2015/10/19

سلسلة محاضرات 1998 بيت مار شريل ـ بقاعكفرا، الأب جورج صغبيني- محاضرة الأب كرم رزق، قاديشا وادي القديسين، الأحد 2 آب 1998



سلسلة محاضرات 1998 بيت مار شريل ـ بقاعكفرا، الأب جورج صغبيني- محاضرة الأب كرم رزق، قاديشا وادي القديسين، الأحد 2 آب 1998













لمحة تاريخية عن وادي قاديشا

مقدّمة
يحاكي وادي قاديشا بأهمّيته التراثية أمكنة قلّ وجودها على سطح الارض، مثل جبل آثوس في اليونان ومنطقة شمالي سوريا، وصعيد مصر. وإذ تقتصر مداخلتي على رسم الخطوط الكبيرة لتاريخه، فيقيني إن الدراسات التي تتناوله ستبيّن مدى غناه الطبيعي والانساني والديني.

العوامل الطبيعية والبشرية
يشكل وادي قاديشا رقعة  بيئيّة لها ميزاتها الطبيعية والجغرافية والاقتصادية والسياسية والحضارية. وقد تفاعل تاريخ الوادي مع المحيط اللبناني والشرق أوسطي.
يقع وادي قاديشا ضمن نطاق جبة بشري، ويمتد الى كوسبا في منطقة الكورة. يمتاز الوادي بقساوة تضاريسه، لا سيما تشكيلاته الصخرية الكلسية الضخمة التي تعود الى الطور الجيولوجي الرابع. يتسع حوضه الاعلى حيث مدرج الارز الذي تظلله اعلى فمم جبال لبنان، كالقرنة السوداء وفم الميزاب. ويضيق في الأسفل الى ان يختفي في سهول الكورة، ويغالي في الانسحاق في الوسط حيث يتجاوز عمقه الالف متر. يمخره نهر قاديشا الذي يتغذى من ينابيع وروافد عديدة، قبل ان يصبّ في طرابلس متخذا اسم نهر "ابو علي". يدخل هذا الشريان في عداد الروابط التي تصل بين الساحل والجبل.
تنتشر الوحدات السكنية القروية على ضفتي الوادي لتشكل المستوى الطبيعي الشبه الاعلى للتجمعات البشرية في الشرق الاوسط. وتتخلل منحدرات الضفتين اخاديد ومغاور وكهوف حوّلها المتوحّدون الى صوامع معلّقة لا يدركها سوى من تحرّر من جاذبية هذا العالم الفاني وتعلّق تقيم العالم الباقي. فمسافة التحرر اللامتناهية هي الحد الذي يفصل بين النساك وبين اهلهم في القرى المجاورة، وبدونها لا يكون نسك وتزهد وتوحد.
حلّ الانسان في هذه التقعة الجغرافية منذ العصور القديمة، واحتفظت الكهوف بعتاده وببقايا ادوات استعماله اليومي. ويعود السكن المنتظم الكثيف في الجبة الى الفرن السابع الميلادي كما تدل على ذلك آثار بعض الكنائس. اما طرح الاسئلة مثل: من كان هذا الانسان؟ لماذا اتى الى الجبة؟ من اين اتى اليها؟ وان توجّب طرحها  فمعالجتها تخرج عن نطاق هذا البحث.
وتطفو اسماء الاماكن الرئيسية في الكتابات المارونية منذ القرن الثاني عشر، المشتق المشتق وتتثبّت في المصادر الاخرى خلال القرون اللاحقة لتقوى على الزمن الى يومنا هذا، المشتق المشتق بينما تضمحل بعض المعالم الثانوية. وفي الحالين يجد الباحث نفسه امام ظاهرة تستجوبه، المشتق المشتق علما ان مآثر ابن القلاعي وحوليّات الدويهي توفّر مادة لمعجم مواقع توبوغرافية. ويطغى ايضا الطابع الماروني على المنطقة خلال الفترة عينها دون ان تنتفي صفة الاختلاط والانفتاح.

العوامل الاقتصادية
قام اقتصاد الجبّة على الزراعة وتربية الماشية التي بقيت المعوّل الرئيسي لسكانها حتى نهاية القرن التاسع عشر. يدّخر المزارع مؤونته من الانتاج الزراعي، وعندما يغلّ الموسم ويفيض المحصول تتيسّر عملية التبادل، لا بل عملية تسديد الضرائب.
ان للزراعة في الجبة ظروفا. يقسو المناخ احيانا كثيرة ويجعل الزراعة عرضة للعوامل الطبيعية، وتخبر الحوليات باسهاب عن عدم انتظام دورات االاحوال المناخية: امطار كثيرة وثلوج كثيفة تسبّب سيولا وفيضانات، برد وبَرَد ورياح عاتية، او جفاف، يتبعها كلّها اوبئة وجراد…
التربة صخرية ووعرية تتأكّلها النبتات الطفيلية، استلزمت جهودا متواصلة لقيام الجلول. اما انواع المزروعات فتتوزّع كالتالي: الحبوب، التوت، الكرمة، الزيتون، كما اتقن الفلاح اللبناني تربية دود القز، والنحل، والمواشي… استعان بها في امور معيشته، استخرج منها مؤونته وتمكّن ان يستبقيها من موسم الى موسم على شكل: زيت، نبيد، دبس، برغل، بذار،عسل، قورمة، وجلود، وفيالج…وظّف في ذلك المطاحن والمعاصر والكرخانات والدبّاغات: وهكذا اكتملت الدورة الاقتصادية.
تقهقرت الزراعة مرارا وسببت نزوحا نحو المناطق الجنوبية او نحو سهل البقاع. كما عزّزت الاضطرابات السياسية هذا النزوح واضفت عليه مرارا طابع اللاعودة. وكان لهذا النزوح بعض النتائج الايجابية على صعيد تماسك جبل لبنان.
وفّرت الزراعة على المدى البعيد بحبوحة نسبية لم تؤد الى نمو ديموغرافي مضطّرد. يمكن للباحث ان يتبيّن ذلك اذا ما قارن قوائم الاحصاءات وجداول الضرائب مع مناطق متاخمة للجبة في نفس الفترات الزمنية.
وما يؤكّده الدويهي عن الازدهار في الجبّة سنة 1458، اثر ارتقاء البطريرك بطرس بن يوسف بن يعقوب الشهير بابن حسّان الحدثي، ينطبق فقط على حلقة من الدورات الاقتصادية. ويقول: "كانت قرية الحدث وكل البلاد في عز واطمئنان. حتى ان في خميس الاسرار لما اندقّ الناقوس لسمع القدّاس الطاهر ومناولة الاسرار الالهية انضبطوا خمسماية مسّاس للفلاحة على باب هيكل مار دانيال من الذين كانوا يحرسوا ارض الحدث. وانعدّوا في اهدن في الحارة الفوقه سبعين بغل الذين كانوا يسافرون الى مدينة دمشق. وكان فيها خمسة عشر قوّاس يأكلون علوف من مدينة طرابلس".[1]
ان لهذا النص معاني اقتصادية ومجتمعية بليغة اذ يشير الى انماط التبادل التي كان يؤمّنها ابناء الجبّة بين طرابلس والشام، وهو ينمّ ايضا عن طبقة من "الاداريين" الذين يتقاضون اجورا ثابتة لقاء خدماتهم.
وتراجعت الزراعة عند مغيب القرن التاسع عشر، وأدّت الى هجرة من الجبة الى الخارج، ربما نسبتها كانت الاقوى بين المناطق اللبنانية. وكان لهذه الهجرة البعيدة ان اتت الى الجبّة برأس مال أجنبي، لا سيّما عند عتبة القرن العشرين.

العوامل السياسية
عرفت الجبّة، ومن ضمنها قاديشا، ما بين القرن الثاني عشر والقرن التاسع عشر، انظمة سياسية متنوّعة. ولم تكن قط بمنأى عن الصراعات الدولية الكبيرة.
دخلت الجبّة اولا تحت سيطرة كونتية طرابلس الصليبية الى حين سقوطها بايدي المماليك سنة 1289. وابّان هذه الفترة، تسنّى للموارنة ان يحافظوا على نوع من التنظيم الداخلي. اما التأريخ الذي يجتهد في استنباط طرق للتنسيق بين الموارنة والصليبيين فهو بعيد عن الواقع والحقيقة والمصادر.
وتبعت الجبة نيابة طرابلس المملوكية. ولأسباب سياسية واستراتيجية استهدف المماليك الموارنة اثناء محاربتهم الصليبيين للاستيلاء على مدينة طرابلس.
شنّت قوات السلطان الظاهر بيبرس حملتين على قرى الجبة سنة 1266 و 1268.
وجرّد التركمان حملة على الجبة بايعاز من الملك المنصور قلاوون (1279-1290) سنة 1282 بغية اضعاف الموارنة والالتفاف على طرابلس. نجحت الحملة، وقد دوّنها محيي الدين بن عبد الظاهر في سيرة قلاوون، وكذلك البطريرك الدويهي وقد استقاها من شحيمة احد النساك في دير مار أبون. ولعلّ هذه الحملة قضت على استقلالية الموارنة وعلى تحصيناتهم التي تعود جذورها ربما الى زمن حلولهم في الجبة، واستيطان المردة فيما بينهم.
وتوالت الحملات على جبل لبنان، أخصّها سنة 1292، و 1300، و1305، وهي وان وُجّهت ضد فرق الشيعة، فقد طالت الموارنة في بلاد البترون وجبيل وكسروان، وسبّبت حتما هجرة العديد منهم الى قبرص وجزر اخرى في المتوسط.
تشدّد المماليك 1282-1282 1حيال المسيحيّين، اضطهدوهم وطبّقوا عليهم احكام اهل الذمّة. نكّلوا بالموارنة، سجنوا بعض اساقفتهم في دمشق، وحرقوا البطريرك االحجولاوي قرب جامع طيلان في طرابلس سنة 1367. دفع الموارنة ضريبة جسيمة نتيجة الصراع المملوكي الصليبي الذي استمرّ على شبه غزوات للساحل اللبنابي، ونتيجة الصراع المملوكي التتري_المغولي في البرّ، ونتيجة الاتهامات والظنون. تضاءل عديدهم، افتقروا، شحّت موارد عيشهم، وهاجر خلق كبير منهم.
تغيّرت احوال الموارنة ابّان حكم المماليك البرجيّة (1383-1516). اعترف هؤلاء بزعامة مقدّميهم التي دامت حتى سنة 1621. لاحظ ابن القلاعي هذا التغيير، وعبّر عنه في زجليّاته:  
    
وادي على نهر قاديشا                  سلطان عابر يتمشى
  عزمه راهب يتعشى                 تعجّب من حياة الرهبان
نعم نعم تلك السلطان                   واعطى مربعه للرهبان
ان من يسكن في الشقفان              يعمّر من مال السلطان
وأقاموا مقدّم في بشرّي                على الدياري والنهري
ضدّ الطغيان المصري                 يقيم حرّاسا ويكون سهران
.............................……
حاكم بدبّوس دنياني                    وبعصا شدياق روحاني
طايع الاسقف وسلطاني                بشرف الكنيسة والايمان
اقتبل منهم اسم الكاشف                وسيف العز عليه حالف…

ويضيف الدويهي في شرعية المقدّمية البشراوية ما يلي: "عندما تدروش الملك الظاهر (برقوق) يقال انه قدم قرية بشرّي فأقام الشدياق يعقوب ابن ايوب مقدّما وكتب له بذلك صفيحة من نحاس، ثم نزل الى دير قنّوبين فبات هناك وعجب من سيرة الرهبان فكتب لهم صفيحة من نحاس يكونوا معافين  ويكون ديرهم له الرئاسة على ديورة تلك الجهات. لقد نسب احد المؤرّخين الفرنسيّين هذه الواقعة الى تيمورلنك  ولكنه لم يفد عن مصادره.وهي ان صحّت تستوجب نقداً منهجياً Fausses  décrétales   هذه النصوص وغيرها الكثير تذكّر بال ……خاصاً، لاسيما وأنّها  تطرح قضايا  خطيرة، مثل مفهوم السلطة، علاقة المقدّمين برؤسائهم المدنيين، وعلاقتهم بالبطريركية المارونية.
انّ تضافر عدد من الظروف الملائمة حدا بالبطريركية المارونية ان تستقرّ في قنوبين منذ عهد البطريرك يوحنّا الجاجي سنة 1444. ولكن ما عتّمت ان انفجرت مشكلة الوجود اليعقوبي في الجبّة في نهاية القرن الخامس عشر. انّ لهذه المسألة ابعاداً سياسية واقتصادية ودينية وثقافية، تخطّت حدود المنطقة، ولكنها انتهت لصالح الموارنة.
ثمّ دخلت الجبّة تحت الحكم العثماني سنة 1516، وأُلحقت بولاية طرابلس، تماما كما في عهد المماليك. حافظت على نوع من الاستقلالية في ظل نظام الالتزام الذي تعهّده آل حماده لمدّة طويلة خلال القرنين السابع والثامن عشر. وبالرغم من المشاكل الكبيرة التي عانتها الجبّة، كردّات فعل على الصراع العثماني الاوروبي في المتوسط والبلقان، بقيَ ارتباطها وثيقاً بطرابلس عن طريق التبادل التجاري والمعاملات الحقوقية التي شملت اهل الذّمة، كما تثبت ذلك سجلاّت المحكمة الشرعية في مركز الولاية.
وفي نفس الوقت عرفت الجبّة تحوّلاً كبيراً اذ بدأت تتجه رويداً رويداً نحوجبل لبنان خلال امارة العسّافيّين وامارة المعنيين لتنضم  نهائياً الى الجبل ابّان الامارة الشهابية، ولتصبح جزءا لا يتجزّأ منه في عصر القائممقاميتين والمتصرّفية، ثمّ ركناً في كيان لبنان المستقل والحاضر. تتمثّل وسائط هذا التحوّل بسياسة الامراء السابق ذكرهم، وبتدبير كواخيتهم ومساعديهم، وبمصالح بعض التجّار، وبنزوح بعض السكان…

العوامل الثقافية
اما على الصعيد الديني الحضاري، فقد لعبت الجبّة، وقلبها وادي قاديشا، دوراً يفوق حجم مساحتها الطبيعيّة. استقرّ البطريرك الماروني في دير سيدة قنّوبين. أحاط به أساقفة الطائفة وجمع غفير من الرهبان المتوحّدين الذين غطّى بخور تقادمهم الوادي، كما ينقل الدويهي عن البطريرك يوحنا الصفراوي المتوفي سنة 1659: "…كانت الديورة والاودية محبوكة من الرهبان والحبسا … ايام الحدود والاعياد كان يعقد دخان البخاخير في تلك الاودية بشبه الضبابة".
ترأس دير قنوبين على سائر اديرة ومناسك قاديشا التي يربو عددها على العشرين، واهمّها: دير مار انطونيوس قزحيّا، دير مار ليشع، دير الصليب، دير مار يوحنا،  دير مار جرجس، دير سيدة حوقا،  دير مار آبون،  دير مار أسيا، محبسة مار بيشوي، محبسة مار بولا…
زادت ثروة دير قنوبين تباعا من جرّاء حسن ادارة القيّمين عليه حسبما يؤكّد الدويهي في تاريخ الازمنة، واكتنزت مقتنياته بفعل الوقفيّات كتعبير عن ايمان راسخ وعن محبّة اخويّة مثلما تشهد هوامش انجيل ربولا. شرّع قنوبين ابوابه لكل طارق او صاحب قضيّة، قريب او غريب، مسيحي او مسلم كما لاحظ دنديني، رغم ان النكبات والبلص والنهب والحرق توالت علىالكرسي البطريركي. وشاركته الأديرة الأخرى في نفس المصير.
قنّوبين هو فجر الحداثة في الطائفة المارونية وفي لبنان. عُقدت فيه خمس مجامع خلال القرن السادس عشر: سنة 1557، 1569،  1578، 1580، 1596 . حضر المجمعين الاخيرين تباعاً كل من اليانو و دنديني، موفدي الكرسي الرسولي. وعقد فيه مجمع سادس سنة 1755. نظَّمت هذه المجامع، وغيرها شؤون الكنيسة المارونية الروحية والزمنية. فيه تقرّر افتتاح المدرسة المارونية في روما سنة 1584، وافتتاح مدرسة حوقا سنة 1624 كمدرسة اعدادية للاولى. فيه اختير طلابهما، وكان جلّهم من قرى الجبّة في العقود الاولى. فهاك السماعنة وباقي الحصارنة، وهاك الصهيوني وعميرة والدويهي من اهدن، وهاك ابن نمرون الباني وغيرهم هؤلاء هم باكورة سفراء التثاقف بين الشرق والغرب. ومؤخّراً إنتظم في ركبهم، المشتق كلٌّ على طريقته، القدّيس شربل، الطوباوي نعمة الله الحرديني، جبران خليل جبران…
تبنّى "قنّوبين" التقويم الغريغوري سنة 1606 وواجه معارضة  حادّة قبل ان يستحصل على البيورولدي_ أي الفرمان الذي اذن بإدراج هذه الطريقة لإحتساب الزمن_. أمَّ قنوبين وقاديشا رحّالة، دبلوماسيون، وقصّاد رسوليون. اكتظّ قاديشا بالنساك طلاّب الكمال، مسيحيّين ومتصوّفين، تفرّدوا باختبار روحاني لا يقاس بمعايير اعتيادية. زاولوا الاعمال اليدوية، كتبوا ونسخوا، فحُفظت آثارهم في كبريات المكتبات العالمية3. طلب قنوبين العلم والتمس الكتب فَرَست اولى المطابع في قزحيا سنة 1610 عندما كان الشرق يهوم في سبات عميق.
تجدّدت الحياة الرهبانية في قاديشا سنة 1695، وهكذا استمرّ التقليد الرهباني حيّاً أكثر من الف عام على التوالي. قاديشا هي ذاكرة امّة وتستحق ان تدرج على لائحة التراث العالمي.







[1] البطريرك اسطفان الدويهي، مخطوطة الفاتيكان رقم 215، ص 94.
333 في ما يخصّ النسّاخ، انظر مقالة الخورأسقف مخايل الرجّي،"كتاب تاريخ الازمنة للدويهي وثبت النسّاخ في القرن 16"، في الاصول التاريخية، المجلّد الثالث، 1958، ص232_237.

ليست هناك تعليقات: