2012/09/14

سينودس الشرق البابا بنديكتوس الأب جورج صغبيني


السينودس! إلى أين؟ "QUO VADIS"?



منذ ألفي عام انطلقت المسيحية من هذا الشرق وانتشرت على ساحل فينيقيا وفي دمشق وجزيرة العرب، وقبرص واليونان وروما... بقناعة المسيحي بالحوار الفكري مع الشعوب الوثنية، التي اهتدى إلى المسيحية الكثيرون منها، مع الاضطهاد، قبل ميثاق ميلان (Edict Milano) عام 313 ميلادي، الذي نالت به الكنيسة الحرية واعترف بها رسمياً الإمبراطور قسطنطين. لكن هذه المسيحية اندثرت في الشرق مع انتشار الإسلام منذعام 632، في شبه الجزيرة العربية والشاطئ الإفريقي المتوسطي حتى القسطنطينية... وعاش المسيحيون في ذميّة المسلمين... إلى أن ساوى السلطان عبد المجيد في فرمانه الشهير الصادر سنة 1856، بين جميع رعايا الدولة مهما اختلفت عقائدهم الدينية، فتسبّب ذلك بمجازر ضدّ المسيحيين عام 1860، في لبنان ودمشق.ومنذ قبليّة مؤتمر لاهور، وقبلها حركة محمد بن عبد الوهاب وسواها ممن سبقها، نعود بالفكر إلى نشأة الدولة الإسلامية الأولى التي حلّت مكان القبلية والمشيخة والإمارة لتعيد قسمة العالم بين إمبراطورية بيزنطية وإمبراطورية إسلامية. واليوم يتجدّد التأسيس مع "الربيع العربي" الأصولي والمتطرّف إلى نشأة شرق إسلامي وغرب مسيحي تحت شعار: "لا يُحكم مسلم من كافر"، و"دار السلام ودار الحرب".في هذا الجوّ المشحون بـ"الصليبية" الغربية- بحسب تعبير المسلمين- وبـ"الهلالية" الشرقية- بحسب تعبير المستشرقين، ماذا يفيد سينودس ما من أجل المسيحيين في المشرق. لإن الدعوة لحوار مسيحي- إسلامي تلزمه في المقابل قبول المسلم بهذا الحوار خارج ميثاق عمر وبعيدا عن الذمّية... وإلا تكرّر الصدام بين صليبية بوش وهلالية بن لادن. في حين إن المستفيد من هذا الواقع التصادمي ما بين الغرب المسيحي والشرق الإسلامي، المستفيد بالتحديد هو هرتسل ومشروعه.فالمتتبّع للأحداث في هذا المشرق العربي، يستنتج من أن السينودس الذي تمّ من أجل لبنان، لم يبدّل في اتفاق الطائف الذي قضى على ميثاق الشيخ بشارة الخوري ورياض بك الصلح من أجل الحفاظ على بقاء المسيحيين في لبنان من خلال امتيازات أعطاها مسلمو لبنان لمسيحييه كضمانات لوجودهم في لبنان، على أن لا يكون لبنان ممرّا للمستعمر الغربي على يد المسيحيين وأن لا يكون مقرّا لـ"دار السلام" على يد المسلمين، واتفق الفريقان اللبنانيان أن يتنازلا عن انتساب أحدهما للأم الحنون فرنسا والآخر عن الأم الحنون سوريا. لكنّ إتفاق الطائف نسف الميثاق المسيحي- الإسلامي لا بل الماروني- السنّي، فهل يبدّل السينودس من أجل المشرق، اليوم، في مقررات الجامعة العربية أو الجامعة الإسلامية أو مؤتمر لاهور أو الربيع العربي...؟إن إعلان الإرشاد الرسولي الخاص بمسيحيي الشرق الأوسط هو ملفّ يضاف على ملفات الكنيسة وهو ظاهرة حركة كنسيّة جامعة مشكورٌ عليها، لكن لن يكون مصيره أفضل من مصير السينودس من أجل لبنان الذي قام بحركة تقويّة روحيّة وفكريّة ثقافيّة، لكنّه لم يُرجع للمسيحيين ما فقدوه في "السينودس السياسي اللبناني- العربي" في الطائف.
إن السينودس من أجل الشرق الأوسط سيكون أقلّ حركة وفاعلية: أولاً: لأنه يقام خارج العراق أو فلسطين أو مصر...، أي في غياب مسيحيي الشرق الأوسط، وإن حضر ممثلون عنهم. وثانياً: لأن الشعوب التي يعنيها هذا السينودس هي مهاجرة ومهجّرة عن أوطانها ولا أرى- ولست متشائما في ذلك- أن هذا السينودس سيعيدها إلى أوطانها، وقد ازدادت أعداهم في الشتات...  وثالثاً: لن يكون هناك "حلم العودة" لأن هرتسل المسيحي وبن غوريون الماروني لم يلدا بعد، وزعماؤنا في نزاع وصراع دامٍ على مرقد العنزة في جبل لبنان، المعروض للبيع، بعد أن خسروا بسياساتهم الفاشلة لبنان البطريرك الياس الحويك.نعم، إنّ قرارٍ البابا بندكتوس السادس عشر عام 2009، هو قرارٍ خيِّرٍ وذات نيّة سليمة، من أجل مسيحيي الشرق الأوسط، تحت شعار: شركة وشهادة.
نعم، إن السينودس يوقظ ضمائر المسيحيّين من أجل المزيد من التضامن.نعم، إن الأمنيات، ومنها التعلـّق بالأرض وعدم بيع الأملاك. هي مسألة وجودية أكثر منها عقارية.فالكنائس المشرقية تلتزم عبر تاريخها، منذ ألفي عام، الصلاة والعمل لأجل العدالة والسلام في الشرق الأوسط والعالم، وتدعو إلى تنقية الذاكرة، مفضِّلةً لغة السلام والرجاء على لغة الخوف والعنف. وهي تطالب اليوم السلطات المدنية المسؤولة، أقلّه، بتطبيق قرارات الأمم المتّحدة الخاصّة بالمنطقة.فليس المهمّ إقامة حوارٍ مسكونيّ على المستوى الكنسيّ المسيحي- المسيحي. بل إقامة حوار على المستوى المشرقي بين المسيحيين والمسلمين من جهة وبين المسيحيين واليهود من جهة ثانية. لأن المسيحيين، في البلاد العربية المسلمة وفي إسرائيل اليهودية وحتى في لبنان ملجأ مسيحيي الشرق، هم في انحسار لا بل في محاولة إبادة على يد سياسة أمريكا والإتحاد الأوروبي مجتمعا بالتعاون غير المعلن مع التيار السلفي الإسلامي. واليوم أرحم من الغدٍ.لقد وضع المجمع الفاتيكانيّ الثاني في باب العلاقات بين الكنيسة الكاثوليكيّة والديانات غير المسيحيّة- وللمرّة الأولى- أُسس علاقة الكنيسة الكاثوليكيّة مع المسلمين كما مع اليهود. وقد أعلن قداسة البابا بنديكتس السادس عشر : "لا يمكن للحوار الدينيّ والثقافيّ بين المسيحيّين والمسلمين أن يقتصر على خيارٍ عابرٍ لأنّه في الواقع هو حاجة حياتيّة يرتبط بها مستقبلنا ارتباطًا كبيرًا".[1]
وإن الظاهرة الفريدة في لبنان في إقامة "عيد مريم" في 25 آذار من كلّ عام، عذراء الناصرة، وأم يسوع عيسى المسيح هي المثال الأسمى للعالم كلّه في التعايش المسيحي الإسلامي وخاصة في كل الشرق الأوسط.فعقد سينودس من أجل مسيحيي الشرق الأوسط هو:أولاً: الدعوة لإبقاء الدول العظمى صاحبة المصالح المتعددة، بعيدة عن التدخل في هذا الشرق. وهي المتسبّب الأوّل بما يلقاه المسيحيون فيه من مصائب وويلات.ثانياً: النتيجة المرتجاة من عقد هذا السينودس هي تثبيت المسيحيين في هويتهم ووحدتهم من خلال إيمانهم الواحد بالمسيح والمعبّر عنه بوحدة الأعياد وصلاة الأبانا والـ"نؤمن بإله واحد"... وإلا كيف ندعو للشركة مع المسلمين ونحن كمسيحيين في غربة عن بعضنا البعض.
ومن التحديات السياسيّة التي تواجه المسيحيين:-فالمسيحيون هم ضحيّة الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، وحرب العراق وسائر الحروب في المنطقة فضلا عن انقسامهم في لبنان.-والهجرة المسيحية القسريّة من بلدان الشرق الأوسط، تفرغه من مسيحييه العرب ليصير شرقاً إسلامياً.-أمّا اليهود، وقد أعلنوا دولتهم الدينية، فيجب التمييز بين واقعهم السياسي والديني. فعلى الصعيد السياسي لا بدّ من ايجاد حلّ لدولة فلسطين الإسلامية اليهودية. وإعادة المكانة للمسيحيين في ظلّ الحكم الذاتي الإسرائيلي والحكم الذاتي الفلسطيني. أما العلاقات الدينية بين اليهودية والمسيحية فلها جذورها المشتركة حتى مجيء المسيح.
-ومع المسلمين، فإن العلاقات يجب أن تبنى على مبدأ المواطنة والحريّة والمساواة في البلد الواحد، الذي يتبع دستوره الشرع الإسلامي. ويذكّر قرار المجمع الفاتيكاني الثاني بالقيم الإسلامية التي يدينون بها.
إنّ ما يريده المسيحيّون المشرقيّون من هذا السّينودس يمكن اختزاله في مطالب واحد، وبمسعى فاتيكاني، ليكف الغرب عن التدخل في سياسة الشرق تحت إسم المسيحية والصليبية، لأن البقاء في جاهلية مشرقية ذميّة هو أفضل من حداثة الإبادة الجماعية للمسيحيين المشرقيين العرب. بدءاً من فلسطين التي بات فيها المسيحيون حراس أطلال أثريّة، ومرورا ببلاد الرّافدين... حيث تُفجّر كنائس ويُخطَف أساقفة ويُذبح كهنة وتشرّد عائلات ويباد شعب بكامله.والمطلوب أيضا من المسلمين العرب، وهي حقيقة لا يمكن الهروب منها: إنّ الحوار بين الأديان مع المعتدلين العقلاء، إن لم ينطلق مع مقررات الدول الحاضنة للحوار، فسيبقى الحوار عرضة لتشويه صورة المتحاورين العقلاء، على يد المتطرّفين والإرهابيين.ومع ذلك، فالمسيحيّون لا يطلبون اليوم من كنيستهم أن تجترح المعجزات. بل أن يكون لها موقف على صعيد السياسة العالمية، وإلا فسوف يهزل الوجود المسيحيّ في لبنان والشّرق حتّى حدود الزّوال. وسوف يكون السّينودس كلاما جميلا، ولقاءات رائعة، تقبع توصياته في جوارير التاريخ وتحت غبار الأيام.فالوجود المسيحيّ في هذا المشرق هو رهن بسياسة الكنيسة الأم والمعلمة، وليس بمصالح سياسيينا المسيحيين في هذا المشرق.
نعم، نكتب وكتب كثيرون ولكن الكتابة على الورق لن تبدّل واقع المسيحيين المنحسرين في الشرق الأوسط بدءاً من فلسطين- إسرائيل ومرورا بالعراق وسوريا ولبنان ومصر... فالمسيحيون تعبوا من الاستماع إلى المقولات المطوّلة...
المهمّ جدًّا أن لا يكون هذا السينودس مجرّد صرخة ألَم مسيحيّة على درب آلام جلجلة شرقنا.
وبالتالي فإن مسؤولية المسيحيين في لبنان تفوق مسؤولية مسيحيي المنطقة وعليهم تقع تبعات النهوض بالمسيحية المشرقية، لأن مسيحيي لبنان هم المؤتمنون فعلاً على القضية المسيحية في هذا الشرق، ولأن لبنان يشكل المعقل الأخير للوجود المسيحي في المنطقة، وهو البلد المميّز بتكوينه وقيمه وحريته والانفتاح والحوار والتسامح، وهو "أكثر من وطن" لا يشاركه بخصوصيته أي من بلدان محيطه والمنطقة... وليعلم المسيحيون إنهم في مطلق الأحوال لا يمكنهم أن يكونوا متفرجين وفي منأى عن أي فتنة وتداعياتها، حتى لو لم يكونوا طرفاً فيها، كي لا يكونوا من ضحاياها، وان يظلوا متيقظين وكلهم إيمان ورجاء.ونختم مع كلمة البابا بندكتس السادس عشر[2]: "إن العيش في الوطن بكرامة هو قبل كل شيء حقٌّ إنساني أساسي، لذلك وَجَب تعزيز شروط السلام والعدالة التي لا غنى عنها من أجل إنماءٍ متناغمٍ لجميع سكاّن المنطقة".السينودس!
إلى أين؟، "QUO VADIS"?،
كلمة وجهها المسيح لبطرس حين كان هاربا من اضطهاد نيرون، فعاد ليُثبّت المسيحيين ويُصلب مقلوبا، ويَزرع  أول حجر أساس للفاتيكان في روما الوثنية. فعسى هذا السينودس يكون بذار إعادة زرع المسيحية في حقل هذا الشرق. وكلنا أمل أن الكنيسة المشرقية رغم مصالح ومطامع الدول الغربية ورغم "الربيع العربي" على وقع تقدّم الإسلاميين إلى كراسي الحكم، وتهديد المسيحيين العرب في مصيرهم ووجودهم في هذه المنطقة، ستَبقى متجلية في هذا الشرق، وستُبقي المسيرة مستمرّة.
  8-8-2012 الأب جورج صغبيني       



[1] - البابا بندكتوس السادس عشر، لقاء مع ممثّلي المسلمين، كولونيا، في ٢٠، ٨، ٢٠٠٥.
[2] - كلمة البابا بندكتس السادس عشر، في القداس الحبري لافتتاح الجمعية الخاصة لسينودس الاساقفة من أجل الشرق الاوسط، الاحد ١٠ تشرين الاول ٢٠١٠، في الفاتيكان.

ليست هناك تعليقات: