر بهدم ما كان في سواد بغداد. وكذلك المتوكل لما ألزم أهل الكتاب بشروط عمر استفتى علماء وقته في هدم الكنائس والبيع فأجابوه فبعث بأجوبتهم إلى الإمام أحمد فأجابه بهدم كنائس سواد العراق، وذكر الآثار عن الصحابة والتابعين، فمما ذكره ما روي عن ابن عباس  أنه قال: " أيما مصر مصرته العرب - يعني المسلمين - فليس للعجم - يعني أهل الذمة - أن يبنوا فيه كنيسة ولا يضربوا ناقوسا ولا يشربوا فيه خمرا، وأيما مصر مصرته العجم ففتحه الله على العرب فإن للعجم ما في عهدهم وعلى العرب أن يوفوا بعهدهم ولا يكلفوهم فوق طاقتهم ".
وملخص الجواب: أن كل كنيسة في مصر والقاهرة والكوفة والبصرة وواسط وبغداد ونحوها من الأمصار التي مصرها المسلمون بأرض العنوة فإنه يجب إزالتها إما بالهدم أو غيره، بحيث لا يبقى لهم معبد في مصر مصره المسلمون بأرض العنوة، وسواء كانت تلك المعابد قديمة قبل الفتح أو محدثة؛ لأن القديم منها يجوز أخذه ويجب عند المفسدة، وقد نهى النبي  أن تجتمع قبلتان بأرض، فلا يجوز للمسلمين أن يمكنوا أن يكون بمدائن الإسلام قبلتان إلا لضرورة كالعهد القديم. لا سيما وهذه الكنائس التي بهذه الأمصار محدثة يظهر حدوثها بدلائل متعددة والمحدث يهدم باتفاق الأئمة.
وأما الكنائس التي بالصعيد وبر الشام ونحوها من أرض العنوة: فما كان منها محدثا وجب هدمه، وإذا اشتبه المحدث بالقديم وجب هدمها جميعا؛ لأن هدم المحدث واجب وهدم القديم جائز، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وما كان منها قديما فإنه يجوز هدمه ويجوز إقراره بأيديهم، فينظر الإمام في المصلحة: فإن كانوا قد قلوا والكنائس كثيرة أخذ منهم أكثرها. وكذلك ما كان على المسلمين فيه مضرة فإنه يؤخذ أيضا، وما احتاج المسلمون إلى أخذه أخذ أيضا.
وأما إذا كانوا كثيرين في قرية ولهم كنيسة قديمة لا حاجة إلى أخذها ولا مصلحة فيه، فالذي ينبغي تركها كما ترك النبي  وخلفاؤه لهم من الكنائس ما كانوا محتاجين إليه ثم أخذ منهم. وأما ما كان لهم بصلح قبل الفتح مثل ما في داخل مدينة دمشق ونحوها، فلا يجوز أخذه ما داموا موفين بالعهد بمعاوضة أو طيب أنفسهم، كما فعل المسلمون بجامع دمشق لما بنوه.

الكنائس ثلاثة أقسام:
منها ما لا يجوز هدمه،
ومنها ما يجب هدمه كالتي في القاهرة مصر والمحدثات كلها،
ومنها ما يفعل المسلمون فيه الأصلح كالتي في الصعيد وأرض الشام مما كان قديما،
فالواجب على ولي الأمر فعل ما أمر الله به وما هو أصلح للمسلمين من إعزاز دين الله وقمع أعدائه وإتمام ما فعله الصحابة من إلزامهم بالشروط عليهم ومنعهم من الولايات في جميع أرض الإسلام.

الرسالة الثانية لشيخ الإسلام ابن تيمية فقد وردت جوابا لسؤال نصه:
ما يقول السادة العلماء أئمة الدين وهداة المسلمين أجمعين، وأعانهم على إظهار الحق المبين، وإخماد الكفار والمنافقين في الكنائس التي بالقاهرة وغيرها، التي أغلقت بأمر ولاة الأمور إذا ادعى أهل الذمة أنها أغلقت ظلما وأنهم يستحقون فتحها وطلبوا ذلك من ولي الأمر أيده الله تعالى ونصره، فهل تقبل دعواهم؟ وهل تجب إجابتهم أم لا؟ وإذا قالوا: إن هذه الكنائس كانت قديمة من زمن أمير المؤمنين عمر بن الخطا  وغيره من خلفاء المسلمين، وأن إغلاقها مخالف لحكم الخلفاء الراشدين، فهل هذا القول مقبول منهم أم مردود؟.
وإذا ذهب أهل الذمة إلى من يقدم من بلاد العرب من رسول أو غيره فسألوه أن يسال ولي الأمر في فتحها أو كاتبوا ملوك الحرب ليطلبوا ذلك من ولي أمر المسلمين، فهل لأهل الذمة ذلك، وهل ينتقض عهدهم بهذا أم لا؟ وإذا قال قائل: إنهم إن لم يجابوا إلى ذلك حصل للمسلمين ضرر إما بالعدوان على من عندهم من الأسرى والمساجد، وإما بقطع متاجرهم عن ديار الإسلام، وإما بترك معاونتهم لولي أمر المسلمين على ما يعتمده من مصالح المسلمين ونحو ذلك. فهل هذا القول صواب أو خطأ؟. وإذا كان في فتحها تغيير قلوب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وتغيير قلوب أهل الصلاح والدين وعموم الجند والمسلمين على ولاة الأمور لأجل إظهار شعائر الكفر وظهور عزهم وفرحهم وسرورهم بما يظهرونه وقت فتح الكنائس من الشموع والجموع والأفراح وغير ذلك. وهذا فيه تغير قلوب المسلمين من الصالحين وغيرهم، حتى إنهم يدعون الله تعالى على من تسبب في ذلك وأعان عليه، فهل لأحد أن يشير على ولي الأمر بذلك؟ ومن أشار عليه بذلك هل يكون ناصحا لولي أمر المسلمين أم غاشا؟ وأي الطرق هو الأفضل لولي الأمر أيده الله تعالى ولأوليائه: قمع أعدائه وإذلالهم أو مطاوعتهم؟.
فأجاب شيخ الإسلام ابن تيمية بما نصه:
الحمد لله رب العالمين.
أما دعواهم: أن المسلمين ظلموهم في إغلاقها، فهذا كذب مخالف لأهل العلم فإن علماء المسلمين من أهل المذاهب الأربعة: مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم من الأئمة كسفيان الثوري والأوزاعي والليث بن سعد وغيرهم ومن قبلهم من الصحابة والتابعين - متفقون على أن الإمام لو هدم كل كنيسة بأرض العنوة كأرض مصر والسواد بالعراق وبر الشام ونحو ذلك، مجتهدا في ذلك ومتبعا في ذلك لمن يرى ذلك، لم يكن ذلك ظلما منه بل تجب طاعته في ذلك، وإن امتنعوا عن حكم المسلمين لهم كانوا ناقضين العهد وحلت بذلك دماؤهم وأموالهم.
وأما قولهم: إن هذه الكنائس من عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب  وإن الخلفاء الراشدين أقروهم عليها فهذا أيضا من الكذب، فإن من المعلوم المتواتر أن القاهرة بنيت بعد عمر بن الخطاب  بثلاثمائة سنة، بنيت بعد بغداد وبعد البصرة والكوفة وواسط، وقد اتفق المسلمون على أن ما بناه المسلمون من المدائن لم يكن لأهل الذمة أن يحدثوا فيه كنيسة، مثل ما فتحه المسلمون صلحا وأبقوا لهم كنائسهم القديمة بعد أن شرط عليهم فيها عمر بن الخطاب  أن لا يحدثوا كنيسة في أرض الصلح فكيف في بلاد المسلمين؟!
بل إذا كان لهم كنيسة بأرض العنوة كالعراق ومصر ونحو ذلك، فبنى المسلمون مدينة عليها، فإن لهم أخذ تلك الكنيسة لئلا تترك في مدائن المسلمين كنيسة بعد عهد، فإن في سنن أبي داود بإسناد جيد عن ابن عباس  عن النبي  أنه قال: « لا تصلح قبلتان بأرض ولا جزية على مسلم « . والمدينة التي يسكنها المسلمون والقرية التي يسكنها المسلمون وفيها مساجد المسلمين لا يجوز أن يظهر فيها شيء من شعائر الكفر لا كنائس ولا غيرها إلا أن يكون لهم عهد فيوفى لهم بعهدهم. فلو كان بأرض القاهرة ونحوها كنيسة قبل بنائها لكان للمسلمين أخذها؛ لأن الأرض عنوة، فكيف وهذه الكنائس محدثة أحدثها النصارى؟ ! فإن القاهرة بقي ولاة أمورها نحو مائتي سنة على غير شريعة الإسلام وكانوا يظهرون أنهم رافضة.
وقد عرف العارفون بالإسلام أن الرافضة تميل مع أعداء الدين، ولما كانوا ملوك القاهرة كان وزيرهم مرة يهوديا ومرة نصرانيا أرمينيا، وقويت النصارى بسبب ذلك النصراني الأرميني وبنوا كنائس كثيرة بأرض مصر في دولة أولئك الرافضة والمنافقين، وكانوا ينادون بين القصرين: من لعن وسب فله دينار وإردب.
وفي أيامهم أخذت النصارى ساحل الشام من المسلمين حتى فتحه نور الدين وصلاح الدين، وفي أيامهم جاءت الفرنج إلى بلبيس وغلبوا من الفرنج، فإنهم منافقون وأعانهم النصارى، والله لا ينصر المنافقين الذين هم يوالون النصارى، فبعثوا إلى نور الدين يطلبون النجدة فأمدهم بأسد الدين وابن أخيه صلاح الدين، فلما جاءت الغز إلى ديار مصر قامت الرافضة مع النصارى فطلبوا قتال الغز المجاهدين المسلمين، وجرت فصول يعرفها الناس حتى قتل صلاح الدين مقدمهم "شاور". ومن حينئذ ظهرت بهذه البلاد كلمة الإسلام والسنة والجماعة، وصار يقرأ فيها أحاديث رسول الله  كالبخاري ومسلم ونحو ذلك، ويذكر فيها مذاهب الأئمة الأربعة، ويرتضى فيها عن الخلفاء الراشدين وإلا كانوا قبل ذلك من شر الخلق، فيهم قوم يعبدون الكواكب ويرصدونها، وفيهم قوم زنادقة دهرية لا يؤمنون بالآخرة ولا جنة ولا نار ولا يعتقدون وجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج، وخير من كان فيها الرافضة، والرافضة شر الطوائف المنتسبين إلى القبلة.
فلهذا السبب وأمثاله كان إحداث الكنائس في القاهرة وغيرها، وقد كان في بر مصر كنائس قديمة لكن تلك الكنائس أقرهم المسلمون عليها حين فتحوا البلاد؛ لأن الفلاحين كلهم كانوا نصارى ولم يكونوا مسلمين، وإنما كان المسلمون الجند خاصة وأقروهم كما أقر النبي  اليهود على خيبر لما فتحها؛ لأن اليهود كانوا فلاحين وكان المسلمون مشتغلين بالجهاد.
ثم إنه بعد هذا في خلافة عمر بن الخطاب  لما كثر المسلمون واستغنوا عن اليهود أجلاهم أمير المؤمنين عن خيبر كما أمر بذلك النبي  حيث قال: « أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب « حتى لم يبق في خيبر يهودي، وهكذا القرية التي يكون أهلها نصارى وليس عندهم مسلمون ولا مسجد للمسلمين، فإذا أقرهم المسلمون على كنائسهم التي فيها جاز ذلك كما فعله المسلمون. وأما إذا سكنها المسلمون وبنوا بها مساجدهم فقد قال النبي  « لا تصلح قبلتان بأرض « ، وفي أثر آخر: « لا يجتمع بيت رحمة وبيت عذاب «.
والمسلمون قد كثروا بالديار المصرية وعمرت في هذه الأوقات حتى صار أهلها بقدر ما كانوا في زمان صلاح الدين مرات متعددة، وصلاح الدين وأهل بيته ما كانوا يولون النصارى ولم يكونوا يستعملون منهم أحدا في أمر من أمور المسلمين أصلا، وكانوا مؤيدين منصورين على الأعداء مع قلة المال والعدد. وإنما قويت شوكة النصارى والتتار بعد موت العادل أخي صلاح الدين، حتى إن بعض الملوك أعطاهم بعض مدائن المسلمين، وحدث حوادث بسبب التفريط فيما أمر الله به ورسوله.
  فكان ولاة الأمور الذين يهدمون كنائسهم ويقيمون أمر الله فيهم كعمر بن عبد العزيز وهارون الرشيد ونحوهما مؤيدين منصورين، وكان الذين هم بخلاف ذلك مغلوبين مقهورين.
وإنما كثرت الفتن بين المسلمين وتفرقوا على ملوكهم من حين دخل النصارى مع ولاة الأمور بالديار المصرية في دولة المعز ووزارة الفائز وتفرق البحرية وغير ذلك.

وقد صح عن النبي  أنه قال: « لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة « وكل من عرف سير الناس وملوكهم رأى كل من كان أنصر لدين الإسلام وأعظم جهادا لأعدائه وأقوم بطاعة الله ورسوله أعظم نصرة طاعة وحرمة من عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب  إلى هذا الزمان، وقد أخذ المسلمون منهم كنائس كثيرة من أرض العنوة بعد أن أقروا عليها في خلافة عمر بن عبد العزيز وغيره من الخلفاء، وليس في المسلمين من أنكر ذلك، فعلم أن هدم كنائس العنوة جائز إذا لم يكن فيه ضرر على المسلمين، فإعراض من أعرض عنهم كان لقلة المسلمين ونحو ذلك من الأسباب، كما أعرض النبي  عن إجلاء اليهود حتى أجلاهم عمر بن الخطاب .
وليس لأحد من أهل الذمة أن يكاتبوا أهل دينهم من أهل الحرب ولا يخبروهم بشيء من أخبار المسلمين، ولا يطلب من رسولهم أن يكلف ولي أمر المسلمين ما فيه ضرر على المسلمين، ومن فعل ذلك منهم وجبت عقوبته باتفاق المسلمين وفي أحد القولين يكون قد نقض عهده وحل دمه وماله.
ومن قال: إن المسلمين يحصل لهم ضرر إن لم يجابوا إلى ذلك، لم يكن عارفا بحقيقة الحال، فإن المسلمين قد فتحوا ساحل الشام وكان ذلك أعظم المصائب عليهم أخذ أموالهم وهدم كنائسهم وكان نوروز قد شرط عليهم الشروط ووضع الجزية، وكان ذلك أعظم المصائب عليهم، ومع هذا لم يدخل على المسلمين بذلك إلا كل خير، فإن المسلمين مستغنون عنهم وهم إلى ما في بلاد المسلمين أحوج من المسلمين إلى ما في بلادهم بل مصلحة دينهم ودنياهم.
فأما الأندلس فهم لا يتركون المسلمين في بلادهم إلا لحاجتهم إليهم وخوفهم من التتار، فإن المسلمين عند التتار أعز من النصارى وأكرم، ولو قدر أنهم قادرون على من عندهم من المسلمين فالمسلمون أقدر على من عندهم من النصارى، والنصارى الذين في ذمة المسلمين فيهم من البطارقة وغيرهم من علماء النصارى ورهبانهم وليس عند النصارى مسلم يحتاج إليه المسلمون، ولله الحمد، مع أن فكاك الأسرى من أعظم الواجبات وبذل المال الموقوف وغيره في ذلك من أعظم القربات، وكل مسلم يعلم أنهم لا يتجرون إلى بلاد المسلمين إلا لأغراضهم لا لنفع المسلمين، ولو منعهم ملوكهم من ذلك لكان حرصهم على المال يمنعهم من الطاعة، فإنهم أرغب الناس في المال ولهذا وهم طوائف مختلفون، وكل طائفة تضاد الأخرى، ولا يشير على ولي أمر المسلمين بما فيه إظهار شعائرهم في بلاد الإسلام أو تقوية أمرهم بوجه من الوجوه إلا رجل منافق يظهر الإسلام وهو منهم في الباطن، أو رجل له غرض فاسد مثل أن يكونوا برطلوه ودخلوا عليه برغبة أو رهبة أو رجل جاهل في غاية الجهل لا يعرف السياسة الشرعية الإلهية التي تنصر سلطان المسلمين على أعدائه وأعداء الدين، وإلا فمن كان عارفا ناصحا له أشار عليه بما يوجب نصره وثباته وتأييده واجتماع قلوب المسلمين عليه وفتحهم له ودعاء الناس له في مشارق الأرض ومغاربها، وهذا كله إنما يكون بإعزاز دين الله وإظهار كلمة الله وإذلال أعداء الله.
وليعتبر المعتبر بسيرة نور الدين وصلاح الدين ثم العادل، كيف مكنهم الله وأيدهم وفتح لهم البلاد وأذل لهم الأعداء لما قاموا من ذلك بما قاموا به. وليعتبر بسيرة من والى النصارى كيف أذله الله تعالى وكبته، وليس المسلمون محتاجين إليهم ولله الحمد، فقد كتب خالد بن الوليد  إلى عمر بن الخطاب  يقول: إن بالشام كاتبا نصرانيا لا يقوم خراج الشام إلا به، فكتب إليه: لا تستعمله، فكتب: إنه لا غنى بنا عنه، فكتب إليه عمر: لا تستعمله، فكتب إليه: إذا لم نوله ضاع المال، فكتب إليه عمر  مات النصراني، والسلام.
وثبت في الصحيح عن النبي  أن مشركا لحقه ليقاتل معه فقال له: « إني لا أستعين بمشرك « ، وكما أن الجند المجاهدين إنما يصلحون إذا كانوا مسلمين مؤمنين، وفي المسلمين كفاية في جميع مصالحهم ولله لحمد.
ودخل أبو موسى الأشعري  على عمر بن الخطاب  فعرض عليه حساب العراق فأعجبه ذلك فقال: ادع كاتبك يقرؤه علي، فقال: إنه لا يدخل المسجد، قال: ولم، قال: لأنه نصراني، فضربه عمر  بالدرة، ثم قال: لا تعزّوهم بعد أن أذلّهم الله، ولا تأمنوهم بعد أن خونهم الله، ولا تصدقوهم بعد أن أكذبهم الله.
ثم ذكر شيخ الإسلام الشروط العمرية لأهل الذمة التي من ضمنها: " أن لا يتخذوا من مدائن الإسلام ديرا ولا كنيسة ولا قلاية ولا صومعة لراهب ولا يجددوا ما خرب منها "، وقال: " فمن خرج عن شرط من هذه الشروط فقد حل للمسلمين منهم ما حل من أهل المعاندة والشقاق، وليتقدم حاكم المسلمين بطلب من يكون من أكابر النصارى ويلزمهم بهذه الشروط العمرية أعز الله أنصارنا آمين".

آيات وأحاديث
ياأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم 
عهد رسول الله أن لا يترك بجزيرة العرب دينان       
أخرجوا المشركين من جزيرة العرب   
أخرجوا اليهود من الحجاز، وأخرجوا أهل نجران من جزيرة العرب 
أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب   
إني لا أستعين بمشرك   
لا يبقين دينان بأرض العرب    
لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلما     
لا تبنى كنيسة في الإسلام ولا يجدد ما خرب منها      
لا تكون قبلتان ببلد واحد
لا خصاء في الإسلام ولا كنيسة
لا يجتمع بيت رحمة وبيت عذاب        
لا يجتمع دينان في جزيرة العرب                 
لا تساكنوا المشركين ولا تجامعوهم، فمن ساكنهم أو جامعهم فهو مثلهم

ليست هناك تعليقات: