2012/09/15

لبنان محمية فاتيكانية، سينودس المشرق، البابا بنديكتوس، الأب جورج صغبيني



لبنان محمية فاتيكانية



يوم عيد ارتفاع الصليب يوم الجمعة في الرابع عشر من أيلول عام 2012،  أتى البابا بنديكتوس السادس عشر في زيارة للبنان ومن خلاله لمسيحيي الشرق.
لقد حظي لبنان باهتمام قداسة البابا يوحنا بولس الثاني الخاص وخاصة بلدة جزّين لقيت ومنطقتها لفتة خاصة من قداسته. إبان الأحداث التي عصفت بها بعد اجتياح الجبل وجعلها جزيرة محاصرة.
أطلق قداسته رجاءه لأبنائها قبل رجائه للبنان بقوله: "لا تخافوا". وقد حضر الكاردينال روجيه أتشيغاراي موفدا شخصيا ممثلا البابا إلى بلدة جزين ومنطقتها في السادس من تموز سنة 1985، فأمضى في رحابها أربعة أيام زار خلالها الرعايا وشجع المؤمنين ودعم صمودهم واستمع إلى طلباتهم وحاجاتهم.
وعلى إثر هذه الزيارة، وبعد ثلاثة أشهر، قرر قداسة البابا إرسال موفد شخصي دائم هو المونسنيور سيليستينو بوهيغاز الذي وصل الى جزين في الثالث من تشرين الأول سنة 1985، واتخذ له مقرا فيها لغاية السادس من كانون الثاني سنة 1990.
 إن إقامة الموفد البابوي في جزين ما كانت إلا ترجمة صريحة لوقوف قداسة البابا إلى جانب مؤمني هذه المنطقة ودعمه لهم في الثبات في الإيمان والتشبث بأرضهم، فضلا عن الدعم المعنوي الذي لقيته لبنان والمنطقة، إذ قد مدّ الموفد البابوي يد المساعدة إلى أبنائها، مساهما في دعم مؤسساتها التربوية والاجتماعية والدينية ومقدما المساعدات إلى المعوزين والمرضى.
ومع أن قداسة البابا لم يعيّن خلفا للمونسنيور بوهيغاز إثر وفاته وزوال خطر التهجير عن جزين ومنطقتها، لكنه بقي حريصا على مواكبة شؤون لبنان عامة وبلدة جزين خاصة وتأمين المساعدات المعنوية والمادية لأبنائها عبر السفارة البابوية في لبنان وعبر المؤسسات الكنسية الاجتماعية العالمية والمحلية.

إنّ ما يستطيعه الفاتيكان هو عمل روحي، ولكن الواقع أنّ لديبلوماسية الفاتيكان وأعماله وقعاً دولياً في غاية الأهمية، عبر الأنشطة الدينية التي كانت تقيم دولاً وتسقط دولاً، وكان يتأثّر باتجاهات الفاتيكان مئات ملايين البشر في كل القارات. فالفاتيكان لا يملك ألوية عسكرية يرسلها لإنقاذ الكاثوليك بل يستعمل سلاح الإيمان والدبلوماسية السياسية اللذين بدءا في روسيا وبولونيا وهما أكثر فعالية في التأثير السياسي منه في التأثير العسكري.
فعلاقة لبنان مع الفاتيكان عميقاً في التاريخ، منذ ما قبل الفتح الاسلامي وبعده في القرن السابع. كما أنّ الموارنة منذ نشأتهم شكوا أمر ظلامتهم للبابا إينوشنسيوس على إثر مقتل 350 راهبا، بعد مجمع خلقيدونية عام 451، في شمال سوريا. وقدموا 500 راهبا سنة 694، حين هاجمت جيوش بيزنطيا دير مار مارون على نبع العاصي بسبب استقلال الموارنة عن سلطة بيزنطيا سنة 685 وانتخابهم مار يوحنا مارون بطريركا لهم.
واكتملت تلك الروابط وتعمّقت بين الموارنة وروما، مع المرحلة الصليبية (1099- 1291). وعقدت لقاءات عدة بين المبعوثين البابويين من قبل روما مع الكنيسة المارونية من عام 1100 إلى 1139.
وفي عام 1180، اعترف الفاتيكان بالموارنة كأخوة في الدين، مما مهّد الطريق في ما بعد إلى توثيق الصلة بينهما. وعام 1203، عيّن البابا ممثلا له في مدينة طرابلس شمال لبنان فاستمرّت من خلاله هذه العلاقة.
وتوثّق الرباط الرسمي والدائم بين الموارنة وروما حين دعا البابا إينوشنسيوس الثالث البطريرك ارميا العمشيتي، بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق على "الأمّة المارونية"، لحضور المجمع اللاتراني في 11 تشرين الثاني 1215.
وفي عام 1584، افتتحت أول مدرسة مارونية في روما، في عهد الأمير فخر الدين المعني الثاني في جبل لبنان (1535- 1592). وبعد مجيء الموفد البابوي جان باطيشت، اليهودي الأصل، وأحرق كتب ومخطوطات الموارنة... خلفه في الموفدية الأب دنديني الذي اقترح على البابا أن "يأخذ الأمة المارونية تحت جناحيه ويجعلها باب روما إلى المشرق".

وفي عام 1946 كان عمل تأسيس أول علاقات ديبلوماسية على ميشال شيحا بين لبنان والفاتيكان، والتي بدأت رسميا عام 1947 عندما جرى تبادل السفراء بين البلدين، وكان المبعوث الرسولي الأول المونسنيور مارينا، وبالمقابل سمّي شارل حلو سفيراً للبنان في الفاتيكان.
ورأى الفاتيكان لبنان كمنبر مميّز لتوسيع رقعة العلاقات الطيبة بين العالم الكاثوليكي والإسلامي، واغتنم البابا بولس السادس فرصة مروره في بيروت في طريقه إلى بومباي في الهند في كانون الأول 1964، ليحط في مطار بيروت ويعلن أهمية لبنان كنموذج للتعايش السلمي.
ومع اندلاع أعمال العنف في لبنان عام 1975، تعمّق اهتمام الفاتيكان بقضية لبنان فكانت مساعيه إلى تحقيق السلام فيه. وحتى في زيارة الرئيس الأميركي للبابا بولس السادس كان موضوع لبنان في أول جدول المباحثات، وتبيّن أنّ مستشاري الرئيس جيمي كارتر أحاطوه علماً أنّ لبنان يلقى اهتماماً خاصاً في دوائر الفاتيكان. وعام 1977، أثناء تطويب القديس شربل مخلوف، خاطب البابا بولس السادس البطريرك الماروني بطرس خريش بقوله "إنّ كنيستكم هي مجد لبنان".
وعندما تبوّأ البابا يوحنا بولس الثاني مركز البابوية في 16 تشرين الأول 1978، وفي يومه الأول في منصبه الجديد ذكر لبنان ومأساته وأهميّته بالنسبة للفاتيكان و"مصير هذه الأرض العزيزة لبنان التي نتمنى لها السلام والحرية". وبعد أسبوع كان الرئيس اللبناني الياس سركيس من بين المدعوين القلائل الذين حضروا احتفال تسلّم البابا سدّة البابوية. وفي كانون الأول 1979، أشار البابا في الأمم المتحدة إلى "الحاجة لتعديل الدستور اللبناني الذي تفرضه أحداث لبنان".
لقد فاق مجموع تصريحات وخطابات البابا حول لبنان بين 1978 و1990 الـ 200 تصريحا، وهو ما لم يحصل في تاريخ الفاتيكان بالنسبة لدولة واحدة. كما وجّه البابا رسائل إلى مسلمي العالم للمحافظة على لبنان كرمز فريد للتعددية والتعايش: لأن في لبنان "ثمّة بين الإسلام والمسيحية بعض من القيم الإنسانية والروحية".
ومنذ بداية عهده، خصّ البابا يوحنا بولس الثاني لبنان بفريق عمل يتابع الوضع ويساهم في تحقيق السلام، فقام موفدوه بزيارة لبنان وسوريا ودول أخرى مرارا، وساهم هؤلاء في دعم معنويات المسيحيين والتفاهم مع زعماء الطوائف الأخرى وتقديم المساعدات لقرى وبلدات مسيحية كانت معرضة للخطر، في جزين ومشغرة وزحلة... وشدد المبعوثون على أن روما لا ترغب أبدا في أن يعيش مسيحيو المشرق في "غيتوات" مغلقة على جيرانهم المسلمين، تحقيقا لرغبة البطريرك الياس الحويك الذي رفض قيام وطن مسيحي بل نادى بقيام لبنان الكبير في ظلّ الانتداب الفرنسي للبنان.
إنه طالما اتخذ باباوات روما لبنان كنموذج يُحتذى به ضمن مساعيهم للتفاهم داخل دول متعددة الديانات حيث يوجد رعايا كاثوليك، فان من مصلحة الكنيسة العليا أن يبقى لبنان جسرا حيويا بين الفاتيكان وبين العالمين العربي والإسلامي.
وعشيّة أزمة انتخاب رئيس جديد للجمهورية عام 1988، أرسل البابا نداءً يشدد فيه على أهمية المحافظة على السلطة الشرعية في لبنان، وإنّ "عدم انتخاب رئيس سيهدد بشكل خطير مستقبل لبنان... وكان هذا النداء، الذي يعني الفاتيكان كما يعني لبنان، بمثابة تدخّل مباشر للفاتيكان في سياسة لبنان...
كما وقد أثارت الصدامات المسيحية الداخلية الفاتيكان، مما أدّى إلى دق ناقوس الخطر بضرورة توقف هذا الاقتتال بين الإخوة، وقد خصّص البابا يوماً عالمياً للصلاة من أجل لبنان حضره 30 ألف شخص في ساحة الفاتيكان يوم 4 تشرين الأول 1989.
أما على صعيد النواب اللبنانيين الذين اجتمعوا في الطائف من أجل وضع  دستور جديد عام 1989، واصل البابا يوحنا بولس الثاني، الذي اعتبر لبنان بلده الثاني بعد بولونيا، مساعيه وذكّر النواب بضرورة التوصّل إلى توازن سياسي اجتماعي جديد. ودأب نائبان مارونيان على زيارة الفاتيكان طيلة فترة انعقاد مؤتمر الطائف لموافاة البابا بتفاصيل الحوار.
وكان أن أُصيب اتفاق الطائف بانتكاسته الأولى، إذ اغتيل الرئيس المنتخب رينيه معوّض. وبعد انتخاب الياس الهرواي رئيساً للجمهورية اللبنانية، نقل مبعوث الفاتيكان بابلو بوينتي إلى بكركي رأي الحبر الأعظم: أنّ الهرواي، وحتّى لو سمّته سوريا فهو يمثّل "استمرارية ضرورية لمؤسسات الدولة وسيادة لبنان التي على المسيحيين دعمها".
ونصح الفاتيكان بكركي بأن تترفّع عن المسائل السياسية اليومية في الوسط المسيحي وتعطي هالة قيادية لكل المسيحيين بلا استثناء خاصة بعد حرب عون– جعجع. ولذلك عمل بوانتي على إقناع رجال الدين المسيحيين بعدم الغرق في شؤون السياسة، وواجه من كانوا في دائرة التشدّد. ففي اجتماعه مع مجلس المطارنة الكاثوليك في 26 تشرين الثاني 1989، كان بوانتي شديد اللهجة منتقداً "تدخّل رجال ومؤسسات الكنيسة في السياسة دون أن يعودوا إلى سلطاتهم الروحية... مرددا: يجب أن تفهموا أنّه يجب وضع حد لزيارات السياسيين والتصريحات التي لا تجيزها الكنيسة".
وعندما انفجرت الحرب المسيحية في شكل واسع بين عامي 1989 و1990، اعتبر البابا هذه الحرب ضربة من المسيحيين أنفسهم لمساعي البابا الشخصية من أجل إنقاذهم، وللتوجهات التي كان يطلبها منهم لتحقيق السلم في لبنان بشكل يحفظ نظامه الديمقراطي وسيادته الوطنية.
وإن البابا، ومنذ 1978 كان ضدّ توجه بعض القيادات اللبنانية الداعية للتقسيم أو الغيتوات الطائفية، اذ قال: "دعونا ننقذ لبنان لننقذ المسيحيين ودعونا ننقذ المسيحيين لننقذ لبنان".
وكان همّ الفاتيكان، بعد اتفاق الطائف في تشرين الأول 1990، أن يوقف الطريق الانحداري للمسيحيين في لبنان وينهي حالة الإحباط التي يعيشونها. وهكذا شكل عقد التسعينات الفترة الأكثر تدخلا للفاتيكان في لبنان والأكثر حضورا لدعم البطريرك صفير بعد نفي واغتيال وسجن الزعماء الموارنة.
ولم يبق في الغرب المسيحي سوى البابا يوحنا بولس الثاني من يدعم وجود المسيحيين في لبنان والشرق. فقد عملت وفود الفاتيكان طيلة الأشهر الأولى من سنة 1991، على خطة إنقاذ في الداخل المسيحي اللبناني، ونضجت في 12 حزيران 1991، عندما دعا البابا إلى سينودوس من أجل لبنان.
كان الفاتيكان يحاول وقف التدهور المسيحي، ويرى أن الانحسار الديموغرافي والهجرة قد أصبحا حقيقة، وأن رسالة المسيحيين في المشرق حادت عن هدفها الأساسي عندما أصبح أولا: صراع رجال السياسة على السلطة سببا في أن يقتل بعضهم البعض، وإن عليهم ثانيا: أن يتوقفوا عن التفكير بأنهم أقلية تقاتل من اجل وجودها، وثالثا: أن ينخرطوا في عمل بنّاء في بيئتهم.
كانت رسالة البابا إلى مسيحيي لبنان أن يأخذوا بمبادرة أمورهم بيدهم ليوحدوا صفوفهم من حول كنيستهم، بدلا من القبول الصامت بالانحسار، وإن انهيار المسيحية في لبنان سيؤدي إلى تراجع المسيحية في سائر المشرق، وخسارة مهد المسيحية الروحي والجغرافي الذي تمثله الكنائس الشرقية. وإن الفاتيكان كان يطلب من المسيحيين العودة إلى جذورهم المشرقية وأن يستفيدوا ويفيدوا من الثروة الروحية للكنائس القديمة في الشرق التي كانت مهد المسيحية في العالم.
على إثر مواقف البابا يوحنا بولس الثاني، جال مبعوثو البابا في لبنان لحضّ المسيحيين على البقاء في أرضهم. وانسجاما مع سياسته تجاه الدولة اللبنانية، نصح الفاتيكان المسيحيين عام 1992، بالتخلي عن المقاطعة عندما كان الإحباط يترجم انسحابا للمسيحيين من الحياة السياسية اللبنانية ومقاطعة الانتخابات، مما عمق الانحسار المسيحي. وقد حذّر الفاتيكان من أن عدم مشاركة المسيحيين في الدولة سيؤدي إلى تراجع مكانتهم في مؤسساتها وغياب تمثيلهم في الإدارة العامة، مما سيؤدي حكما إلى ضرب أسس التعايش اللبناني. هذا ما قاله سلفستريني بشكل صارم في اجتماع مع مجلس البطاركة والمطارنة الكاثوليك في بكركي، وإن غاية السينودس، هي للتفاهم والمصالحة وليس المقاطعة والتصلّب في المواقف. وإن على المسيحيين التوقف عن البكاء على الأطلال وعلى العيش في الماضي وأمجاد ذكرياته.
لقد شكّل السينودس ساعة الحقيقة بالنسبة لمسيحيي لبنان ومستقبلهم في المشرق، فانعقد في روما في 27 تشرين الثاني 1995، لمدة ثلاثة أسابيع، بعد 4 سنوات من التحضير، بحضور 120 شخصا: سبعة بطاركة و11 كاردينالا،  و21 رئيس أساقفة، و17 مطرانا، و10 رؤساء رهبانيات، و17 خبيرا باختصاصات عدة مساعدي أمين عام السينودس، و25 رجل دين مسيحي وراهبات وممثل لمجلس كنائس الشرق الأوسط، و8 مبعوثين من كنائس غير كاثوليكية وديانات أخرى و5 من كنائس ارثوذكسية و3 من طوائف مسلمة. جاؤوا من لبنان طبعا، ومن سورية والعراق وفلسطين ومصر، مما جعل السينودس من أجل لبنان سينودساً من أجل مسيحيي المشرق كافة. وانعقدت اجتماعات خاصة حضرها كل الكرادلة والمطارنة الكاثوليك في الفاتيكان بإشراف البابا نفسه لمناقشة مستقبل لبنان وكنائسه. وفي لبنان يعجز البطريرك عن جمع زعماء أبنائه الموارنة حول طاولة حوار من أجل خير طائفتهم ووطنهم، بعيدا عن مصالحهم الحزبية ومكاسبهم السياسية.
وتلت هذا السينودس زيارة البابا إلى لبنان في 10 – 11 أيار 1997، وكان مضمون رسالته إصراره على اللبنانيين مسلمين ومسيحيين للتطلع إلى ما يجمعهم والعمل معا لخلق بلد جديد مبني على التفاهم والاحترام المتبادل.
يقول فؤاد بطرس: "قال لي البابا عام 1979 بلدكم لبنان يذكرني ببولندا"، ولكن ما حصل في بولندا من قلب الطاولة على سياسة موسكو كان تدخلا كبيرا من المخابرات الأميركية والإدارة الأميركية في التحول التاريخي في بولندا. وجاءت زيارة البابا لبلده كعامل مساعد زاد من سرعة التحول على المستوى الشعبي. وهذا الدور الأميركي ليس مطروحا اليوم في لبنان".
وصل البابا يوحنا بولس الثاني إلى مطار بيروت في 10 أيار1997، ووطأ أرض المطار قائلا: "على خطى المسيح" ثم قبّل تراب ذاكرا بأنه تراب لبنان المقدس.
أول الحشود التي استقبلت البابا لم تكن مسيحية، بل من أطفال ضاحية بيروت الجنوبية وأغلبهم من الشيعة، حيث وقفوا صفوفاً طويلة على الطرق المؤدية من المطار إلى قصر بعبدا، يلوحون بالعلم اللبناني وعلم الفاتيكان الأصفر بالطبع.
ثم التقى البابا حشداً ضم 50 ألف شاب مسيحي في كاتدرائية سيدة حريصا، ووقّع وثيقة الإرشاد الرسولي: "رجاء جديد للبنان". ودعا الشبيبة إلى اعتناق هذا الإرشاد كرسالة تجديد للكنيسة وللبنان: "ابنوا جسوراً جديدة من التواصل بين صفوف الشعب ومع العائلات والجماعات. بادوار بخطوات تعيد اللحمة مع الآخرين وتحول الريبة إلى ثقة. وأول خطوة تتمنونها لبلدكم يجب أن تكون تغيير ما في القلوب. لا تنسوا هويتكم المسيحية، إنها مجدكم ورجاؤكم ورسالتكم".
أما القداس في وسط بيروت، فقد توقّع المنظمون أن لا يزيد عدد الحضور عن 150 ألفاً، وكانت المفاجأة بحضور أكثر من 550 ألفاً، مما اعتبر أكبر حشد في تاريخ لبنان. وحضر القداس كل بطاركة الكنائس الشرقية كتعبير عن الوثاق الذي يربط روما بالشرق. وشدّد البابا في كلمته على محبته ومحبة الكنيسة الكاثوليكية للبنان ولكل اللبنانيين مسلمين ومسيحيين، ووجه "تحية خاصة إلى القادة المسلمين والدروز". وأضاف: "نريد من العالم أن يعرف أهمية لبنان ورسالته التاريخية. فلعدّة قرون برهن هذا البلد على أن جماعات متعدّدة تقدر أن تعيش معاً بسلام وأخوّة وتعاون، وإن احترام الحرية الدينية لكل فرد هي ممكنة، وإن جميع المواطنين موحّدون في إخلاصهم ومحافظتهم على تراث أجدادهم الروحي، وخاصة تراث الراهب مار مارون".
وشدد البابا على التراث المسيحي الضارب في القدم في لبنان، وهنأ اللبنانيين بأن المسيح بشرهم بالمسيحية بنفسه أثناء بشارته التي أوصلته إلى جنوب لبنان، وهذا ما اعتبره البابا "امتيازاً فوق العادة أن يكون لبنان من بين الأوطان الأولى في العالم التي قطنها مسيحيون، وأن يكون لبنان جزءاً من الأرض المقدسة، أرض الإنجيل، من صور إلى صيدا وجنوب لبنان حيث يتعذّب الشعب اللبناني هناك اليوم... إن آلامكم في السنوات السابقة لن تذهب هباء، بل ستقوّي وحدتكم وحريتكم... وعلى لبنان أن يصبح ديموقراطياً أكثر باستقلالية أكبر لمؤسساته وباعتراف لحدوده، وهذه شروط ضرورية لضمان وجوده كدولة".
شرح الإرشاد الرسولي بقوله: إن هوية لبنان السياسية تتميز بجذور دينية، فإن مصير المسيحيين في الشرق مرتبط بمصير لبنان ورسالته تجاه محيطه. ولكن مصير لبنان لا يتحمل مسؤوليته المسيحيون وحدهم بل المسلمون أيضا، كـ"شركاء في إعادة بناء البلد" في بيئة واحدة "تحترم التقاليد الدينية والثقافية" لأبنائه"، وضرورة أن يحافظ المسيحيون على التوازن مع المسلمين حتى يمكن أن يكون الحوار معهم على قدم المساواة، على الأقل في لبنان. وأما الهجرة فهي تهديد للوجود المسيحي في لبنان وتجعل هذا النوع من التوازن غير ممكن.
حسمت زيارة البابا عام 1997، بعض الخلافات حول هوية لبنان. فها هي أعلى سلطة كنسية في العالم تريد التزاما مسيحيا في موضوع الانتماء اللبناني العربي، وتريد من المسلمين تأكيداً على نهائية لبنان في أذهانهم.
وكما كانت زيارة البابا يوحنا يولس الثاني من أجل توقيع الإرشاد الرسولي "رجاء جديد للبنان" يمكن لزيارة البابا بنديكتوس السادس عشر أن يكون لها نفس الوقع الايجابي في استعادة أجواء الثقة والحوار على مستوى الشرق الأوسط في ظل "الربيع العربي" القائم.
إن زيارة البابا بندكتوس السادس عشر إلى لبنان، هي زيارة إلى بلدان الشرق الأوسط. تحت شعار "شركة وشهادة". يأتي قداسته إلى لبنان زائراً رسوليّاً لجميع بلدان الشّرق الأوسط، التي تمثّلت في جمعيّة سينودس الأساقفة الخاصّة بمسيحيّي هذه البلدان، عندما انعقدت في روما في شهر تشرين الأوّل 2010. لقد اختار شعاراً لزيارته كلمة الربّ يسوع: "سلامي أعطيكم" محدّداً الغاية من الزيارة: "السلام في الشّرق الأوسط".
اختار البابا لبنان، لأنّه أرض لقاء وسلام، لا أرض تنافر وعنف وحرب، بفضل العيش المشترك المنظّم دستوريّاً، بين المسيحيّين والمسلمين، على أساس الميثاق الوطني 1943. فدولة لبنان تتميّز بالديموقراطية والحريات العامّة، ولا سيّما حرية التعبير والرأي الحرّ والعبادة، دولة توافق مسيحيّوها ومسلموها على عدم تبعيّتها إلى أيّ بلد في الشّرق أو في الغرب، وبالتّالي دولة حيادية تلتزم قضايا السلام والعدالة وحقوق الشعوب، من دون انخراط في أحلاف ومحاور إقليميّة ودولية.
فزيارة البابا بنديكتوس إلى لبنان هي دعوة إلى اللّبنانيين، كما يقول البطريرك بشاره الراعي، لكي يحافظوا على وطنهم الذي قال عنه سلفه الكبير الطوباوي البابا يوحنا بولس الثاني: إنّه "أكثر من بلد، بل هو رسالة ونموذج للشّرق وللغرب".
زيارة البابا بنديكتوس دعوة إلى السلام في شرقنا الذي تسود فيه حالياً لغة الحديد والنار، ولإعلان السلام في الأرض المقدّسة بحلّ النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني، والإسرائيلي – العربي؛ السلام في البلدان العربية بالتعاون بين شعوبها وحكّامها بنبذ وسائل العنف والحرب، من أجل إحلال السلام في الشّرق الأوسط بمساعدة الإسلام واليهودية لكي تتأمّن الأخلاقية، لقبول الآخر المختلف، واعتماد قاعدة التنوّع في الوحدة. لأنه لا يمكن التكلّم عن إحلال الديموقراطية في أنظمة دينية ثيوقراطية، ولا يمكن أن يتحقّق السلام الإجتماعي والسياسي في ظلّ أنظمة، لا تسمح بالحريات العامّة، ولا تعتمد شرعة حقوق الإنسان.
زيارة قداسة البابا هي دعوة إلى مسيحيّي الشّرق الأوسط، ليعيشوا في شركة الإتّحاد بالله والوحدة فيما بينهم ومع جميع الناس، وليؤدّوا الشهادة للمحبة وللقيم الإنجيليّة في هذا الشرق، وليلتزموا في إنماء بلدانهم المشرقية، إنماءً شاملاً، وهم في هذه البلدان، لا أقليات، بل مواطنون أصليّون عمرهم فيها ألفا سنة، ومواطنون أصيلون طبعوا ثقافات بلدانهم بقيم المسيحية، جيلاً بعد جيل، وكانوا في أساس نهضتها الثقافية والاقتصادية والعلمية.
   زيارة البابا دعوة إلى المسيحيين المشرقيين لترسيخ وجودهم التاريخي في لبنان والشرق الأوسط، وللتفاعل الحضاري مع محيطهم، وللعمل بإيمان على حفظ هذا الوجود ودوره ورسالته.
إن دعوة قداسة البابا بندكتوس لعقد سينودس خاصّ بمسيحيي الشرق الأوسط هي مبادرة نبويّة، وإنّ الإرشاد الرسولي، الذي يوقّعه يوم الجمعة 14 أيلول الموافق عيد ارتفاع الصليب، هو "ربيع حقيقي" في البلدان الشرق أوسطيّة، تحقّقه المسيحية والإسلام إذا التقيا حقّاً. هذا التلاقي وحده، دون سواه، كفيل بإيجاد الحلول لأزمات هذا الشرق. فلا بدّ لذوي الإرادات الطيبة مسؤولين محليّين وإقليميين ودوليين، من أن يوقفوا العنف والحرب، ويجلسوا إلى طاولة الحوار، جاعلين منه مائدة الحقيقة والعدالة والمحبة والسلام. فإلى هذه المائدة يدعو قداسة البابا بندكتوس السادس عشر، بزيارته الثلاثية الأيّام إلى لبنان، لاعتباره بوّابة تلاقي المسيحية والإسلام في هذا المشرق.
ثلاثة أيام لا تكفي فـ"حسنٌ لنا أن تقيم هنا معنا"، في لبنان الذي هو "فاتيكان الشرق"، و"مكة الشريفة"، و"قم المباركة" ووطن الرسالة والقيم...

15 أيلول 2012  الأب جورج صغبيني

ليست هناك تعليقات: