2015/10/19

سلسلة محاضرات 1998 بيت مار شريل ـ بقاعكفرا، الأب جورج صغبيني- الحياة النسكيّة في الكنيسة المارونيّة، حبساء ومحابس في وادي قاديشا، الأب بولس صفير، محاضرة الأحد 21 حزيران 1998



سلسلة محاضرات 1998 بيت مار شريل ـ بقاعكفرا










جمها ونسّقها
الأب جورج صغبيني
رئيس دير مار شربل بقاعكفرا












لبنان 2001

إهداء

إلى أجساد القديسين
في أهراء مغائر وادي قنوبين
إلى ذخائر عظام الرهبان والنساك والمتوحدين
المنتثرة كحبّات القمح
على ضفاف وادي قاديشا
فأينعت قرى وشعبا وكنائس وأديارا
يتردّد فيها صدى صلوات من سبقوا
ويعبق منها اريج بخور المجامر
وتصدح فيها أصوات الأجراس…
إلى بطاركة رحلوا
ولا زال ذكرهم حاضرا في مجالس التاريخ
إلى شعب يلد الأباءُ والأمّهاتُ فيه قديسين
إلى شعب روزنامة حياته يحصيها بتعداد شهدائه 
ويحصي أيامه بأسماء القديسين
                                                الأب جورج صغبيني









مقدمة

حين نتكلّم عن وادي قاديشا تتصاعد إلى الذاكرة قوافل القديسين والنساك والرهبان العبّاد المتوحدين وأمواج البخور  المتصاعد من المغائر مرتفعة نحو قمم الجبال لتتلاقى مع عبق طيب الأرز
وتتزاحم في الذاكرة صور البطولات والملاحم
وتتسارع إلى الذاكرة خميرة الكلمة في الشرق مطبعة قزحيا ومدرسة حوقا وأديار قدّمت للغة الضاد ما لم يقدّمه أحد من العرب …
كما وصمد هذا الوادي في وجه جور الطبيعة والزمان وظلم الحكام الطغات
وادي قاديشا
         ملجأ المضطهَدين من أجل إيمانهم وحريّتهم وعقيدتهم الذين تركوا السهول الخصبة والشواطئ الغنيّة ليعيشوا الحياة القشفة في هذا الوادي
وماتوا بحدّ السيف وتغلّبوا على التجربة وردّوا غارات الغرباء وصاروا أبطالاً في الحروب.
وتحمّلوا التعذيب والظلم والبلص وأبوا النجاة ورغبوا في الأفضل من الحياة.
وعانوا السخرية والجلد والقيود والسجن
ورجموا ونشروا وماتوا قتلاً بالسيف بقطع الأعضاء بخلاف
هاموا على وجوههم لباسهم جلد الغنم وشعر الماعز محرومين مضايقين مظلومين لا يستحقّهم العالم الذي فيه يعيشون.
تاهوا في البراري والجبال والمغاور وكهوف الأرض.
إن الوقت يضيق إن أخبرنا عن جهاد واستشهاد هؤلاء الذين سكنوا وادٍ عرف باسمهم
هؤلاء الغرباء النزلاء في الأرض
الساعون إلى إقامة وطن في الأرض الغريبة عنهم.
الغرباء في وطنهم.
خرجوا من ميراث آبائهم ونزلوا في أرض غريبة هي أرض الوعد الذي لا يزول ليؤسسوا مدينة مهندسها الله.
هؤلاء ماتوا على المواعيد التي تنتظرهم وإن كانت غير مرئية. فقد ترجوها. وبفضلهم أدركنا ما أنشأوا لنا.
وادي قاديشا
منبت القديسين مشتل الجبب السود التي تستر بهاء المجد
دنانة الرهبان التي توزّع على بساتين العالم أجود ثمار فضائلها
هؤلاء الذين لم يكن لهم مدينة ثابتة بل سعوا إلى مدينة المستقبل.
إن العبور إلى السماء ينطلق من هذا الوادي المقدّس من حيث عبر هؤلاء الذين نالوا المجد والكرامة بسعيهم الدؤوب لأنهم عرفوا على من يضعون اتكالهم.
هؤلاء الذين تقطُّر آثارهم بالدّسم، والتلال بالبهجة تكتسي، والأودية بالحنطة تتوشّح. مز 65
هؤلاء الذين جعلوا الله راعيهم فما من شيء يعوزهم. لا يخافون سوءاً لأن على إلههم الإتكال مز 23/4
هؤلاء الذين عاشوا في هذا الشرق كالسوسنة بين الشوك. وكالتفاحة بين أشجار الجنة في ظلاله يشتهي العابرون القيلولة وتذوّق طعم المعرفة نشيد 2/1
هذا الوادي الذي نجّى اللاجئين إليه من طوفان الأمم. وأصبح حضناً وملجأً للهاربين من ظلم أهل الأرض.
هذا الوادي المهجور اليوم من ساكنيه
البعيد المنال عن أهل هذا العصر
الساكن في الذكريات
ماذا يقول عنه المؤرخون.
ماذا يقال عن محيطه
عن الذين هجروه.
لمن تركوه؟
وبأي مكان استبدلوه؟
هل بات أثراً طللاً مندرساً
ما هو البديل عنه؟
وكيف العودة إليه؟


تمهيد

محاضرون ومحاضرات
في حدود التاريخ والأثريات
في حدود الجغرافية والأبعاد
يستقرؤن الماضي
يجمعونه في ماعون فكر
في مقالة
في قُصاصات أوراق
يجمعهم راهب ناسك قديس
في أعلى قرية من قرى لبنان
في مكان مولده
الذي أصبح محجّة للمؤمنين
ومحطّة تأمل وصلاة
في مكان هو الأقرب إلى السماء
والأحبّ على قلب الله

                                                   الأب جورج صغبيني







سلسلة محاضرات 1998 بيت مار شريل ـ بقاعكفرا، الأب جورج صغبيني- الحياة النسكيّة في الكنيسة المارونيّة، حبساء ومحابس في وادي قاديشا، الأب بولس صفير، محاضرة الأحد 21 حزيران 1998



محاضرة الأب بولس صفير عميدكليّة اللاّهوت الحبريّة في جامعة الروح القدس- الكسليك في بيت القديس شربل في بقاعكفرا  يوم الأحد الواقع في 21 حزيران سنة 1998.

آبائي الأجلاّء ، اخوتي واخواتي الأحبّاء ، أيّها الحفل الكريم ،

مقدّمة
يسرّني قبل البدء في الكلام عن حبساء ومحابس وادي قاديشا، أن أستهلّ الحديث بهذه المقدّمة عن الكنيسة المارونية، وعن مقوّمات الحياة النسكيّة التي نشأت، ونمت، وتأصّلت في أحضانها.فالمارونية ككنيسة، هي انجيليّة العقيدة، انطاكيّة النشأ، رهبانية الجذور. اتّسمت، منذ نشأتها، بخصائص جعلت منها أسرة روحيّة فريدة من نوعها يبن الكنائس والأسر الانطاكيّة السريانيّة في هذا الشرق. فكان لها اسلوبها المميّز في عيش الحياة المسيحية واعتناق السيرة الرهبانيّة . ومن عناصر هذا الاسلوب: انتماؤها الى أب واحد هو القدّيس مارون الناسك، وتمسكها بليتورجيّة واحدة، ودأبها على نشاط رسولي متّقد الغيرة، وحفاظها على سلامة العقيدة المسيحيّة. التفّت منذ نشأتها، حول أبيها القديس مارون، فاستنارت بتعاليمه وجذبها نمط حياته ، فتأثرت أكثر من سائر الكنائس الشرقية ، بالمسلك النسكي والرهباتي معا ، حتى ، بدت ، في بعض مراحل حياتها ، وكأنها جماعة رهبانيّة . فالقديس مارون هو أبوها ومرشدها وحجر الزاوية في أساس بنيانها . منه يبدأ ذلك المشعل الروحاني الجذّاب الذي يتلألأ نوره على طول الطريق ، واليه يرجع زخم ذلك المعين الدّفاق لتراث نسكي جليل ، ما زالت الأجيال الطالعة تنهل منه حيويّة وبطولة وقداسة .
لا بدّ لنا اذا أردنا البحث في الحياة النسكيّة في الكنيسة المارونية ، بوجه عام،وفي إماطة اللثام عن حبساء وادي قاديشا بوجه خاص،لا بدّ لنا من العودة الى الينابيع ، لنقف على مقوّمات هذا التراث الغني ، ونستجلي عالم الطريق الشاق الذي سار عليه النسّاك والرهبان الموارنة في هذا الوادي المقدّس . ونحن اذ نقوم بذلك ، نرانا أمام موقع فريد من نوعه، وهذا الواقع يتلخص بما يلي :
لم يكن في هذا الوادي المقدّس ، على مدى عشرة قرون ، تنظيم رهباني ونسكي بالمعنى القانوني العصري،ولم يكن هناك قوانين ورسوم رهبانية مكتوبة بتقيّد بحفظها طلاّب الحياة النسكية لبلوغ الكمال،كما انه لم يكن هناك رئيس عام لجماعة او منظمة رهبانية يدير شؤونها ويتقلد مقدراتها ويسهر على مصالحها العليا،كما يوجد اليوم . بل ان الرهبان والحبساء الموارنة كانوا أعضاء في كنيسة انطاكية المنشأ ومارونية الانتماء ولبنانية الامتداد والنمو . فالحبيس،أو الناسك الماروني،كان،طوال هذه الحقبة ينطوي تحت لواء الحياة النسكية أو الرهبانية،داخل كنيسته،وليس داخل منظمة أو جماعة رهبانية،وكان يتوغّل في البراري والجبال،فيقطن المغاور والصوامع،ولا يطرق أبواب الاديار العامرة ليترهب فيها،فطلاّب الكمال المسيحي كانوا يتدربون على حياة النسك والتقشّف،على يدي ناسك شيخ،فيعيشون معه في صومعته،ويلاحظون عن كثب طريقة ممارسته للفضائل المسيحية ليقتدوا بها. فكان هو لهم بمثابة قانون حي،وكانوا هم امامه بمثابة مرآة جليّة، يعكسون صورة فضائله في نمط حياتهم وخطّة مسلكهم، والشيء الذي يسترعي انتباه المؤرخين طوال هذه الحقبة هو اعتصام هؤلاء النساك بالصمت دون الكلام، وأثارهم العيش بخفاء على حبّ الدعاية والظهور. فلم يتركوا لنا مؤلفات ولا مصنفات، ولم يكتبوا الاّ على قلوب تلامذتهم ومعاصريهم نظير السيّد المسيح معلّمهم الالهي. لقد نهلوا روحانيتهم من تعاليم الانجيل، وغذّوها بممارسة الاسرار، وأسندوا قوّة فعاليتها في النفوس الى التقليد الشرقي بنوع عام، والتقليد الماروني بنوع خاص، والى أقوال آباء البرّية التي كانوا يتداولونها فيما بينهم، خلفا عن سلف، وجسّدوها، أخيرا، في مَثَل وقدوة النسّاك الشيوخ الذين بلغوا شأنا كبيرا في ميدان النضال وبطولة الفضائل وقداسة السيرة .

1-  من سهول سوريا الخصبة الى وادي قاديشا وقزحيّا وقنّوبين .
على أثر الاضطهادات والمنازعات السياسيّة والدينيّة في انطاكية وفي سوريّا الثانية، بدءا من القرن السابع حتّى العاشر وما فوق،ولّى الموارنة وجوههم شطر جبل لبنان الشمالي، ليحتموا في وديانه السحيقة الغور. فاستوطن العدد الكبير منهم في منطقة الجبّة ووادي قاديشا وقزحيّا وقنّوبين،ونما بينهم عدد الزهّاد والنساّك، ودَلَفَ الكثيرون منهم الى تلك المغاور الطبيعية والصوامع النائية،وهنا تجب الاشارة الى أن الحياة النسكية كانت مزدهرة في لبنان قبل مجيء الموارنة اليه. فان آثارهم تدل عليهم ، فلا يزال يوجد في لبنان، حتى يومنا هذا مغاور قديمة في اماكن عديدة نحتتت في الصخور الطبيعية، ولا يستبعد ان يكون قد قطنها النساّك في القرون الأولى والوسطى للنصرانيّة.منها مثلا صوامع دير مار مارون على نهر العاصي، وقد نحتت في الصخر على شكل هندسة فرضتها يد الطبيعة وهيئة المكان. وقد حُفرت ايضا ادراج في الصخر داخل المناسك ليتمكّن سكانها من النزول الى قعر الوادي عند مخرج النهر لاستقاء الماء. وهناك ايضا مغاور عدلون التي تقع على نصف مسافة الطريق بين مدينتي صيدا وصور. وهذه المغاور نُحتت ايضا في الصخور. وهناك ايضا مغاور وصوامع تقع في منطقة أفقا والعاقوره  يرجّح ان يكون قد سكنها النساك الموارنة في نفس الوقت الذي قطنوا فيه صوامع قاديشا وقنّوبين. وهناك ايضا مغاور قديمة تقع قرب بلدة الفرزل في الوادي المطّل على سهل البقاع. فالتقليد القديم اطلَق في تلك المنطقة اسم " وادي الحبساء " على هذه المغاور للدلالة على أن النسّاك سكنوا ذلك المكان في سالف الأزمان .
ولعلّ المكان الذي كثر فيه عدد النساك الموارنة، ونال شهرة طبّقت الآفاق على مدى الأجيال هو وادي قاديشا وقزحّيا وقنّوبين في لبنان الشمالي. ففي هذا الوادي المقدّس اتّسمت الحياة النسكيّة بطاقة روحيّة رائعة فجّرتها نخبة رائدة من النساك الموارنة الذين تميّزوا هم بدورهم كنساك سوريا والقورشيّة الأقدمين بنزعة انجيليّة نابعة من أغوار الوحي الألهي وغنى التراث الماروني الجليل. وهذه النزعة هي الخيط الدقيق المتين الذي حاك الروحانيّة المارونيّة، وربط النساك الموارنة بعضهم ببعض، وكان الحافز لهم لبلوغ أعلى درجة من التضحية والبذل والكفر بالذات. فألّف وحدة فيما بين خصائص هذه الروحانيّة كلها، كما تنتظم حبّات اللآلىء المندرجة في عقد ذهبي متين.
وقد ساعدت الطبيعة كثيرا في هذا الوادي المقدّس على نموّ الحياة النسكيّة فيه. فجذبت الكثيرين من طلاب الكمال المسيحي الى عيش حياة التأمّل والصمت في مغاوره الطبيعيّة المنتشرة كعش النسور على جانبيه. فجمال الوادي وزمجرة المياه المزيدة التي تجري متدافعة الى البحر، والصخور الشاهقة التي تطلّ من قوى السماء وقد وزعّت يد الطبيعة أشجار البطم والعفص والسنديان في أخاديدها، وأريج الأرز الذي تحمله نسمات السحر فتعطّر به أرجاء الوادي، كل هذه الجمالات التي تتجلّى في كتاب الطبيعة تجذب الناسك الى امعان النظر فيه والى الغوص في بحر من التأملات الخشوعيّة التي تحمله على تسبيح الخالق، مبدع الكون والكائنات. ولكم ساعد هذا الوادي ايضا على صقل أخلاق ومزاج هؤلاء النساك طوال سنين خلواتهم التي كانت تمتدّ بهم امتداد حياتهم على الأرض. فأخذوا عن خشونة صخوره ووعورة مسالكه صلابة العود وشدّة المراث والعناد في مقاومة جماح الاهواء ،وعن انشودة النهر المقدس في الليالي القمراء صفاء" في الزهن وخصبا في الخيال ودقّة في الضمير والاحساس، وعن زمجرة العاصفة وولولة الرياح في ليالي الشتاء وجرأة" في القلب وثقة في النفس وثورة على الاهواء، وعن طلوع فجره الذي يتباهى فوق قممه، وزحف ليله عند المساء من بطون الوهاد السحيقة، خشية" في النفس ورهبة" في القلب ومسحة"من الوقار والدعة تعلو الجبين.

2- لمحات مختارة من حياة النساك والحبساء الموارنة في وادي قنّوبين وقزحيّا.
ان المراجع التاريخيّة عن الحبساء والنسّاك الموارنة في وادي قاديشا نادرة وغير متوفّرة في المعاجم والمؤلّفات القديمة والحديثة، والسبب في ذلك يعود الى عاملين اساسيّين : اولا،لأنهم راموا العيش في الخفاء، فلا أحبّوا الظهور أو الدعاية، ولا كتبوا هم سيرة حياتهم أو كلّفوا أحدا أن يكتبها. وثانيا، لأن الاضطهاد والمنازعات وحرق المكتبات ونهب الديورة والمناسك لم تترك مجالا لجمع المعلومات الكافية عنهم. فنحن سنكتفي في حديثنا هذا بجمع النبذات التاريخيّة واللمحات المختارة التي دوّنها البطريرك العلاّمة القدّيس اسطفانوس الدويهي عن سيرة حياتهم في مؤلفّه " تاريخ الأزمنة " الذي أرسله سنة 1680 الى روما، وكان مخطوطا، لكي يطبعه مجمع انتشار الايمان. فلم يطبع آنذاك وظلّ مخطوطا في مكتبة الفاتيكان تحت رقم 215 . وفي السنوات الأخيرة طبعه الآباتي بطرس فهد رئيس عام الرهبانيّة المريميّة سابقا، في سنة 1976 . فنحن سنرجع الى نصّ المخطوط هذا وليسَ الى الطبعة هذه، لاماطة اللثام عن سيرة حبساء ونساك وادي قاديشا .
ان أول حبيس ذكره الدويهي في مخطوطه، هو يوحنّا من قنات. فيخبرنا هذا البطريرك الكبير أن يوحنّا هذا استحبس سنة 1228 في وادي قنّوبين [1]. وفي سنة 1393 كان الحبيس اليشاع الحدثي قاطنا في محبسة مار سركيس الواقعة قرب دير مار آبون المشرف على الوادي المقدّس [2]. ولمّا توفي البطريرك يوحنّا الجاجي سنة 1445 ، انتخب الاساقفة ورؤساء الديورة والشعب خلفا له الاسقف يعقوب بن عيد الحدثي. وهذا كان قد تربّى في السيرة النسكيّة الملائكية في محبسة مار سركيس الآنفة الذكر [3].وقي سنة 1472 كان القس جرجس الاهدني ساكنا مع تلميذه الشماس تادروس من عينطورين في محبسة مار انطونيوس قزحيّا [4]. وفي سنة 1495 بنى القس بركات من بقوفا محبسة مار ميخائيل شمالي - غربي دير قزحيّا، وسكن فيها الى آخر حياته. ثمّ تعاقب على العيش فيها كلّ من الحبساء الآتية أسماؤهم : موسى من اليمّونة، يعقوب
من برناسا قرب ميفوق، ميخائيل الأول من اهدن، حنّا من اهدن، ميخائيل الثاني وابن أخيه جبرائيل من اهدن، ثمّ ميخائيل الثالث من اهدن، وكانت وفاة هذا الاخير سنة 1617 . فهؤلاء جميعهم دوّنوا اسماءهم في كتاب الانجيل الذي كان محفوظا حتّى أيام البطريرك الدويهي في المحبسة المذكورة [5].
وبين الحبساء الموارنة اللامعين في القرن السادس عشر، ذكر الدويهي الحبيس يونان المتريتي. فهذا البار جاهد في حياة النسك مدّة خمسين سنة. وكتب عنه تلميذه الحبيس جبرائيل الاهدني، يقول :" انه لم يكن يأكل الاّ مرة في اليومين. امّا في الصوم الاربعين، فلم يكن يذوق طعاما الاّ يومي السبت والاحد. وكان صيامه يمتدّ من العنصرة الى الميلاد، ومن عيد الغطاس الى الفصح. ولم يكن يشرب الماء الاّ يوم السبت. وكان في سبت الآلام يسجد على الارض اربعة وعشرين ألف سجدة (مطانيّة)، وفي سائر أيام الصوم كان يسجد حتى يجري عرقه.
وبالرغم من هذه القساوة الشديدة على نفسه، ظلّ الحبيس يونان متحليّا برحمة وحنوّ لا نظير لهما نحو الآخرين". وأخبر عنه تلميذه الآخر حنّا اللحفدي هذه الحادثة الخارقة، قال :" نفذ الزيت يوما من الخابية الكبيرة الموجودة في المحبسة. فأُعلم الحبيس يونان بالأمر، فجاء وصلّى عليها وبخّرها فامتلأت الى فوق ". فأخذ العجب من التلميذ كلّ مأخذ. فقال له الحبيس : " مجّد الرّب يسوع، وتأمّل عجائبه على يد أحقر عبيده ". ثمّ أوصاه بألاّ يخبر أحدا بهذه الاعجوبة قبل وفاته. وعندما أحسّ الحبيس يونان بدنوّ أجله، أرسل وطلب البركة والحلّ من البطريرك موسى العكّاري، ومن المطران قورياقوس بن حبلص الاهدني، فحضر الاثنان الى محبسته. وبعدما حرّضهما على المحبّة والوفاق وأوصاهما بالسهر واليقظة على خراف المسيح، أسلم روحه الطاهرة بيد الخالق. فشاع خبر وفاته في كلّ الأنحاء، وهرع رؤساء الديورة والاخوة والنسّاك وأعيان الشعب الى دير مار أنطونيوس قزحيّا ليتباركوا من لمس جسده الطاهر الذي أضناه في مدى خمسين سنة بالعبادة والاصوام والتقشّف. وبعد أن زيّحوه بالبكاء والدموع دفنوه بكلّ اكرام في مقبرة المحبسة. ويقول البطريرك الدويهي ان جسده لم يزل حيّا بدون فساد حتّى أيامه [6].
وكان للحبيس يونان المتريتي تلامذة عديدون أشهرهم يوحنّا اللحفدي الذي خدم معلّمه المريض مدّة أربع عشرة سنة. فهذا ضاهى معلّمه في أعمال النسك، وأخذ النفس بالشدّة، وكان
في سبت الآلام يسجد على الارض ستة وعشرين ألف سجدة. ومنهم أيضا جبرائيل الاهدني. فهذا
كان رجلا متقشفا جدّا، وفاز على أقرانه بممارسة الاماتات والأصوام والتقشّفات القاسية . وكان يؤدي في أيام الصوم الف سجدة (مطانية) في اليوم. وفي سبت الآلام لم يكن يتوقّف عن صنع السجدات. ولم يكن يذوق الماء مطلقا ابتداء من الصوم حتّى خميس الاسرار، وكان طعامه في اليوم أقلّ من أوقيتَين . ورغم التقشّفات هذه،لم يكن يكلّ ويتوقّف عن نسخ الكتب والمخطوطات حتّى امتلأ جبل لبنان كتبا منسوخة بخطّه الجميل[7].
واضافة الى هؤلاء الحبساء والنساك ذكر البطريرك الدويهي قي تاريخه وفاة الحبيس ملكا البقوفاني سنة 1560. فهذا البار قضى في حياة النسك ستّين سنة. فسكن أولا في محبسة دير قزحيّا، ثمّ في محبسة مار ضومط داريّا، ثمّ في المحبسة المنقورة في الصخر والموجودة قبالة عرجس، وأخيرا في محبسة مار ميخائيل فوق دير قزحيّا، وكان قدوة صالحة ومثالا حيّا لكل الناظرين اليه، فيطوي في أيام الصوم اسبوعا كاملا، ولم يكن يأكل طعاما الاّ يوم الأحد. وكان يقهر جسده ويميته بالجوع والعطش والسهر المتواصل. وكان يمشي حافي القدمين، ولم يكن ليبطل عن ذكر اسم الله. ولم يتفرّس في وجه امرأة طوال حياته. ولزيادة فضله وقداسة سيرته رقّاه البطريرك موسى العكّاري الى الدرجة الاسقفيّة[8].
ومن نسّاك وحبساء وادي قاديشا وقزحيّا وقنّوبين كان يُنتخب بطاركة الطائفة المارونية واساقفتها. فاضافة الى عشرات الاساقفة الذين رقّوا الى الدرجة الاسقفيّة من بينهم، تبوّأ ثلاثة منهم الكرسي البطريركي، فأرغموا على الخروج من صوامعهم ليديّروا شؤون الطائفة، وهم : ميخائيل الرزي من سنة 1567 حتّى سنة 1581، وسركيس الرزي من سنة 1581 حتى سنة 1596، ويوسف الرزي من سنة 1596 حتى سنة 1608 [9].
وفي أواخر القرن السادس عشر ذكر الدويهي وفاة حبيسين لامعين في محابس الفراديس، هما يوسف البسلوقيتي الذي توفّي سنة 1580 في محبسة مار انطونيوس الفراديس، ويعقوب عصّاص السمراني الذي توفي سنة 1584. فهذا ترهّب أولا في دير قزحيّا ثمّ قضى حياته في أعمال النسك بقداسة وطهارة فائقتين في محبسة مار سمعان الفراديس، وظلّ جسده حيّا بعد وفاته ولم يمسّه فساد [10].
يبدو أن شهرة قداسة الحبساء الموارنة في الوادي المقدّس عطّرت الآفاق بدليل أن فرنسوا دي شاستويلFrancois de Chasteuil  الفرنسي الاصل، وافى لبنان في منتصف القرن السابع عشر، وأقام في غرفة ضيّقة في دير مار يعقوب إهدن، ثمّ في دير مار سركيس رأس النهر، ثمّ في دير مار اليشاع القديم في الوادي المقدَّس. ولم يكن يخرج من قلاَّيته ليختلط بالناس، بل ظلَّ اثنتي عشرة سنة مكبّا" على قراءة الكتاب المقدّس. في اللغات الساميّة، وعاكفا" على الصلوات والتأملات وأنواع الاماتات الجسدية المختلفة. وما عتّم أن اقتفى آثاره أربعة شبّان آخرون من بني أُمّته، فقدموا الى لبنان سنة 1668 من بلاد فرنسا، طالبين الوحدة وحياة التقشّف في محابس وادي قاديشا وقنّوبين. فنزل البطريرك آنذاك جرجس السبعلي عند رغبتهم وقبلهم في عداد الحبساء الموارنة. فاختار البعض منهم السكن في محبسة مار شلّيطا الواقعة قرب كفرصارون، والبعض الآخر في محبسة مار انطونيوس المنقورة بالصخر فوق دير قنّوبين، والبعض في محبسة مار آبون قرب الحدث [11].
وفي النصف الأَخير من القرن السابع عشر كان عدد النسّاك الموارنة يزداد في وادي قاديشا وقنّوبين، وكانت المحابس تكثر بازديادهم. فذكر الدويهي اضافة الى من ذكرنا أعلاه، الحبيس سركيس السمراني الذي انزوى في محبسة مار انطونيوس قزحيّا وكان رجلا" ديّنا راغبا" في العلوم ومتضلّعا في اللغة السريانية والعربية [12].
ثم ذكر الدويهي الحبيس سركيس بن موسى الرزي. فهذا تلقّى علومه في روما ثما عاد الى لبنان. ولمّا انتخب اخوه يوسف بطريركيا سنة 1596، خلفه هو في محبسة مار بيشاي قرب دير مار انطونيوس قزحيّا . ويرجع الى هذا الحبيس العالم العلاّمة الفضل الكبير في جلب أول مطبعة الى الشرق وطباعة أول كتاب فيها سنة 1610، وكان هذا الكتاب  " كتاب المزامير " [13].

خاتمة
ظل التراث النسكي حيا" في الكنيسة المارونية على مدى أجيال متتالية . فالحبساء والنساك الموارنة الذين عاشوا في وادي قاديشا وقنوبين قد اتبعوا النهج النسكي الذي عاشه قديما مار مارون وورثوه هم عنه وعن تلاميذه الأولين بحيث قال الاب ايرونيموس دنديني عن حبساء قاديشا في أواخر القرن السادس عشر :" اني لمتأكد ان هؤلاء الحبساء هم البقية الباقية من اولئك الزهاد الاقدمين الذين كانوا يعتزلون الناس ليقطنوا بأعداد وفيرة صحاري وجبال سوريا وفلسطين . ان موطنهم في هذا الوادي لا يقع في سهول خصبة أو سفوح رائعة تشرف على مناظر خلابة ، ولا في أماكن مكتظة بالناس ، بل يتوغلون في الاماكن الأشد عزلة عن الناس ، ويتسلقون الجبال الاكثر بعدا" عن المجتمع بحيث يعيشون تحت الصخور الناتئة والشامخة ويقطنون المغاور والكهوف التي هي أقرب الى أوجار النسور منها الى مساكن البشر " [14].




[1] - راجع المحفوظ الفاتيكاني السرياني،رقم215،صفحة 53.
[2] - المرجع ذاته،صفحة86.
[3] - المرجع ذاته،صفحة93.
[4] - المرجع ذاته،صفحة96.
[5] - المرجع ذاته،صفحة99.
[6] - المرجع ذاته،صفحة 111 .
[7] - المرجع ذاته،صفحة 113.
[8] - المرجع ذاته،صفحة 114.
[9] - المرجع ذاته،صفحة115،119.
[10] - المرجع ذاته،صفحة 120
[11] - المرجع ذاته،صفحة 143
[12] - المرجع ذاته،صفحة 135
[13] - المرجع ذاته،صفحة 141
[14] - الأب ايرونيموس دنديني ، رحلة الى جبل لبنان ، باريس 1685 ، صفحة 222 .

ليست هناك تعليقات: