2015/04/13

متى نكفّ عن إستجداء الدموع في هذا الوطن الأب جورج صغبيني






متى نكفّ عن إستجداء الدموع في هذا الوطن
  
يُحكى أنه في شرق المتوسط كانت هناك مدينة جميلة إسمها بيروت عرفها الناس بـ "ستّ الدنيا" وقعت بين طريقين متوازيين, تُعرفان بالمنطقة الشرقية والمنطقة الغربية.
وذات يوم وفد إلى القرية مسافر قادم من مكان بعيد, جاء سائراً عبر المنطقة الشرقية, وقرر زيارة المنطقة الثانية أيضاً. ولاحظ التجار المحليون امتلاء عينيه بالدموع.
وقال الشيخ للكاهن: لا بد أن شخصاً ما قد لقي حتفه في المنطقة الشرقية. انظر كيف يبكي هذا المسافر المسكين بعد أن مر بها.
والتقطت أذنا أحد الأطفال تلك الملحوظة, ولأنه يعرف أن الموت شيء سيئ للغاية, بدأ البكاء وفي الحال بكى جميع الأطفال بالشارع.
وقرر المسافر الرحيل وألقى من يديه ثمار البصل التي كان يقشرها ليأكلها وهي سبب امتلاء عينيه بالدموع, ثم اختفى.

وبعد برهة, شعرت الأمهات بالقلق لبكاء أطفالهن, فأسرعن لمعرفة ما يحدث, وسرعان ما اكتشفن أن التجار قد انشغلوا بأمر المأساة التي وقعت على المنطقة الشرقية.
وسرعان ما انتشرت الشائعات, فعرف جميع القاطنين بالقرب من المنطقتين أن شيئاً خطيراً قد حدث. وبدأ الكبار يشعرون بالخوف من حدوث الأسوأ, متوقعين الانكشاف التدريجي لأبعاد المأساة, وفضلوا عدم طرح أية أسئلة حتى لا يزيدوا الوضع سوءاً.

وكان هناك رجل ناسك يعيش بين المنطقتين الشرقية والغربية ويجهل ما يحدث, ولذلك سأل: ما سبب كل هذا الحزن في مكان كان سعيداً دائماً.
فأجابه أحد السكان: هناك شيء فظيع حدث بالمنطقة الشرقية, فالأطفال يبكون, والرجال متجهمون, والأمهات ينادين أطفالهن ليعودوا إلى البيوت, والزائر الوحيد لهذه المدينة منذ سنوات عديدة, غادر وعيناه ممتلئتان بالدموع. ربما ضرب الطاعون المنطقة الأخرى.

ولم يمر وقت طويل حتى انتشرت شائعة عن وجود مرض قاتل في المنطقتين كلتيهما. ولأن البكاء بدأ مع مجيء مسافر إلى المنطقة الشرقية, أصبح واضحاً بالنسبة لسكان المنطقة الشرقية أن الطاعون لا بدّ ظهر هناك أيضاً. وقبل مجيء الليل, ترك السكان منازلهم إلى الجبال في الشرق.

وحتى اليوم مازالت المنطقة التي مر بها المسافر وهو يقشر البصل, مهجورة.

وغير بعيد عنها, ظهرت قريتان أخريان تدعوان المنطقة الشرقية والمنطقة الغربية. وما زال السكان, من ذرية سكان المنطقة الأولى, يتحدثون إلى بعضهم البعض لأن الزمن والخرافة وضعا حاجزاً من الخوف بين المنطقتين... فلقد استقر بداخلهم أنه إذا ما حاولوا إعادة الصلات, فسيواجه مجتمعهم خطراً هائلاً.

ويعلق الشيخ: لا يعتمد كل شيء في العالم على الأشياء ذاتها, بل على علاقتنا بها.
ويجيبه الكاهن: وعندما ننظر إلى عالم اليوم, نستطيع إدراك أن ما نراه  وما نسمعه ليس دائما الحقيقة.

لقد كان من الصعب جداً التورط في حروب جديدة, وهكذا لم يكن ممكناً اعتبار إبادة الناس أو حروب الإخوة والجيران... يسبّب نوعا من الطمأنينة.

أما الخطر الحقيقي فظهر في شقاق كبير بين سكان المنطقة الشرقية ويعرفون بالمسيحية اليهودية، وبين سكان المنطقة الغربية ويعرفون بالإسلام اليهودي.

وتقابل رجال الدين من كلا الطرفين المسيحي والإسلامي في مؤتمرات دولية وعاملوا بعضهم البعض بتسامح واحترام, أما في الحياة الواقعية, فمن الأفضل أن نتابع بحرص الزائر الغريب لأن شيئاً فظيعاً قد يحدث في أي لحظة.

فهل من الممكن إعادة توحيد هاتين المنطقتين قبل اندلاع الهستيريا. فيجب أن ننحّي جانباً التحليل السياسي, والخطط والدراسات الاجتماعية, لأنه من الممكن أن يحدث أي شيء, لأن الهستيريا مسكونة بأشباح مخيلتنا.

ويقول الناسك: للتغلب على المعوقات, وللمشاركة في تحسين الوضع, نحتاج إلى الحب  لا إلى السلطة.
ويجب أن نحبّ حتى ندرك قيمة الحياة.
يجب أن لا  نترك أنفسنا لخداع السلطة التي نكتسبها خلال النضال, وذلك لأن هذه السلطة تجعل فريقاً غالباً والآخر مغلوباً.
وفي النهاية, يجب أن نقبل بأن حياتنا بدون حدود في الفردوس القادم, هي في اللحظة الحالية أسيرة الزمن بكل لحظاته. فالاستمرار في الاتجاه الذي اخترناه. ليس من الممكن التعامل مع مشكلات يجب حلها, لأنها تتجاوز قدرتنا. لكن يجب أن نقوم بالتبديل تجاه هدفنا, ويجب أن تبقى الشمس على حالها ولو تلبّدت الغيوم وحجبتها عن الأنظار وحتى ولو أمطرت.

ويجب أن نعود إلى الحقائق البسيطة الموجودة داخلنا, فننأى بأنفسنا عن الهستريا الجماعية لنستطيع المشاركة بواقع الحياة في العالم المحيط بنا.

وغالبا ما نرث المآسي الخاصة بأجيال سابقة, كما هو الحال مع المنطقة الشرقية والمنطقة الغربية. وبعد فترة نحصل على الحب, للحفاظ على سكينتنا عندما يمر مسافر بمنطقتنا, سواء أكان يبكي من البصل  أو كان يضحك على حالنا.

وإذا ما واجهتنا مشكلة حقيقية أخرى بشخص ما يقشّر البصل, فلن يكون بوسع زعماء أن يرتكبوا جرائم باسمنا، لأننا تجرأنا على القيام بأول تبديل بزعمائنا. ولو حاولنا وفشلنا وحاولنا, حتى جاء اليوم الذي يكاد يكون إعجازياً, تمكنا فيه من حفظ اتزاننا بدل الحفاظ على زعمائنا.

ولن ننسى, حتى بعد مرور أربعين سنة أن تتسبّب قشرة بصلة بيد مسافر غريب بأن تبكي كلّ الوطن.

ليست هناك تعليقات: