2015/10/19

سلسلة محاضرات 1998 بيت مار شريل ـ بقاعكفرا، الأب جورج صغبيني- محاضرة الأب اغوسطبن مهنا، قنوبين في مفكرة الرحالة الأجانب، الأحد 26 تمّوز 1998



سلسلة محاضرات 1998 بيت مار شريل ـ بقاعكفرا، الأب جورج صغبيني- محاضرة الأب اغوسطبن مهنا، قنوبين في مفكرة الرحالة الأجانب، الأحد 26 تمّوز 1998




...نقدّم الى القرّاء بضع صفحات من أدب الرحالة الأجانب الذين قصدوا لبنان ، زاروا معالمه ودوّنوا رحلاتهم، فكان فيها لدير قنّوبين حظُ وافر وصفحات خالدة . من بين هؤلاء الرحالة :

أولا-  جان ده لا روكJean de LA ROQUE : [1]
هو فرنسي، ولد في مرسيليا، سنة 1661.توجّه الى الشرق وهو في السابعة والعشرين من عمره. أبحر من مرسيليا في شهر أيار،سنة 1688، ليصل الى لارنكا بعد ثلاثة عشر يوما من إبحاره، ومن ثمّ الى طرابلس. مكث في لبنان حتى شهر تموز، سنة 1690 خلال هذه المدّة،تنقّل بين أماكن كثيرة:زار صيدا،صور وبيروت،حيث أقام ثلاثة أيام عند الآباء الكبوشيين.من ثمّ،انتقل الى عينطوره،حيث أمضى عند الآباء اليسوعيين زهاء شهرين:من أوائل أيلول حتى 26 ثشرين الأول،سنة 1689 . على الأثر، انتقل الى لبنان الشمالي، حيث أتيحت له زيارة دير قنوبين، الأرز، فبعلبك . في أواخر تشرين الثاني ، عاد من جديد الى عينطوره ، حيث أصيب بحمّى شديدة ، فاضطرّ الى البقاء مدّة ثمانية أشهر عند الآباء اليسوعيين ، أي حتى شهر تمّوز من سنة 1690 . عند هذا التاريخ يتوقف خيط الأخبار ، ولا معلومات عن عودته الى فرنسا التي تمّت ما بعد سنة 1690 .
…" وكان ، بعد وقت طويل ومشقّات جَمّة ، أن وصلنا الى قنوبين ،هذا الدير الشهير لقدمه ولكونه كرسيّ بطريرك الموارنة ومقرّه المألوف . هؤلاء المسيحيّون هم الشرقيّون الوحيدون الخاضعون باستمرار للكنيسة الرومانيّة والمتعلقون بها ، وهم يعتبرون هذا البيت المركز الديني بالنسبة لهم.
قنوبين، هو مبنى كبير نوعا، لكنّه عديم التناسق، معظمه مشيّد في الصخر: الكنيسة، على اسم العزراء ، وهي تُعرَف بالقديسة مريم في قنوبين ، منقوشة كلّها في الصخر . يبلغ طولها حوالي خمس وعشرين قدما ، بعشرة أو اثني عشر عرضا : انّها على كثير من النظافة والعناية ، الاّ أنها مظلمة بعض الشيء ، بسبب الصعوبة المتأتّية عن خرق النوافذ في الصخر . عن الجهة اليمنى للمذبح الكبير ، رُفعت ثلاثة أجراس داخل الحائط ، أو بالأحرى داخل الصخر . ثلاثة اجراس على شيء من الضخامة ، تُقرَع بكل حريّة ، وربما كان هذا الموضع الوحيد ، من كل الشرق ، حيث توجد أجراس . ما تبقّى من المبنى يتكوّن من جناح البطريرك ، وهو لا يكاد يتميّز بشيء خاص ، ومن عدّة غرف للرهبان وبضعة مكاتب ، والكل على شيء من الفقر وسوء الترتيب .
بالرغم من أنّ هذا البيت يقع على منحدر احدى الجبال القليلة الارتفاع ، فانّ خارجه لا تنقصه الوحدة ولا جواره أن تكون ضاحكة : لقد أوجيدت زراعة أراضيه ، حيث توجد الجنائن والبساتين والكروم بكثرة ، ومعظمها مرصوف بشكل سطوح . وهذه ليست سوى جزء ضئيل من ممتلكات البطريرك والدير . يملك هذا الحبرما دون النهر وما فوقه ، على أعلى الجبال وفي وهاد أخرى ، أراض شاسعة تُستَثمر ، ليس فقط لقوام عيشه هو وعيش الرهبان ، بل أيضا لأطعام المحتاجين المتواجدين باستمرار في الدير وبأعداد وفيرة ، وإطعام الغرباء من كل أمّة .
رهبان قنوبين ، وعددهم حوالي الأربعين ، يرجعون ، حسب قولهم ، الى تقليد القديس أنطونيوس، ككل الآخرين الموجودين في هذه البلاد ، وهو تقليد تركه لهم القديس ايلارون . لكنّهم يتبعون قانون القديس باسيل . انّهم ينذرون حياة قشفة جدا ، وتوفير الضيافة للجميع . وفوق كل شيء ، تُجلٌ عندهم بساطة رائعة ، قلّما تتوفر في (محيط) الجهل والابتعاد عن العالم ، وهي تُغنيهم عن صفات أخرى أسمى ، يتكوّن لباس هؤلاء الرهبان من فستان من الصوف الأسود ، ضيّق جدا وذري ، يصل الى تحت الركبة ، ومن طرحة من ذات القماش أو من شعر الماعز تنزل على الصدر والظهر عن الكتفين ، هي ايضا قصيرة جدا ، ومن قلنسوة صغيرة . عراة الأرجل ، هم يحتذون بابوجا أسود .
استُقبلنا في هذا البيت بكل الفرح والحفاوة الممكنَين . فالبطريرك ، الذي يسكن فيه عادة مع عدد من الاساقفة ، كان غائيا منذ بضعة أشهر بسبب طغيان أحد أسياد البلاد ، اذ لم يكن يكتفي بالألف درهم الذي يدفعه له الدير كل سنة ، راح يُضايق الدير أيضا بشتّى الطرق ، الى حدّ الاحراق عندما لا يتيسّر اعطاؤه كل ما يطلب خارجا عن المألوف.
كان القسم الأكبر من الرهبان بعيدا عن المكان ، منهمكا بقطاف العنب . فلقد دعانا المتقدّمون ، الذين بقوا في المكان ، الى تناول طعام الغذاء ، صحبة أحد الشيوخ الأكثر وقارا ، والذي يقوم بمهمّة رئيس البيت . لقد حدّثنا هذا الأب الطيّب بلباقة أثناء الطعام ، هذا الذي اقتصر على بضع صحفات من البيض وبعض الزيتون . لكنّه يصعب أن يوجد في مكان آخر خمر أفخر من الذي قُدٍم لنا : ممّا أثبت لنا صحّة شهرة خمور لبنان التي يحكي عنها أحد الأنبياء . هذه الخمور هي على نوعين : الخمر العادي ، وهو الأحمر . أمّا الأطيب ، فهو بلون خمرنا المسكي، ويدعى الخمر الذهبي ، بسبب لونه . لايرتاح الأجانب الى خبزهم ، الذي هو أشبه بقطع الحلوى ، يَتَفتّت، وهو عجين . لكن ، وبعد مشقّات سفر مضن ، يألف الأنسان كل شيء . لم يكن لنا من المزعج بشيء أن نتغدّى دون طاولة ولا كراسي ، أي جلوسا على الأرض حول صينيّة من القش، وأن نشرب جميعا من كأس واحدة ، حسب عادة البلاد .
يبقى أنّ الامتناع عن أكل اللحم يُمارَس بدقة عند هؤلاء الرهبان . وهو ، بالنسبة لهم ، نوع من الشكوك أن يطلب مسيحيّون في قنوبين لحما ، دون حاجة واضحة اليه .
بعد الطعام ، انصرفنا بنوع خاص الى المحادثة ، ولقد طرحنا على هؤلاء المتوحدين أسئلة مختلفة حول موضوع رحلتنا . علمنا منهم أنّ من بين العديد من الأديار المتواجدة في لبنان ، هناك ثلاثة ذات أهميّة ، قنوبين هو احداها ، ولقد كان يضمّ لوحده ثلاث مئة راهبا . فلأنّه ، من بين تلك الأديار القديمة ، الوحيد الباقي الى اليوم بعدد من الرهبان مُعتَبَر ، وبصفته رأس مصاف الأكليروس والرهبان في الأمّة المارونية ، أُعطي له اسم قنوبين ، من كلمة يونانيّة مُلَيتَنة :" تشِنُبيوم "، كمن يقول : الدير بحصر المعنى .
علمنا منهم أيضا أنّ كل المغاور الممكن الوصول اليها ، والتي تُشاهَد على مدى الوادي ، عن جهتي النهر المقدّس تَعُدٌ حوالي الثمان مئة مغارة ، في كل منها جعل متوحد له مقرّا ، تحت طاعة وتدبير أحد من الأديار ، علمنا أيضا أنّ أغلبية أسماء هؤلاء النسّاك تُعرَف إِمّا من التقليد ، وإِما بطريقة أخرى ، وأنّ الكثيرين منهم قد ذُبحوا في مغاورهم أيام الاضطهاد على أيدي أعداء الايمان . ولقد أقيمت مذابح اكراما لذكراهم ، إِمّا في المغاور ذاتها ، وإِمّا في كنائس صغيرة مجاورة شُيِّدت خصيصا : لن يُغفَل أبدا عن اقامة القداس هناك في يوم عيدهم المرسوم في روزنامة خاصة بكنيسة قنوبين .
يلزم وقت غير محدود لزيارة كل هذه المغاور ، التي لا تمكن الاشادة كثيرا بموقعها ، وللاطلاع في العمق على الأشخاص القديسين الذين أَهلوا في الماضي هذه العزلة الجميلة ، حيث عاش ، كما يؤكَّد ، ما يقارب العشرين ألف راهب، إمّا في المغاور وإما في الأديار: كل ما بالامكان فعله، هو التوقّف عند عدد محدود من تلك المغاور، إمّا لأنّ أحداثا مميّزة، أو لأنّ جمالها الطبيعي أكسبها شهرة أكثر من سواها. معظمها توجد في صخور مخيفة، فهي تُشرف على المنحدر الأقسى من الجبل، ممّا يجعلها تبدو وكأنّها معلّقة، غير ممكن الوصول اليها… "

ثانيا - مذكّرات "لوران دارفيو"  (Laurent d'Arvieux ) [2]
هو من أصل ايطالي . انتقلت عائلته في القرن السادس عشر من اللّمبردي الى فرنسا ، حيث تنقلت في مناطق عدّة .
ولد لوران في مرسيليا ، في 21 حزيران 1635 ، توفّي والده وله من العمر 15 سنة . ولمّا كانت تركة والده زهيدة ، لا تقوم بأوده مع خمسة اخوة له ، قرّر لوران أن يبحث عن الثروة بعيدا ، عن طريق التجارة .
في 6 تشرين الأول ، سنة 1653 ، غادر لوران مرسيليا الى الشرق ، وكانت " سميرن "، حيث أمضى خمس سنوات ، أولى محطة له . هناك تعلّم اللغات التركيّة والفارسيّة والسريانيّة . خلال سنة 1658 ، غادر سميرن الى صيدا ، مرورا بمصر وفلسطين ، فوصل صيدا قي شهر تموز بعد سفر مضن ، طال خمسة أشهر . مكث في صيدا ما يزيد على سبع سنوات ، زار خلالها القدس ، جبل لبنان ووصل الى الشام . وفي هذه الأثناء تعلّم اللغة العربيّة . عاد الى فرنسا في 21 حزيران من سنة 1665، بعد أن أمضى اثنتي عشرة سنة في الشرق .عاد الى الشرق مرّة أخرى، سنة 1679، بصفته قنصل فرنسا في حلب ، حيث أمضى سبع سنوات متتالية ، وحيث جمع ثروة وافرة ، ممّا جعله بفكّر بالعودة نهائيا الى فرنسا . عاد ، وتزوّج في سنّ الرابعة والخمسين . عاش في منطقة مرسيليا ، معتزلا السياسة ، وراح يفكّر على الكتب المقدسة من خلال نصوصها الشرقيّة ، حتى موته سنة 1702 عن سبع وسبعين عاما ، دون أن يترك سلالة من بعده.
"… بعد أن سرنا بضع ساعات في هذه الحقول ، اتّجهنا الى اليسار ، لنذهب الى قنوبين . وعلى قدر ما كنّا ننحدر ، كنّا نكتشف دوما حقولا جديدة ، أصغر من الأولى ، مع قرى ومزارع تحيط بها الأشجار ، فتجعل الطبيعة غاية من المتعة .
مررنا قرب بشرّاي ، دون أن ندخلها ، وذهبنا لزيارة كنيسة على اسم القديس أليشاع ، تخصّ الكرملتان الحفاة . لقد ورث هؤلاء الآباء الطيّبون قسما من روح أمهم السارافيميّة ، القديسة تريزيا ، فكان لهم منه الحظ الوفير، ولقد عبّروا بالتأكيد عنه بالاختيار الذي قاموا به. فبعد أن تأمّلوا جيّدا هذه البريّة، ونظروا في ما يناسبهم، أَوَوا الى هذا الموضع ، وبدون اجازة البطريرك ، احتفظوا به ، وما زالوا حتى اليوم …
… بعد أن تأملنا جمال هذا المكان الرهيب ، لَزِمَنا ساعة من الوقت لنصل الى الدير البطريركي، المدعو قنوبين . هذا الاسم يأتي من كلمة " تشِنُبيوم "، التي تعني دير . ولقد اعتُبرِ هذا الأخير كرأس للأديار الباقية لدرجة أنّه سمّي الدير بحصر المعنى ، كما كان الرومان يسمّون روما ، بكل بساطة ، المدينة بحصر المعنى ، أو الأتراك يسمّون " اسطنبول " ، أي المدينة ، عاصمة ملكهم .
قنوبين ، أو " تشِنُبيوم " في اللاتينيّة ، و " مُنَستِر " في الفرنسيّة ، هو الدير البطريركي ، حيث يقيم بطريرك الموارنة . عندما يُشاهَد من أبعد نقطة تتيح رؤيته ، يبدو وكأنّه قائم في عمق الوادي. لكن عندما تصل اليه ، تتأكد بعينيك من أنّه لا يكاد يقع على منتصف جانب الوادي ، وأنّه يبقى الكثير من الطريق قبل أن تصل الى قعر هذا الوادي السحيق. وصلنا اليه ، أخيرا . فاستقبلنا الأساقفة والرهبان بلطف قد لا يخطر ببال أحد أن يلقاه عند سكان هذه البرية الموحشة ، البعيدة عن كل مجتمع ، خاصة وأنّ حياتهم التقشّف والتوبة توحي ببعض جفاصة تتعارض مع اللطف . اقتادونا الى قاعة كبيرة ، وقدّموا لنا المرطبات ، أولا ، بينما اقتاد بعض الأخوة دوابّنا الى اسطبل كبير ، وعاونوا خدّامنا على رفع الحمولة عنها وتقدمة العليق لها .
اخوة آخرون ذهبوا فأعلموا البطريرك بوصولنا . لقد كان يختبئ في مغارة غير بعيدة، خفيّة جدا، صعبة المنال ، ومحجوبة عن الأنظار ، كان ينسحب اليها عند طلوع الفجر ، ولا يغادرها الا عند المساء ، لأنّ سكان هذه الجبال كانوا ما زالوا في حرب مع باشا طرابلس ، الذي كان يفرض عليهم مبلغا من المال ضخما ، ما كانوا ، هم ، ليحكموا بضرورة توفيره له . لذا كان الباشا يوفد غالبا أتراكا ليخطفوا البطريرك ويأتوه به ، يقينا منه أنّه اذا ما أصبح هذا الأخير في قبضته ، يبيع الموارنة آخر ثوب عندهم ليُخرِجوا البطريرك من سجونه .
أتى البطريرك بعد نصف ساعة من من إِشعاره بوصولنا . قبّلنا يده باحترام ، وهو عانقنا بحنان ، ووجّه الينا كلمة ترحيب غاية في اللطف . كنت قد كُلِفت بأن أوجّه اليه كلمة باسم الرفاق ، قلتها بالعربيّة ، ممّا سرّه جدا . بعد هذه الواجبات ، اصطحبنا الى الكنيسة ، حيث أُعطِيت البركة بالقربان الأقدس ، تبعتها طلبة العذراء القديسة بالسريانيّة ، أُنشِدَت على ذات اللحن الذي تُرتَّل به في كنائسنا ، باللاتينيّة .
لمّا خرجنا من الكنيسة ، مضى بنا اليطريرك الى قاعة كبيرة ، حيث كان العشاء معدّا . كان يتضمّن كمّية كبيرة من اللحوم ، هُيًئت على طريقة البلاد ، مع أثمار وحلويات صنعت بالعسل ، وعدد كبير من الأباريق الفخارية خُتِمت بالجفصين ، ومُلِئت خمرا ممتازا ، يعلو خمرَ نوح البطريرك جودة. أكلنا بشهيّة قويّة . لم يتوان البطريرك ، والأساقفة والكهنة ، الموجودون معنا الى المائدة، من حثّنا على الأكل والشرب جيّدا . كانت تُملأ طاساتنا فور فراغها . ولو أذعَنّا لهم ، لبقينا الى المائدة حتى الليل. من ثمّ ، أُحضِرَت طاسات وكؤوس من الكريستال ، من جميع الأشكال ، غاية في الجمال والطرافة . ولقد كان الأجدر بها أن تُزيِّن قاعة عرض من أن تُستَخدم على المائدة . أخيرا أُحضِرت واحدة منها ، كبيرة لدرجة أنّها تسع على ما أعتقد حوالي الثلاث ليترات . دهش لها رحالتنا لدرجة أنّ معظمهم تركوا المائدة . امّا البطريرك والأساقفة والكهنة الذين راحوا يُحَرِّضونا على الشرب . فلم يعطونا المثل في ذلك . على العكس ، لقد كانوا غاية في الاعتدال . بعضهم لم يكن يشرب سوى الماء . واذا ما أعدّوا لنا هذه الوليمة ، فما كان الاّ ليمارسوا الضيافة في أقصى مدى لها . انّ حياتهم ، عادة ، هي غاية  في البساطة . لا يأكلون سوى البقول وبعض اللحوم العاديّة ، يصومون غالبا وبشكل قشف جدا . يعملون كثيرا، ينهضون في الليل لتلاوة صلواتهم ، فهم جميعا أمثلة ممتازة قي الانتظام الكامل. واذ رأى البطريرك أنّ ضيوفه قد توقّفوا عن الأكل ، أمر برفع المائدة . وبعد أن قمنا بفعل الشكر ، أجلسني قربه، وتحدّثنا حوالي الساعتين ، فكانت مناسبة لنتعرّف الى حيويّتة وذكائه هو ، كما والى أساقفته وكهنته .
افترقنا أخيرا . واقتادونا الى مغارة صغيرة ونظيفة جدا ، حيث وجدنا حِصرا ، والأغطية التي حملناها معنا .
البطريرك آنذاك ، كان يدعى جورج . لكنّ اسمه لم يكن على ختمه : بل توجد دوما هذه الكتابة في اللاتينيّة والسريانيّة : بطرس ، البطريرك الأنطاكي ، لأنّ القديس بطرس أقام أوّل كرسيّ له في أنطاكية . هذه الكلمات توجد مكتوبة حول صورة للعذراء القديسة. كان لهذا الحبر من العمر حوالي الخمسين عاما . كان ذا قامة كبيرة ، وسحنة جيّدة ، شعره أشقر ، جريء ، ملامحه هنيئة وتُملي الاحترام . كان على جانب كبير من الذكاء والتصرّف اللبق والجذّاب . كان عالما كبيرا وغاية في الانتظام ، بالحقيقة ، لم يكن ليعرف سوى اللغتين ، العربيّة والسريانيّة، انّما كان يوجد دوما الى جنبه كهنة أتمّوا دروسهم في روما، فهم يعرفون اللغتين، اللاتينيّة والايطاليّة.
كان لباسه بسيطا ، قميصا من القماش المتواضع ، وعلى رأسه عمامة كبيرة ، مستديرة ، زرقاء، من نسيج القطن ، سابقا ، كان يلبسها بيضاء . اضطرّ الى لبسها زرقاء ، بعد أن صار الأتراك أسياد البلاد ، فاختصّوا ذواتهم ، دون سواهم ، بحقّ لبس العمامة البيضاء . هذا ، ولم يُحجِم الموارنة عن لبس العمامة البيضاء ، أحيانا . لكنّهم يلبسونها من الحرير ، بينما الأتراك يلبسونها من النسيج ، وهم أيضا لا يجازفون بلبسها بيضاء حيثما الأتراك هم الأسياد دون منازع.
عندما يموت البطريرك ، يجتمع رؤساء الأساقفة والأساقفة وينتخبون من بينهم آخر . يختارون من بينهم من هو أكثرهم  فضيلة واستحقاقا وكفاءة ليحكم الشعب الخاضع له . بعد الانتخاب ، يرسلون القرعة الى البابا ليحصلوا منه على الموافقة وينالوا درع التثبيت. يعيش جميع الأحبار الموارنة حياة غاية في الانتظام والتقشّف . يتّسم لباسهم بطابع الفقر ، وليس لهم من دخل سوى ما تُنتجه الأرض لهم من عمل أيديهم . لا مظهر أبدا للأُبّهة عندهم كأحبارنا في أوروبا . ملابسهم نظيفة ، ولو وضيعة . هي الفضيلة زينتهم ، لا الأقمشة الثمينة الموشّاة ، لا الذهب ولا الفضّة . عصيّهم من خشب ، أمّا هم فأساقفة من ذهب . جميع المسيحيين يكنّون لهم احتراما لا حدّ له ، وطاعة عمياء لكل ما يأمرونهم به . يقبّلون أيدي رؤساء الأساقفة والأساقفة والكهنة ، وقدمي البطريرك . يجلّون رفعة طبعهم في اكرام شخصهم . يحترمونهم كآباء لهم وكرؤساء ، فطريقتهم في العيش والتعامل معهم هي أمثولة قيّمة للذين ، مثلنا نحن ، قد تفلّتوا ليعيشوا بشكل يتعارض كلّيا مع ما تمليه علينا شرائعنا .
في الغداة ، احتفل البطريرك بقداس حبري . عاونه أربعة أساقفة ، اثنان عن كل زاوية من المذبح. كان هناك أيضا مدير الاحتفالات ، شمّاس ، شدياق ، خادمان وعدّة كهنة أوكلت اليهم خدم أخرى. أمّا الرهبان الباقون فكانوا يرتّلون المزامير دون انقطاع ، منذ بداية القداس وحتى نهايته . وقوفا ، راحوا يكوّنون نصف دائرة حول عمود ضخم ، وُضِع في منتصف الخورس ، أعلاه واسع ومسطّح كطاولة ، يُستَعمَل كقرّاية ، ويحمل كتابا كبيرا خُطَّ بالسريانيّة .
أَنسَبُ ما في هذه الكتابة ، هو أنّه في أي موقع وُجدت ، عن اليمين أو عن اليسار ، مواجهة أو الى الوراء ، فانك تقرأ على السواء بسهولة ، لأنّ هذه الكتابة ، اذ تنطلق من أعلى الى أسفل ، تُقَدِّم دوما حروفها ، بحيث أنّك تقرأها عن كافة الجهات .
انتهى القداس ، فقَبِلنا باحترام بركة البطريرك ، ومضينا لانتظاره في القاعة الكبرى . جاء الينا بعد أن أنهى صلواته . شكرناه ، فردّ علينا بكل الطيبة المعهودة ، ودعانا للبقاء في قنوبين طيلة الوقت الذي نشاء للراحة ولرؤية ما يسترعي انتباهنا في البلاد . قبّلنا يده ، منحنَا بركته ، ثمّ انصرف عائدا الى حِماهُ وعزلته في المغارة الخفيّة .
أُعِدّ لنا من ثمّ فطور وافر . بعده ، رافقنا أحد الكهنة الوقورين لزيارة الدير والجوار. يقع الدير ، على التقريب ، في وسط أحد منحدر الجبال الذي يكوّنه وادي القديسين ، وسط غابة تتألّف من أشجار كبيرة وصغيرة من كل صنف ، وجنائن وكروم ، وينابيع وجداول تجري في كل جهة.
لقد بُني جزء من الدير مستقل عن الكنيسة ، بينما الجزء الآخر يبدو منقوشا في الصخر ، حيث حُفِرت مغاور صغيرة أو غرف للرهبان وللضيوف .
الكنيسة جميلة هي وكبيرة ، محفورة كلّها في الصخر ، ولقد حَجَب مدخلَها حائط عال ، فُتِح فيه الباب الكبير مع نافذتين ، في كل من هذه رُفِع جرس ضخم ، يُقرع لصلوات الفرض ، داعيا المؤمنين للمشاركة. انّها الأجراس الوحيدة ، حسب علمي ، في كافة السلطنة العثمانية . يقال انّ السلطان صلاح الدين ، الذي احتلّ البلاد ، لمّا مرّ في هذا الجبل ، استقبله الرهبان ، سكان هذه البرية ، باحترام وحفاوة بالغَين . فعطف عليهم ، وأمر باصلاحات وانجازات هامّة في الكنيسة وفي الدير ، وملّكهم كمّيّات من الأراضي ، وسمح لهم بالحصول على أجراس وباستعمالها كما في البلدان المسيحيّة . ولم يمسّ أحد من خلفائه لا هذه الهبات ولا هذا الامتياز ، بل يتمتّع الرهبان بها بسلام. ولقد أُخذنا عندما سمعنا صوت هذين الجرسين اللذين تُردّد المغاور والصخور والغابات صداهما، فيتكوَّن تناغم رائع .
هناك في السكرستيّا لوحة كبيرة لملكنا المعظّم لويس الرابع عشر . كان قد كلمنا البطريرك بشأنها أثناء العشاء ، وأكد لنا بأنّهم يحتفظون بها باحترام - كما وبصور كل الأمراء المسيحيين الذين ينتظرون الخلاص عن يدهم ، سواء كان لويس الرابع عشر أم أحد خلفائه -وأنّهم ينظرون اليه كحاميهم الأقوى والأكثر اندفاعا ، وأنهم يقيمون لأجله الصلوات الخاصّة كل يوم ، في القداس وفي صلوات الفرض. أرانا القندلفت عددا من الذخائر ، يحفظونها في صندوق من الرخام . فَقرُهُم المدقع يحول دون أن يكون لهم صناديق من الذهب أو الفضّة … "

خلاصة الرحلتين
في الصفحات التي نقرأ عند جان ده لا روك ، نجد وصفا سريعا وشاملا ، على دقّة في الملاحظة، لنواح عديدة تتعلّق بدير قنوبين وسكانه من الرهبان ، نوجز أهمّها :
1"-  يصف الدير في مكانته التاريخية والروحيّة بالنسبة للموارنة ، كما وفي موقعه الجغرافي وفي كافة أجزائه . يشير الى ممتلكاته الشاسعة ، والتي تستثمر لخدمة المحتاجين والغرباء من كل أمّة ، وينّوه بأهميّة دير قنوبين التي تعطيه الأولويّة على الأديار الأخرى المتواجدة على أرض لبنان .
2"-  يتحدث عن الرهبان ، سكان دير قنوبين ، مشيرا" الى عددهم ، الى التقليد الذي ينتمون اليه، الى طابع حياتهم التقشّفي ، وينّوه باعجاب عن صفة مميّزة يتحلّون بها : " بساطة رائعة تغنيهم عن صفات أخرى أسمى ". هذا ، ويصف بدقّة لباسهم .
3"-  يأتي على ذكر ظلم أسياد البلاد، آنذاك، بفرض ضرائب باهظة على الدير وباضطهادهم البطريرك.
4"- يشهد لحسن الضيافة ، في دير قنوبين ، لجودة الخمر فيه ، كما ولبعض ممارسات متأصلة في تقليد هذا الدير ، كالأمتناع عن أكل اللحم ، يعطي بعض معلومات عن عدد المغاور في الوادي المقدس ، عن شهرة البعض منها ، عن عدد النسّاك الذين عاشوا واستشهدوا فيها .
في الصفحات التي نقرأ عند لوران دارفيو معطيات كثيرة وتفاصيل ، نوجز أهمها ، تاركين للقارىء استخلاص ما تبقى مباشرة من النص.
1"-  نجد وصفا" لدير قنوبين وسكانه ، البطريرك والأساقفة بنوع خاص .
2"-  يبدأ فيعطي تفسيرا" لكلمة قنّوبين ، التي تشير الى أهميّة هذا الدير وتوليه المكانة الأولى بالنسبة الى الأديار الباقية . يصف موقعه الجغرافي والوادي المقدّس السحيق .
3"-  يتوقّف بنوع خاص عند شخصيّة البطريرك والأساقفة . هو يشيد بروح الضيافة الكريمة السخيّة عندهم . يجلّ فيهم مزاياهم العالية ، تتجلّى في لطف قلّما توفّر عند سكان مثل هذه القفار الموحشة ، أو عند من عقد النفس على التقشّف والتوبة ؛ تتجلّى في قناعة شخصيّة تجاه المال وطرق جمعه وتكديسه : " ليس لهم من دخل سوى ما تنتجه الأرض لهم من عمل أيديهم "، وفي تجرّد كامل عن كرامات الدنيا والمظاهر الخارجيّة : " لا مظهر أبدا للأبّهة عندهم " ، وأخيرا ، في تقشّف واعتدال في المأكل والمشرب والملبس : " أمّا البطريرك والأساقفة والكهنة الذين راحوا يحرّضوننا على الشرب ، فلم يعطونا المثل في ذلك . على العكس ، لقد كانوا غاية في الاعتدال . بعضهم لم يكن يشرب سوى الماء … انّ حياتهم ، عادة ، هي غاية في البساطة . لا يأكلون سوى البقول وبعض اللحوم العاديّة . يصومون غالبا وبشكل قشف جدا … " . هو يلخص صفاتهم الرفيعة بقوله المأثور هذا : " هي الفضيلة زينتهم، لا الأقمشة الثمينة الموشّاة، لا الذهب ولا الفضّة، عصيّهم من خشب، أمّا هم فأساقفة من ذهب ". 4"-  يشير الى تعلّق الموارنة بأحبارهم هؤلاء ، وهو تعلّق يقوم ويُبنى لا على امتيازات يتمتّعون بها ، بل على مزايا رفيعة يتحلّون بها .
5"-  يشير أيضا الى الجور والاضطهاد الذي لقيه الموارنة عبر مسيرتهم التاريخية من قبل حكّام البلاد ، كما والى وقوف الموارنة وصمودهم في وجه الطغاة الظالمين ، كباشا طرابلس ، اذ أبوا أن يؤدّوا له كل ما كان يفرضه من ضرائب .
6"-  بالاضافة الى ما سبق ، يوفّر لنا رحلاتنا بعض معلومات تاريخية حول لبس البطريرك للعمامة البيضاء أو الزرقاء ، حول انتخاب بطريرك جديد وطلب المواقفة من روما ، حول كيفيّة حصول دير قنوبين على أجراس وقرعها بحرية ، آنذاك ، كما في البلاد المسيحيّة وأخيرا ، حول صلاة القرّاية . وتجدر الاشارة هنا الى الخطأ الذي وقع فيه رحالتنا عند وصفه الكتابة السريانيّة ، يقول : " …لأنّ هذه الكتابة ، اذ تنطلق من أعلى الى أسفل … " . ربما تأتّى خطأه هذا عن طريقة كتابة " الشحيم " السرياني : بشكل أعمدة .

ثالثا - المنسنيور ميلسن ، مرشد امبراطور النمسا ورئيس بلاط البابا بيوس التاسع. في مؤلفه : Les Saints Lieux
وقد نقل منه جزءا" الى العربيّة ، تحت عنوان " رحلة المنسنيور ميلسن " ، الأب اغناطيوس طنّوس الخوري ، الراهب اللبناني .
في 24 حزيران من سنة 1848 ، غادر فيانّه الى الأراضي المقدسة . زار القسطنطينيّة ، جزر رودس وقبرص ، ومن ثمّ بيروت . دوّن رحلته في كتاب من ثلاث مجلّدات . خصّ لبنان بأربع مئة وستين صفحة من المجلّد الاول .
كررّ رحلته الى الأراضي المقدسة في ربيع سنة 1855 ، وكان يرافق ملك بلجيكا وملكتها . زار مصر وفلسطين وسوريا واليونان وصقلّية وايطاليا. في نيسان من السنة ذاتها، زار لبنان، وعلى الأثر زار ايضا دمشق .
نقتطف بضع صفحات من ترجمة الأب اغناطيوس طنوس الخوري ( 94- 102 ) تعني مباشرة موضوعنا . وهي بعناوينها تغني عن ايجاز ما جاء فيها .

تقادم الموارنة للكنائس
وقد علق الرحالة روبنسون على اكياس مناطة بسقف كنيسة قنوبين ،  فيها بذر دود الحرير ، وعلى كل منها مكتوب اسم صاحبها ، فتساءل قال : " لا اعلم لماذا هي موضوعة في الكنيسة . وعلى ما رأيت ان القرويين السذّج في الجوار يؤملون بذلك ان يحصلوا - بشفاعة وبركة شفيع الكنيسة - على خصب واقبال في موسم الحرير " . ويكون استغلال الموسم عندما يقدم القرويون بواكير غلالهم للرب ، عنوان شكر وعرفان جميل ، عاملين بقول الكاتب : " واوائل بواكير ارضك فأتِ بها الى بيت الرب الهك " . خروج ( 34 : 26 ) اجل ، ان ما رأى روبنسون في قنوبين ، يجري ايضا في جميع كنائس لبنان ويقدم الموارنة فيالج الحرير لان الحرير هو دخلهم المعوّل عليه وقد كان ابناء آدم يقدمون للرب من ثمار الارض والمواليد الاولى من قطعانهم ، " وكان قايين قدم من ثمار الارض تقدمة للرب وقدم هابيل من ابكار غنمه ، ومن سمانها " (تكوين 4 : 3 و4). وكان اليونان والهنود واليهود يفقهون - نظير الكاثوليك اليوم - وجوب تقديم رمز ودليل شكر فريضة سنوية لمبدع الارزاق وموجد الخيور. فضلا عن ان الله تعالى قد وعد بالثواب الذين يكرمونه هكذا ، حتى في هذه الدنيا، اذ قال " اكرم الرب مما لك ومن اوائل جميع غلالك. فتمتلىء اهراؤك وفرا"، وتفيض معاصرك خمرا " (أمثال 3 : 9 و10).
وازيد ايضا" انني رأيت مرارا" عديدة في لبنان ، مجموعات اكياس صغيرة معلقة بمؤخرة الكنائس ، حيث محل النساء ، فيها بذر دود الحرير لكل القرية او المحلة . وهذا لعمري انما هو محض العبادة والتقوى ، يضعون به تحت حماية الله ، بنوع شديد الاختصاص ، اغلى مواسمهم واعزها ، وادرّها ريعا" وربحا" ، هادفين ايضا في ذلك الى مؤآتاة جوّ الكنيسة لبيوض الحريراكثر من جو البيوت والمنازل، فيتوفر من ذلك ان لا تنفق وتفرخ قبل الآوان.

روعة وادي قاديشا - وذكرياته
وعلى الرغم من ان عبورنا في قنوبين كان خاطفا" ،حيث الماء السلسبيل والخمر اللذيذ والخبز المماثل اجود واطيب خبز في اوروبا ، فلا شيء يوازي الروعة الدينية التقوية الخاشعة التي تسود هذا الوادي المقدس . اجل ،ان تسبيح الله تعالى وتمجيده على اقدام الارز ، وحراثة الجبال والربوات التي دارت عليها رحى المعارك العديدة دفاعا" عن الدين والايمان ، والطواف على عدوات نهر قاديشا وضفافه الضاحكة احيانا ، والمجابهة احيانا اخرى ، بطبيعتها البكر والاختباء في مغاوره العميقة الغور ، وهي ملاجىء امينة ودياميس حصينة لشعب شهيد ، وقراءة تاريخ اجداد هذا الشعب وثباتهم وعنادهم ، مرسوم الحروف والسطور على خرائب آثارهم الجبارة واطلالها ، وعلى عظامهم ورفاتهم المبعثرة المحطمة... ذلك هو الشغل الشاغل والحلم الدائم يهجس به ابدا" ، الحبساء والنساك القاطنون الى اليوم ايضا في هذا الوادي المقدس . ان ذلك لسعادة احسدهم عليها ! وكم انهم سعداء اولئك الذين يمنحهم الله هذه الدعوة ! انهم يمثلون دور موسى النبي يصلّون على رأس الجبل في حين يحارب الشعب في السهل .

فائدة الرهبان للمجتمع
اننا في اوروبا منذ تحولنا بكليتنا الى المادة ، نرى الرهبانيات العابدة قد سقطت في غمار الخمول ، واصبح انساننا يذيب ايامه بالمجادلة والحوار في السياسة العقيمة ، واجدا" من المستحيل ان يتحدث الى الله تعالى ، ولو ساعة واحدة من نهاره . بيدَ ان الدين هو دوما" خصبُ بالخير والفضل ، يعرف ان يوزعها حسب الحاجة والزمان ، ويوفر التعزية والتأسي في جميع الآلام والشدائد . فاذا اصبح وجود رهبانية ما غير ضروري ، فالحياة الرهبانية هي دوما" روح الكثلكة وعصبها الحسّاس . واذا كان الحبساء قد نزلوا من جبالهم ، والنساك المتوحدون قد خرجوا من عزلتهم ، فذلك لكي يتوزعوا على العمل في المدارس والمعاهد ، والمستشفيات ، ويجمعوا شتات الايتام ، ويخدموا المجانين ، ويتحملوا الانحباس لخدمة الخونة والآثمين ، ويعولوا المصابين بالطاعون وسائر الاوبئة .
قال دي لامرتين : " لم يعد للرهبانيات العصرية الا حقلان تستطيع العمل فيها بطريقة اجدى وانجح من الحكومات والشركات ، والقوات الافرادية ، وهما : تعليم الناس وخدمتهم في شقائهم ، والمدارس والمستشفيات . هذا فقط ما ثبت للرهبانيات من محل في حركة المجتمع حالا". لعمري ، ان الرهبانيات قد احتلت هذين المحلين منذ زمان بعيد ، وستحافظ عليهم رغم انف المناوءة والعدوان . وما اعجز أي قوة ان تمنعها عن الصلاة ، التي هي حقل ثالث لها ايضا" تجيد العمل فيه ينوع اجدى ايضا من الحكومات وغيرها.
اجل ، لقد مرت الايام الطويلة على زوال الاعتقاد بنفع الصلاة . وانصرف روح العصر للاعمال الخيرية . وصدرت الاحكام المبرمة تدين الرهبانيات العابدة . ويحاكمون اليوم بعنف وصرامة سائر الرهبانيات الاخرى ، لانها تشكل الخطر والعقم من أي جدوى . هذا الروح عينه كان يدفع ابليس ليجرب القديس انطونيوس الكبير ، ويمتحنه في برّيته . وهذا الشيطان نفسه هو ايضا يطارد اليوم رهبان عصرنا ، واطئا آثار فضائلهم ، ويتعقبهم في ميدان رحمتهم ، وعلى مسرح احسانهم . اننا رأينا في اضطهاد هذه الايام ، ان الشيطان على قدامته وعتاقته ، هو اليوم اشد شرا" وحذقا" ودهاء ، منه في عهد القديس انطونيوس . يقال ان الشيطان يعرف كل شيء ولكنه ويجهل امرا" خطيرا … يجهل ان الرهبانيات هي دائمة ولن تفنى . دائمة بدوام المحبة التي اوجدتها ، وخالدة خلود الهدف الذي لاجله وجدت .
كم انه غريب لعمر الحق ، ان اناسا" يزجّون نصف حياتهم في البطالة المطبقة ، ونصفها الاخر في اقتراف المشككات ، يجرؤون على القول ان الرهبان هم خلائق غير مجدية ! واي خدمات يؤديها للبشرية اولئك النسوة المثريات المرفهات ، يكرسن كل الحياة لزينتهن وتبرجهن ويسترسلن في قراءة افظع الروايات والقصص قباحة ، ويطعنّ ما شئن في كرامة القريب … اولئك الناس ينتصف عليهم النهار وهم في اسرّتهم راقدون ، ولا ينهضون اللا للعناية بكلابهم وخيولهم ويحيون الليالي حول الموائد بالطيبات ، وفي مراسح اللعب ، ومخادع اللهو والمشاهد هؤلاء الكتّاب والصحفيون ، ينتحون العيش والاثراء فيجمعون قي حمأة السجون او في المواطن الموبؤة وغيرها … كل ما انتجه البشر من سماجة وقباحة، ويصوغونه رواياتِ، تقدمةَ لهو وتسلية لذوي البطالة العاطلين ، في قارات العالم الخمس ! ان العاقل يحسب نفسه حالما" حين يسمع هؤلاء القوم يتشدقون في كل فرصة ، ويروّجون ، ان الحياة الرهبانية هي حياة بطالة عديمة الجدوى .
ان الحياة الرهبانية قوامها الصلاة ، والوعظ ، والرحمة ، واذا انكرنا مفعول الصلاة وضرورتها اللازمة ، فقدت الحياة المسيحية جوهرها الاولي . وقد دافع عن الرهبان احد حماتهم البلغاء ، الكونت دي منتالمبير ، قال : " ان اهم الخدمات يؤديها الرهبان للمجتمع المسيحي ، انما هي الصلاة ، الصلاة الكثيرة ، الصلاة الدائمة لاجل من لا يعرفون ان يصلّوا او لاجل من لا يصلون مطلقا" . ان المسيحية لتحترم فيهم ، وتعظم على الاخص . هذه القوة الجزيلة الشفاعة ، تلك الابتهالات الحرة على الدوام ، تيارات هذه الصلوات التي تنصبّ دائما" على اقدام عرش الله تعالى ، وهو يريد ان نبتهل اليه . انها ترد غضب الله ، وتخفف من طغيان العالم وظلمه ، وتوطد السلام والمساواة بين دولة السماء ودولة الارض ! "

ماذا يقول المرسلون القدماء في وادي قديشا
اليك فقرة من كلام المرسلين القدماء في وادي قديشا ، قالوا :- " تحوي هذه الجبال مغاور عميقة الغور ، كانت في القديم صوامع لعدد كبير من النساك المتوحدين ، اختاروا هذه العزلة ليقدموا الدليل الساطع على توبتهم الصارمة . هي دموع اولئك القديسين المكفّرين التي اطلقت على هذا النهر اسمه الابدي  " الوادي المقدس " نبعه يتفجر من جبل لبنان ( جبل الارز). ان مرأى هذه المغاور ، وهذا الوادي ، في هذه البرية الموحشة ، ليوحي انسحاق القلب ندامة ، ومحبة التوبة والتكفير من جهة ، ومن جهة اخرى يوحي حنين تلك النفوس الشهوانية الكلفة بما في هذه الدنيا من متعة وافتتان وتفضيلها اياما" عابرة قليلة من الافراح والملذات ، على ابدية سعيدة لا انقضاء لها ولا انتهاء ! "

القديسة مارينا راهبة دير قنوبين
لقد ارشدني موارنتنا الافاضل الى مغارة ، على بضع خطوات من دير قنوبين ( غربا"). آوت اليها ابنة قديسة سنين طويلة، انصرفت فيها للتكفير عن خطيئة كانت منها براء. وهذا ما اخبروني عن تاريخها، قالوا:" ان والدها آثر ان يكرس لله تعالى سنواته الاخيرة . فوكل الى احد انسبائه ابنته المدعوة مارينا ، وهي في الرابع عشر ربيعا". ومضى ينزوي في دير قنوبين منتظما في سلك رهبانه . ولكن ذكر ابنته الوحيدة ظل لا يبرحه في عزلته ، فاستولى عليه من ذلك حزن عميق . واذا استطلعه رئيسه سبب حزنه ، اعلمه انه ترك في العالم ولدا" يحبه جدا" ، وكم تكون سعادته فائقة لو امكن ان يكون معه في الدير . فرضي الرئيس بطلبه ، وذهب هو فاحضر ابنته مارينا الى دير قنوبين في ثياب فتى ، وقبله الرئيس باسم الاخ مارينوس . وحين اشرف الوالد على الموت ، اوصى ابنته ان تواصل حياة القداسة ، وتستمر خافية أنوثتها على أي كان ، محتمية دائما" في ظل العناية الالهية . وكانت حياة الراهب مارينوس مثالا" للاقتداء ساميا" . ولكنه استُهدف للافتراء . وذلك ان فتاة في جوار قنوبين ارادت ان تبعد الريبة عن مسبب عارها ، فاتهمت الاخ مارينوس بانه اغواها وسلب بكارتها ، وبما ان الرئيس الذي اقتبل مارينوس كان قد مات ، وان مارينوس لم يقدم اية حجة على براءته ، حُكم عليه ان يعيش حياة فائقة الشظف والحرمان ، فيما بين الصخور التي قبالة الدير . وهناك عاش راضخا" سنين طويلة مقدما الامثلة الكبرى على فضائله، الى ان ادركته الوفاة فظهرت حقيقته ، وسطعت براءته " .

اهل وادي قديشا
وينعش هذا الوادي المقدس – مهد المارونية في لبنان – قرى ودساكر منتظمة على رؤوس الآكام والربى، مستظلة الافياء الظليلة ، تنشرها الاشجار الوافرة . والتقينا هناك رجالا" عامري البنية والقوام ، على نبالة وكبر في الحركة والمشية ، وعلى هيبة وجلال تتراءى من خلالهما الاخلاق الاستقلالية ، والنفس الابية . ورأينا نساء وفتيات في وجوه غضة نَضِيرة ، ونظرات لطيفة حنون ، وحشمة طبيعية لا تكلف فيها ولا رئاء ، سليمات القلب والنية ، هادئات مطمئنات . ويستطعن اباحة ما في نفوسهن دونما خوف ولا وجل . ومن قنوبين صعدنا الى الديمان ، بعد ان عبرنا نهر قديشا على جسر كبير ، متوقلين سفحا" حافلا" بالحجارة والحصى ، حتى بلغنا مخيمنا في الديمان ، بعد ان عبرنا فبل انسدال الظلام .

الحرية الدينية في لبنان
وتلوت القداس صباح اليوم التالي، خدمه لي رجل من اتباع قنصلية سردينيا، وهو رحالة اذ ذاك في لبنان. واعارني كبير امر من الاهتمام والرعاية. ثم قصدت حالا" الى زيارة البطريرك والمطران مراد المعهودين. فابديت لهما اسفي لاهمال اغراس الارز الصغيرة معرضّة للتلف. فاكدا لي الاهتمام الجدي باقامة سور يحتضن محلة الارز كلها، وبناء معبد اكثر لياقة من المعبد الحاضر، مع بعض غرف للزوار والرحالة. ثم اكد لي البطريرك- جوابا على ما سألت- انهم يتمتعون في الحكم التركي (العثماني) بحرية لا حدود لها من حيث التعليم، وممارسة الدين علنا"، وتعيين المطارين، والعلاقة مع روما. ذلك لعمري يطعن بحكومات اوروبا، حيث لا يستطيع مطران- أيا" كان- ان يصرح هكذا.
ان المدينة الغربية اوجدت التساهل والتسامح في الاسلام . اما الان فيغزو اوروبا برابرة متطرفون ، ويمعنون في تدميرها ما استطاعوا، فالعقائد باجمعها طُرحت مطارح النوى، وتقلّص الدين من معاهد العلم والادب، ومن الحياة العمومية ، وربما خلت منه قريبا" حياة العائلة الخاصة . واصبحت الشرائع والقوانين ، والحكومات ، والعلوم ، والفنون كلها وثنية بحتة‍‍‍‍‍‍‍‍‍.

تزاحم الدول على النفوذ في لبنان ايضا"
منذ ان دخلت انكلترا البحر المتوسط من خليج جبل طارق ( باسبانيا )، ومن جزيرة مالطا ، بدأت تسعى لبسط نفوذها وتجارتها في الشرق . فارسلت بعثة ذات وجه ديني ، اولا" لتنفي بها كل أثر للريبة والحذر ، ثم لتقبض تلك البعثة معاشها من سيدات لوندرا التقيات اللائي يسرقن ازواجهن غالبا" ليقمن بمعاش هؤلاء المبشرين الادعياء . وعلى هذا المنوال نسجت ايضا" دول اخرى ترويجا" لتجارتها ، فارسلت قناصلها الى اساكل الشرق . وشرع كل قنصل يعمل على تنمية نفوذ دولته ، واضعاف نفوذ الدول الاخرى ، مما سبب معارك ومناوشات ظلت قضية الدين غريبة عنها ، حتى اذا حصل قنصلُ امتيازا" من الباب العالي العثماني تفوّق به قليلا" على قنصل اخر ، نهض هذا يعمل ما استطاع على الغاء امتياز ذلك القنصل خصمه ، كما قد حدث للمرسلين الكبوشيين في بيروت ، اذ حرّم عليهم قنصل فرنسا هناك ان يقرعوا جرسهم ، لان الاذن بقرعه قد حصّله لهم قنصل سردينيا . ومن ذلك ايضا" ان المسيو كيزو ( 1787 - 1874)، رئيس وزارة فرنسا اجرى مفاوضات طويلة مع حكومة سردينيا لتوقف قنصلها هذا عن حماية الكاثوليك في بيروت . طالبا" ابضا" ان يكون لقناصل فرنسا وعامليها امتياز الاولوية بالتبرك بالماء المقدس عند الدخول الى الكنيسة !!
وهناك ايضا" روسيا تجهد بنشاط بارز لصالح المنفصلين عن روما . وانكلترا واميريكا تعملان لصالح البروتستانت . والمرسلون الكاثوليك ، على رغم وفرتهم وقوتهم ، واستعداد افرادهم للتضحية حتى الاستشهاد ، هم ضحية ذلك التزاحم الاستئثاري الانتفاعي المحض … على ما تقدم ، دار الحديث بيني وبين البطريرك . وكم تشكى من دسائس انكلترا . واليها نسب الفواجع الاخيرة [3] التي اغرقت الموارنة في دمائهم البريئة . ويغضبه بالاكثر اولئك المتجولون في لبنان باسم "مرسلين" مالئين جيوبهم بالتوراة، وقلوبهم بسم الافاعي.
المزابح التي اشعل نارها العثمانيون والانكليز سنة 1841 ، 1845 ، على ما هو معروف ، وقد قصلناه باستيفاء في كتابتنا " لبنان وفرنسا " بالعربية والفرنسية ، الجاهز للطبع قريبا" انشاء الله...

الصوم والانقطاع عند الموارنة- وغيرهم
وكان لي الشرف مرة اخرى ان اتغدى مع البطريرك . وكان الطعام قاطعا ، وذلك نهار الاربعاء . ويمسك الموارنة عن الزفر الاربعاء والجمعة احتراما" للشريعة ، ويوم السبت اكراما" وتعبدا" لمريم العذراء . على ان الامساك يوم السبت هو اختياري ومع ذلك فهو مرعي الحفظ اكثر من الاربعاء والجمعة . وعندهم فوق ذلك اربعة صيامات في مدار السنة هي : الصوم الخمسيني الكبير ، نظير جميع الكاثوليك ، وصوم ميلاد الرب ، وصوم السيدة قبيل عيد انتقالها الى السماء ، وصوم القديسين بطرس وبولس . وقد شرح احد المرسلين ( اليسوعيين ) في رسالة له من حلب كتبها منذ مئة سنة أي سنة ( 1748 ) ما عرفه بنفسه وعن كثب من طريقة الصوم والانقطاع عند الموارنة وغيرهم ، قال :
" ان الموارنة يتبعون عادة الكنيسة الرومانية . اما الملكيون والارمن والسريان فلا يتناولون طعاما" او شرابا" فبل الساعة الثالثة بعد الظهر . وينقطعون عن السمك والجبن والسمن والحليب والزيت . ويزيد الارمن الانقطاع عن الخمر . وليس عندهم تفسيح مطلقا" . والاولاد في السن العاشرة والاثني عشرة يساوون الكبار في الصوم فقط . ولا يخرقون القطاعة مهما كان الامر .
والطبيب الذي يمنع الصوم ويوجب الزفر مراعاة للصحة الغالية ، يحوّل الانظار عنه ، ويُمنى بالخسارة . وارك تسألني الان ، كيف يعمل الانكليز والهولنديون ؟ فهنا كما في انكلترا وهولندا لا يرعون صوما" ولا انقطاعا". ويتشكك منهم الناس ، فيقولون عنهم : انهم غير مسيحيين ، والمسلمون انفسهم يعتبرونهم لا دين لهم . وانهم هم يشعرون بهذه الدينونة ولا يستطيعون احتمالها . وصار كثيرون لا يأكلون اللحم اوان الصوم إِلاّ في الخفاء . واهل الصدق والاستقامة منهم يعترفون منذهلين بان دين المسيحيين الشرقيين لا يشبه في أي شيء تقريبا ، ما يعتقدون به هم . وهذا الفرق الملحوظ يخولنا افضلية كبرى عليهم .
ونقول لهم : انكم تريدون الرجوع الى عصر مولد النصرانية السعيد لكي تبرروا التقاليد. الى الاجيال الاربعة الاولى للكنيسة ، توجهون الدعوة . اسألوا جميع الشعوب حولكم ، تسمعوا : انهم في كل واجباتهم ، التي هي واجباتنا نحن ابضا ، لا يتبعون الا التقاليد الرسولية ، التقاليد التي تسلموها وورثوها من انطاكيا الشهيرة ، التي يعتبرونها اما" لهم ، عند هذا الاعتراض يرتبك البروتستانت ويتحيَّرون !..."
وعلى ضوء المثل الرائع يقدمه الموارنة في الصوم والانقطاع ، ارى ان التفسيح منهما يُعطى في اوروبا بتساهل محسوس ودونما سبب كاف . ان الموارنة يفوقون الجميع بكثرة اعياد البطالة والانقطاعات والصيامات . وذلك الجميع يقصّر عن الموارنة كل التقصير في رعاية تلك الشرائع . اذهبوا وانظروا هل صحة الموارنة لا تعادل صحتنا في اوروبا عافية" وازدهارا" او هل ارضهم ينقصها الكثير من العناية لتعادل ارضنا ؟؟ وعند المساء جاء المطران مراد يتناول الشاي في مخيمنا.


خاتمة الرحلات
قبل أن نترك القارىء في عهدة النصوص ، نودّ أن نوجز خلاصة من وحي الصفحات التي تركها هؤلاء الرحالة .
1)  يبدو من الواضح أنّ حياة التقشف هي احدى أهمّ الثوابت التي قامت عليها المارونيّة ، هي التي تجسّد ، في قلب الكنيسة الجامعة ، اختبارا روحيا عميقا يشدّها الى الأنجيل ، الى شخص السيّد المسيح ابن الله المتجسّد . لذا تظهر المارونيّة ، في حقيقتها ، كنهج نسكي ، أو مدرسة زهد وتقشّف . بهذا الوعي لذاتها أطلّت المارونيّة على العالم وتفاعلت معه ، به عُرِفَت وبه رسمت لها خطا . فان هي أهملت هذا البعد المكوّن لذاتها أو عنه انحرفت ، لأضاعت هويّتها وانهارت . هذا البعد ، انّما هو قدرها في الوجود ومسؤوليتها ، مذ أن شاءتها العناية في الوجود .
2) المارونيّة ، تراث النسك والتقشّف ، تكونت شخصيتها هذه ونمت في ظلال " الدير " ، في حماه وجواره، هو بوتقة الاختبار الروحي الصافي وموقع النسك والتقشف. من دير مار مارون على العاصي انطلقت… وراحت ، في رحيل اضطهاد ، تستظلّ الأديار … وصولا الى " الدير  قنوبين " ، أحد أهمّ مهادها في لبنان . ولنا في ومضات وصف يعطيها رحالتنا لدير قنوبين في موقعه وسكانه شهادة على ما تقدّم : قنوبين ، هذا الدير ، " يقع على منحدر احدى الجبال … معظمه مشيّد في الصخر …" ، صعب المنال ، فكأنّه " عاص " ثان : " وكان ، بعد وقت طويل ومشقّات جمّة أن وصلنا الى قنوبين " . وبالرغم من موقعه هذا ، فجواره ضاحكة وأراضيه مُتقَنة تُستَثمر : العمل اليدوي في الأرض ، له أحد مظاهر حياة النسك والتقشف ، وهو أيضا ميزة الموارنة القدامى الذين فتّتوا صخور جبلهم وجعلوا منها جنائن وبساتين : " فقد أُجيدت زراعت أراضيه ، حيث توجد الجنائن والبساتين والكروم بكثرة ، ومعظمها مرصوف بشكل سطوح " .
أمّا سكانه ، فرهبان " ينذرون حياة قشفة جدا ، وتوفير الضيافة للجميع ". يجيدون صنع الخمور الفاخرة ، يقدّمون منها للضيوف بسخاء ، وهم لا يذوقون منها نقطة . بطريرك وأساقفة ، " يعيشون حياة غاية في البساطة والتقشّف ، يتّسم لباسهم بطابع الفقر ، وليس لهم من دخل سوى ما تنتجه الأرض لهم من عمل أيديهم ".
كما ولنا في التنويه عن حياة التنسّك ، هذه الذروة التي تتوق اليها حياة الدير ، بالاشارة الى انتشار المحابس في الوادي المقدس والى عدد الحبساء والزهّاد الذين عاشوا واستشهدوا فيها ، وفي التنويه عن الاضطهاد الذي رافق تاريخ الموارنة ، وهو عنصر يضاف الى التقشف الاختياري ، لنا في كل هذا ما يؤكّد أنّ الارث الروحي النسكي ، الذي يشكّل قوام المارونيّة وبنيتها ، قد نشأ في الدير وفيه تجمّع .
3) بالتالي ، يظهر الدير ، عبر تاريخ المارونيّة وبالنسبة لها ، ضمانة وجوديّة وكيانيّة . هو قوّتها وميزان قواها . فان هو انحطّ وتقهقر ، وقعت هي في بلبال . وان هو حزم أمره ، اشتدّت هي وتراصّت صفوفها . لذا ، فما تحلّق الموارنة حول دير قنوبين كمرجع لهم ديني : "… وهم يعتبرون هذا البيت المركز الديني بالنسبة لهم"، وما وقوفهم في وجه باشا طرابلس ، الظالم الطمّاع ، برفضهم اعطاءه مطلوبه من المال : "… لأنّ سكان هذه الجبال كانوا ما زالوا في حرب مع باشا طرابلس ، الذي كان يفرض عليهم مبلغا من المال باهظا ، ما كانوا ، هم ، ليحكموا بضرورة توفيره له …" ، وما تعلّقهم بشخص البطريرك المضطّهَد وغيرتهم عليه : "… لذا كان الباشا يوفد غالبا أتراكا ليخطفوا البطريرك ويأتوه به ، يقينا منه أنّه اذا ما أصبح هذا الأخير في فبضته ، يبيع الموارنة آخر ثوب عندهم ليخرجوا البطريرك من سجونه ". ما كل هذا الاّ تعبير عن ايمان الموارنة بالدير ، هذا الرمز الأكبر والأهمّ لحياة التقشّف والنهج النسكي ، ومن هذا المنطلق ، لكون الدير ضمانة لديمومة المارونيّة في كيانها وكينونتها، في جنحيها الديني والمدني .





[1] - Jean de LA ROQUE"  Voyage de Syrie et du Mont-Liban, ( Coll.Voyageurs d'Orient,  ed.Dar Lahad Khater, Beyrouth , 1981, pp. 18-12.
[2] - Laurent d'Arvieux . Memoire , ( Coll.Voyageurs d'Orient, II),  ed. Dar Lahad Khater, Beyrouyth, 1982,pp. 181-187.
[3] - المترجم

ليست هناك تعليقات: