2012/03/13

الشاعرة الأديبة إيفيت حلو متري، الأب جورج صغبيني


الشاعرة الأديبة إيفيت حلو


إن الرعيل المثقّف يرحل حاملا معه نظافة الكلام وعذرية الشعر تاركا لنا شعراء الكلام المركّب وقلـّة أدب فحاشة التعبير.

بعد رحيل الشاعرة الأديبة إيفيت، مع بسمتها الدائمة في أحلك أيام الألم.

نفتد لطلتها البهيّة وهدوئها النسكي.

هي امرأة غير النساء في أدبها وتأدّبها، ذات خلقية رصينة بعيدة عن إسفاف الشارع الإعلامي والإعلاني. وقد عاشت في مجتمعها دون أن تتلطّخ بأوساخه.

عرفتها من خلال الصديق روبير صوما في جمعية كشافة الأرز.

للوهلة تراها متأنقة الكلام واللباس راقية الشعر والهندام، كإحدى أديبات رعيل مي زيادة وناديا التويني...

كتبت إيفيت للذين يقرأون ويفهمون،

للذين يتأملون اكثر من الذين يتكلمون،

للذين يحبون بعيدا عن ضوضاء الملاهي والنوادي التي لا يسمع فيها الذين يؤمونها إلا الضجيج المصمّ الآذان والآخذ بالعقل والإرادة إلى خارج أسوار الحكمة والقيم.

إيفيت التي قدّم، الرئيس شارل حلو، كتابها " حياة ليس أفضل ولا أسوأ"، عام 2001، ولها كتاب "من وراء الموت" صدر عام 1981 بعد وفاة زوجها الأول، هي شاعرة، تجعلك تقرأ كلماتها فتشعر وكأنك أنت كاتبها.

تشعرك بأنك أسمى من التراب، رغم التصاقه بك، مع إحساس بدنوّ السماء منك.

إنها في تعابيرها الأيوبية تكاد تسمعك أناشيد كتابية أقرب إلى المراثي الإرمياوية المليئة بلواعج الحبّ والوجدانية والطفولية، مختصرة حياتها بعناوين وشعارات تصلح لمظاهرات أعياد الحبّ والسلام... أكثر منها مقولات.

إيفيت حلو تدعونا عبر كلماتها التي ليست كالكلمات إلى الغوص معها في فضاء الشعور والأحاسيس والقيم الإنسانية في سمفونية الألفاظ والتعابير حيث نوعية التعبير تختلف عن الأساليب التجارية في شعر صرعات الفيديوكليبات والمجلات الإستعراضية وأنباء الخبر العاجل.

إيفيت تتحدث مع ذاتها، إليك وإلى كلّ الناس، عن جميع المواضيع.

عن الحب وواقعه وعن الموت وما بعده،

عن الوطن انطلاقا من البيت إلى المجتمع،

عن نهيوية الزمان والحرية في المكان،

عن الصلاة والعبادة والتساؤل،

عن ألم البعاد والفراق،

عن أحلك الأزمات ومعنى فرح الأعياد،

وعن الوحدة والياس والرجاء والأمل...

كلمات سُبكت شعرا راقيا في عصر بَعُدَ عن ثقافة الرقيّ فبات أسلوب فكر الناس موضة عريٍ وإباحية وإسفاف في الخُلق والخَلق.

لمن نكتب!

أليست الكلمة هي رصيد الإنسان من دون سائر المخلوقات، خاصة في بلد حمل الحرف والكلمة والمعرفة إلى شعوب العالم؟

أليست الكلمة هي الوسيلة للتعبير والتماهي في بوح ما يختلجنا من شعور وأحاسيس؟

ومن يقرأ!

قلـّة من الناس.

نعم.

لأن الوطن الذي تعطلت فيه كتب التربية وكتب التاريخ في مدارسه بقرار من وزارة التربية والتعليم، أباحت الدولة فيه لكل جماعة أن تتفرّد بأن تكون هي الحكومة باساليب تربيتها الخاصة وتاريخها الخاص، حتى أنك لن ترى في هذا الوطن جيلا مثقّفا حضاريا. بل ستلد هذه الجماعات لمستقبل الوطن أجيال الشوارع، أجيال الشعارات الفارغة من المضمون وأجيال جماعات اللامعنى واللامبنى، أجيال ذات النوع الإنعزالي وجماعات إلغاء الآخرين... بدلا من جماعة التربية على الحوار والفنّ والثقافة والقيم المشتركة بين الشعوب والحضارات...

كُتُب إيفيت ليست للبيع في أسواق مبيعات كتب الأبراج ومافيات دور النشر والصحف السياسية وأصحاب الأقلام البترودولارية وأدباء البلاط الحزبي... بل كتبها للذين سمت بهم الحياة إلى فوق مستوى الجهل في حياتهم، وتخطوا عالم المرئيات وحدود حرفية الكلمة، إلى عالم روحية الحياة وقيمها. لترى ما بعد تاريخ مسيرة "رجل وإمرأة" تحابّا حتى العشق والتماهي في عصر الزيجات الموسمية والتجارية المؤقتة...

تعترف إيفات، ببراءة الأطفال، بكل ما تفكر فبه وبكل ما يشعر به قلبها، دون مراقبة. فتعبّر بأبيات شعرية، عبر سرد منظوم الشعور وبأسلوب سلس الألفاظ، اعتاد عصر الأميرات في سالف الزمان أن يتبادلنه.

مؤلفها، وإن كان استشعارات خاصة وعائلية ووقفات وجدانية وذكريات عَبَرَت، إلا أنّه سيبقى شهادة سيرة حياة كلّلها الحب والسعادة ولم تعطّلها قسوة الموت والفراق.

وستبقى إيفيت الحلو، بعد رحيلها ، صورة مميّزة للمرأة التي تعرف أن تحمل الألم والوحدة وتتخطى تأثيرهما بحدثها الأنثوي لتستمر الحياة من خلالها... بالكلمات.

إيفيت الإنسانة، تدعونا للعيش في رحم المساواة وفي ميزان عدالة الإعتراف بحق الطفولة والأمومة والأبوة ضمن كيان الإنسان ولو اختلف جنسه ونوعه ودينه ولونه وحتى فلسفاته وأفكاره...

وإيفيت الشاعرة تدعونا للعيش في عالم الحبّ والكلمة المهذّبة والنغم الراقي في بحر القيم الإنسانية كما اختبرته وغاصت في ثناياه دون أن تنسى صعوبات واقعها اليومي.

من منّا يتجرأ ويعترف بكتاب أغوسطيني مكنونات حياته ويعلنها للناس؟

هي فَعَلَتْ.

أمّا عصرنا الذي فقد برارته، بات حافلا بوسائل خداع المسايرة، وغش الوجوه بأنواع العمليات التجميلية المطليّة بمساحيق المصالح، وبالعدوانية والإستغلالية، وبعصر العنف حتى بالكلام والإعلام فباتت الكلمات المتبادلة تعبّر عن انحطاط حضارات وأمم تنهار فيها القيم إلى حدود السفالة.

إيفيت عاصرت جيل الحرب وما بعد الحرب في لبنان، ولكنها لم تنتمي إليه ولم تتكلم لغته. بل بقيت هويتها تنتمي إلى هوية عالم بات اليوم أطلالا منسيّة، هو عالم القيم. عالم فقدناه في لحظات من الجنون ولن نستطيع استعادته خلال أجيال من التعقل.

عالم القيم الذي وضعناه على رفّ الذاكرة يغطيه غبار رحى حروب أنانياتنا ومصالحنا. ونرفض تنظيفه بمواد القوانين والشرائع، فخبأنا قوانين العدالة تحت مكيال قباحاتنا لأننا نخشى رؤية عرينا من الأخلاق.

مع إيفيت الشاعرة نعود إلى طفولة الإيمان وكَرَم الحبّ والصدق في المعاملة والتعاطي مع الآخر.

وإن كان الماضي هو جزء منّا، ومن دون أن ننسى، يمكننا أن نبني بالرجاء غدا هو جزء منّا أيضا، وأفضل من أمسنا. لأن الحياة تستحق أن نزيدها خيرا أكثر من أن نزيدها شرّا. وأن نضيف عليها كتابا مليئا بالحب والبرارة بدلا من الصراع بالصحف والمقالات المليئة بالكراهية والعنف وبالإصطفاف وإلغاء الآخر الذي هو جزء منا ومن وجودنا.

وإن كان الإنسان هو زهرة فيها من الطيب والشوك، وإن كان باقة ذكريات ترافق مستقبله بالطيب الذي استنشقه أو بالألم الذي لا زالت آثار جراحه الثخينة في جسدنا. فإن إيفيت كانت زهرة عابقة بالطيب من دون شوك. وكانت نحلة جنت من سنيّ عمرها صفحات هي شهد طيب المذاق. وكانت فراشة عاشت بساطة الحياة بكلّ مراحل تطوّرها دون أن تتسخ بأوحالها.

عَرَفَت إيفيت أن تصلـّي ليٌعبر عنها الكأس الذي تقدمه لها الحياة وعرفت أيضا أن ترتشف المعرفة بتأنّ ورقيّ لتقدم للناس كتابا إنجيلا منظوما عن حياتها بباقة من الكلمات.

ومع غيابها ستبقى بسمتها الطفولية على تجاعيد الأيام تنبض بالفرح. وستبقى كلماتها محطة عودة للتأمل في حياة ليست بمثالية ثمار الجنّة كما وليست بسؤ شوك وقطرب الأرض للذين يتذكرونها.

الأب جورج صغبيني 29/9/2009

ليست هناك تعليقات: