2015/10/19

سلسلة محاضرات 1998 بيت مار شريل ـ بقاعكفرا، الأب جورج صغبيني- محاضرة الأب الياس حنا، وادي قاديشا والبطريركية المارونية، الأحد 12 تموز 1998



سلسلة محاضرات 1998 بيت مار شريل ـ بقاعكفرا، الأب جورج صغبيني- محاضرة الأب الياس حنا، وادي قاديشا والبطريركية المارونية، الأحد 12 تموز 1998


مقدمةّ عامة
بين الوادي المقدّس والبطريركية المارونية تاريخ مشترك، يمتدّ على مدى ثلاثماية سنة تقريبا". وهذا التاريخ المشترك ينقسم الى حقبتين من الزمن : الحقبة الأولى تمتدّ من سنة 1445 الى سنة 1733 ، والحقبة الثانية من سنة 1811 الى سنة 1822 .
وإذا كان وادي قنوبين قد عرف بوادي قاديشا ، أو وادي القديسين ، نسبة لكثافة النسَاك والذهاد الذين قطنوا مغاوره ، على مدى التاريخ ، فإنه يستحق أن يدعى أيضا" وادي البطاركة ، باعتبار ان عشرين بطريركيا" مارونيا" جعلوه مقرّا" لهم ، على مدى ما يقارب ثلاثماية سنة من تاريخ الكنيسة المارونية ، الذي يمتد على مدى ما يقارب خمسة عشر قرنا" .
لم يكن البطاركة الموارنة ليحوّلوا وادي قاديشا مقرا"لسكناهم ، على سبيل الصدفة ، أو بطريق العرض.
بل اختاروه كرسيا" لما يحمل تراث قداسة ، خاصة وأن حياتهم وحياة اساقفتهم ، كانت أقرب الى حياة النساك والذهاد منها الى حياة أمراء في الكنيسة.
إن علاقة البطاركة بوادي قاديشا، وتسليط الأضواء على حياتهم، لأمر جدير بلاهتمام والدراسة والبحث. وما نستعرضه، في حديثنا اليوم، عن هذه العلاقة ، ليس إلا مجرّد محاولة أولى وفريدة من نوعها ، في هذا المجال ، على ان نستكمل بحوثنا في المستقبل ، من أجل الكشف عمّا تخبئه هذه العلاقة من كنوز التقليد الماروني على الاصعدة كافة . فاجيالنا الطالعة التي باتت تعاني من انقطاع مع جذورها ، باتت بحاجة الى العودة الى الينابيع، لتستمدّ منها صمودا" وايمانا" وثباتا" في مسيرتها، على ابواب الألف الثالث لتجسد المسيح .
الوادي المقدّس هواكثر من مكان، واعظم من طبيعة، إنه مدرسة في الاصالة، وقيمة روحية وانسانية: صخوره مناكب الجبابرة ، ومنحدراته أذرع المصلين ترتفع الى فوق لتحتضن زرقة السماء ، مغاوره قلوب تخبئ  اسرار معاناة انسانية عميقة ، روائح زهوره عبير عرق العافية والتعب ، حذير مياهه اهاذيج فرح ، بقايا بيوته ومعابده آثار أقدام الذين وطئوا الموت في مسيرة القيامة . الوادي يتكلّم ، فمن له إذنان سامعتان فليسمع !
الوادي المقدّس هو صورة البطريركية المارونية ورمذها ، وليس فقط مقرّا" من مقراتها . لقد عُرفت به ، أكثر ما عُرفت بباقي مقرّاتها في كفرحي ويانوح وايليج وبكركي . فعندما تغطي غبار الزمن محياها ، وتحفر تقاسيم التاريخ وجهها ، لا بدّ لها من العودة اليه ، تستعيد نضارتها ، وتقوم خطواتها ، وتستلهمه حقا" ورجاء وقوة على الصمود والثبات .
نتوقف في دراستنا وادي قاديشا والبطريركية المارونية حول العناوين التالية :
_ انتقال البطريركية المارونية الى وادي قاديشا .
_ البطاركة الذين قطنوا الوادي المقدّس .
_ حياة البطريركية المارونية في وادي قنوبين .
_ وادي قاديشا مصدر التحولات الكبرى في تاريخ الموارنة .

البحث الاول: انتقال البطريركية المارونية الى وادي قاديشا
لقد اشرنا في مقدّمة بحثنا عن الاسباب البعيدة لانتقال مقرّ البطريركية المارونية من سيدة ايليج ودير سيدة ميفوق الى وادي قاديشا . أما الاسباب القريبة ، فهي شدّة الاضطهادات التي عاناها البطريرك الماروني في وادي ايليج ، واضطراره للانتقال الى وادي قاديشا ، حيث أمّنَ حماية طبيعية وبشرية .
1_ تجديد علاقات البطريركية مع الكرسي الرسولي ( ا )
يعود الفضل الى البطريرك يوحنا الجاجي بإعادة العلاقات الى سابق عهدها ، بين البطريركية المارونية والكرسي الرسولي . هذه العلاقات حافظ عليها الموارنة حفاظهم على حدقة عينهم ، وذلك بسبب شراكتهم الايمانية مع البابا ، خليفة بطرس هامة الرسل ، وخضوعهم له . وبسبب هذه العلاقات عانى الموارنة الأمرّين ، من الهراطقة من ناحية ، ومن الحكام المدنيين من ناحية ، الذين اعتبروا بأن العلاقة بروما هي بمثابة عداء لهم ، خاصة بعد الحملات الصليبية التي نظمتها الباباوية ، في القرون الحادي والثاني والثالث عشر ، من أجل تحرير الاراضي المقدّسة من يد المسلمين وسيطرتهم. ( 2 )
عرفت هذه العلاقات أوجها ، في فترة الحروب الصليبية (القرون 11 و12 و13) وخاصة في أيام البطريرك ارميا العمشيني(1199_1230)، وبدأت تتراجع بعد نهاية الحملات الصليبية (1095_1291 )، حتى تسلم البطريرك يوحنا الجاجي زمام الكرسي البطريركي وحاول إعادة هذه العلاقات الى سابق عهدها ، رغم الصعوبات التي واجهها مع ولاة الدولة العثمانية الحاكمة .
وقد تمثّلت عودة هذه العلاقات ، بدعوة البابا اوجانيوس الرابع ( 1431_1447 )  البطريرك يوحنا الجاجي للمشاركة في أعمال مجمع فلورنسا الذي انعقد سنة 1431 ودامت اعماله حتى سنة 1443 . ( 3) وبسبب عدم تمكن البطريرك من السفر للمشاركة في اعمال المجمع ، لكثرة الاخطار المحدقة بالمسافرين بحرا" ، والتي كان يشكلها القراصنة ؛ وبما أن الكنيسة المارونية كانت تفتقد لمن يتكلّم اللاتينيةوالايطالية، أوفد البطريرك الأب جوان رئيس رهبان القديس فرنسيس في القدس الى البابا، ليطلب درع التثبيت في الرئاسة ، ويقدم عريضة رفعها البطريرك والاساقفة واعيان البلاد ، يؤدون فيها خضوعهم وتسليمهم المطلق لكلّ ما يسنّه المجمع . ( 4 )
2_ سجن موفد البطريرك في طرابلس ومذابح وادي ايليج ( 5 )
عندما رجع الأخ جوان الفرنسيسكاني ، موفد البطريرك ، الى بيروت ، وانتقل الىطرايلس ، انحدر الموارنة للقائه ، فعلم نائب طرابلس فبعث خبرا" قبضوا عليه وعلى رفاقه ، مدعيا" بأن مجمع فلورنسا ، انما يهدف الى توحيد المسيحين ، من أجل استرجاع بلاد الشام من يد الاسلام . وقد اعتبر الحاكم العثماني الأخ جوان جاسوسا" ، بين الغرب والموارنة ، فسجنه .
تناتأ الخبر الى البطريرك الذي كان مقيما" في دير سيدة ميفوق ، فأرسل بعض أعيان الطائفة ، بهدف تبديد مخاوف حاكم طرابلس ، وفك أسر الموفد البطريركي مقابل مبالغ من المال . فما كان من الحاكم إلا أن أطلق سبيل الأخ جوان ومرافقيه ، ولكنه اشترط عليهم الرجوع إليه ، بعد قضاء مهمتهم الدينية لدى البطريرك ولدى وصول الأخ جوان الى ميفوق استقبل بالحفاوة والترحاب الكبيرين ، وجرت مراس تتويج البطريرك ، وتسليمه درع التثبيت . ثم عاد الوفد الروماني الى بيروت بدل أن يعود الى طرابلس طبقا" لشرط حاكمها عندما أخلى سبيلهم ، فحنق حاكم طرابلس ، وأرسل جندا" يطلبون البطريرك ، وعندما لم يجدوه ، نهبوا بيوت ميفوق ودمّروها وقتلوا من فيها ، وقتلوا عددا" من الرهبان والاساقفة ، وسلم البعض الآخر الذي هرب واختبأ قبل وصول الجنود .
3 _انتقال الكرسي البطريركي الى وادي قايشا ( 6 )
على أثر المجازر التي وقعت في وادي ميفوق ، قررّ البطريرك يوحنا الجاجي الانتقال من ميفوق إلى دير قنوبين ، حيث كان الأمن سائدا" . وقد رافقه بعض الأساقفة ، وبعض من عائلة جعجع من جاج ، واضعا" نفسه تحت حماية والدة الإله . وقبيل وصول البطريرك وحاشيته الى دير السيدة في قنوبين ، انتقل رهبان هذا الدير الى دير مار انطونيوس قزحيا ، ليفسحوا في المجال والمكان للبطريرك واساقفته وحاشيته . وكان البطريرك يختبئ خلال النهار في مغارة بعيدة عن مقرّه ، صعبة المنال ، خوفا" من العساكر الاسلامية .
وكان البطريرك في وادي قاديشا تحت حماية المقدّم يعقوب البشراني ، الذي نصبه الملك الظاهر برقوق مقدما" على بشري ، فحكمها من سنة 1382 حتى سنة 1444 ، تاريخ وفاته وانتقال البطريرك الى وادي قايشا .

البحث الثاني: البطاركة الذين قطنوا الوادي المقدّس
بقي دير سيدة قنوبين مقرا" بطريركيا على مدى ثلاثماية سنة ، خلال حقبتين من الزمن : الأولى من سنة 1444 حتى سنة 1733 ، أي حوالي 289 سنة ؛ والثانية من سنة 1811 حتى سنة 1822 ، أي حوالي 11 سنة . فيكون مجموع السنوات التي استقرّ فيها البطاركة في وادي قاديشا ، نحو 300 سنة .
وقد بلغ عدد البطاركة الذين قطنوا دير السيدة في وادي قاديشا 20 بطريركا" ، دُفن منهم 17 بطريركا" في مغارة القديسة مارينا ، المجاورة للمقرّ البطريركي في وادي قاديشا .
نحاول ، في بحثنا أن نسلّط الضوء باختصار ، على كلٍ من هؤلاء البطاركة ، متوقفين حول مزايا وصفات واعمال كلٍ منهم .

1 _ الحقبة الأولى ( 1444 _ 1733 ) ( 7 )
عرفت الكنيسة المارونية ، خلال هذه الحقبة من الزمن تحولات كبرى في تاريخها ، وذلك بفضل بطاركتها العظام الذين تعاقبوا على رعايتها .

- البطريرك يوحنا الجاجي ( 1404 _ 1445 )
ولد هذا البطريرك في جاج ، ولمّا شبّ احبت نفسه النسك والزهد ، فترهّب في دير مار ضومط في اعالي بلدة جاج ، فعُرف بتقواه وصلاحه ، فسيم كاهنا" ثمً أسقفا" . وانتخب بطريركا" ، في دير سيدة ميفوق سنة 1404 ، خلفا" للبطريرك داوود ( 1367 _ 1404 ) .
نقل البطريركية الى وادي قاديشا . واعاد العلاقات بين البطريركية والكرسي الرسولي . وقد كان رجلا" فاضلا" جدّا ومشهورا" بتقواه وقداسته ، وهو من اعظم بطاركتنا ، وقد ساس الطائفة المارونية بكلّ حكمة وغيرة ، وجنبها الاضطهادات ، وصان ايمانها وامانتها .

_ البطريرك يعقوب عيد الحدثي ( 1445  _8   14 )
لا نعرف عنه الشيء الكثير . تم انتخابه في دير سيدة قنوبين بعد تسعة أيام من وفاة يوحنا الجاجي سنة 1445 . تلقى رسالتين من الكرسي الرسولي عن ثبات الموارنة في الايمان المستقيم ، سنتي 1447 و 1455

_البطريرك يوسف بن حسان الحدثي ( 1468 _ 1492 )
وهو يوسف ( الثاني ) بطرس بن يعقوب الشهير بابن حسان من بلدة الحدث في الجبة . تم انتخابه في دير قنوبين ، وارسل الاب غريفون الفرنسيسكاني الى البابا بولس الثاني لالتماس درع التثبيت . فأنعم عليه الحبر الأعظم بهذا الدرع ، وبعث اليه برسالة في 5 آب 1469 ، وهدايا ثمينة .
وما اشتُهر عن هذا البطريرك انه باع آنية الكنائس وتبرّع بمداخيل الكرسي البطريركي لدفع الضرائب للمماليك عن فقراء الكنيسة .
وفي أيامه شز المقدم عبد المنعم مقدّم بشري عن الايمان الكاثوليكي ، واعتنق معتقد اليعاقبة . فاضطهد البطريرك والاساقفة والرهبان والكهنة والمتنسكين في جبل لبنان . (8 )

_ البطريرك سمعان بن حسان الحدثي ( 1492 _1524 )
هو ابن شقيق البطريرك يوسف السابق ذكره . عاش في دير قنوبين وتوفي فيه . وفي أيامه بدأ الحكم العثماني مع السلطان سليم الأول على سلطان المماليك سنة 1516 ، وقد اعفى البطريرك من الفرمان السلطاني ، ووهب أمراء جبل لبنان حرية واستقلالا" .
وفي ايامه انتصر الاهدنيون على المقدّم عبد المنعم الذي شاء أن يستولي على عدد من الاديار ، في بلدة تولى ، في سفح جبل سيدة الحصن .
وفي أيامه ايضا" بدأ المؤرخ الكبير جبرائيل ابن القلاعي اللحفدي يعظ ويرشد في الكنائس والقرى ، من أجل القضاء على اليعاقبة .

_ البطريرك موسى سعاده العكاري ( 1524 _ 1567 )
عاش وتوفي في دير قنوبين ، وهو بلدة البارده في بلاد عكار . كان راهبا" في دير سيدة حوقا . قال عنه السمعاني في مؤلفة المكتبة الشرقية ما نصّه : " انه كان ذا عبادة جذيلة ، وعنيدة متعقدة ، واهتمام كبير بأملاك البطريركية …" . ( 9 )
في أيامه اعترف السلطان العثماني باستقلال الموارنة النوعى، عقب ارسال البطريرك الاب انطون الحصروني لمقابلة السلطان سليمان خان الغازي .
وقد كتب هذا البطريرك الى الامبراطور شارل كان ، يدعوه لانقاذ الموارنة من ايدي العثمانيين . ووعده بوضع خمسين الف مقاتل ماروني بتصرفه .
وفي ايام هذا البطريرك انتشر الدروز في مناطق الشوف والمتن ، وأقاموا علاقات صفاء ومودة مع الموارنة ؛ واخذ الفلاحون الموارنة ينزحون من الشمال الى الجنوب .
وقد شخص البطريرك موسى بنفسه الى القدس الشريف ، وتداول مع رئيس الرهبان الفرنسيسكان ، بشأن ارسال علماء من رهبانيته لتدريس العلوم الفلسفية واللاهوتية في مدارس لبنان.

_ البطريرك مخايل الرزي البقوفاوي ( 1567 _ 1581 )
كان حبيسا" في محبسة مار بيشاي التابعة لدير مار انطونيوس قزحيا ، الذي رئيسا" عليه ، وهو من قرية بقوفا ، وقد اعتزل رئاسة الدير طلبا" للوحدة والزهد . وعندما تم انتخابه بطريركا" ، رفض تواضعا" ، لكنه نزل عند دعوة الروح القدس ، وقبل المهمة .
تميز مخايل الرزي بروح طيّبة وقداسة وتجرّد واندفاع في عمل الخير ، وقد اشتهر بفن الخطّ ، وله مخطوطات في مكتبة حلب المارونية ، مثل اعمال الرسائل ورسائل القديس بولس .
وفور انتخابه جاءت العساكر العثمانية ، واحتلت الكرسي البطريركي في قنوبين ، ونهبوها . فاضطر البطريرك لارضائهم بشيء من المال ، وقد تأخر تثبيته مدة سنة ، بسبب تأخر موفد الى البابا ، وما زاد من هذا التأخير هو اتهامه باتباع مذهب اليعاقبة . فما كان من الكرسي الرسولي إلاّ أن اوفد الراهب اليسوعي جوان باطشتا اليانو يرافقه الاب توما برون ، فوصلا جبل لبنان في ربيع سنة 1578 .
من الاحداث التي جرت في ايام هذا البطريرك نذكر :
- القصادة الرسولية الاولى (1578 _ 1579 ) والثانية ( 1580- 1582 )، برئاسة الاب اليانو، الذي احرق كثيرا" من الكتب.
- طلب انشاء مدرسة مارونية في روما ، سنة 1854.

- البطريرك سركيس الرزي البقوفاوي ( 1581 _ 1597 )
هو سركيس بن يوحنا الرزي من قرية بقوفا ، وشقيق البطريرك مخايل ، وخليفته في محبسة ماري بيشاي في وادي قزحيا ، وعلى الكرسي الانطاكي . في اليوم التاسع لوفاة أخيه ، تم انتخابه ، بحضور الموفدين البابويين اليانو وبرونو اليسوعيين ، ومما حدث في ايامه :
- ارسل 30 شابا" لاقتباس العلوم في روما على دفعتين .
- في ايامه تم افتتاح المدرسة المارونية في روما سنة 1584 ، على يد البابا غريغوريوس الثالث عشر
- ظهور الأمير فخر الدين المعني الثاني الكبير(1590- 1635) ( 10 )
- ارسال الأب جيروم دنديني الى جبل لبنان لفحص ايمان الموارنة ، سنة 1596 . وكتب هذا  الاخير رحلته في كتاب ، وتم انعقاد المجمع في ايلول سنة 1596.

_ البطريرك يوسف الرزي البقوفاوي ( 1597 _ 1608 )
هو ابن موسى الرزي شقيق البطريركين مخايل وسركيس . انتُخب بطريركا" بعد مرور تسعة أيام على وفاة عمة البطريرك سركيس . في 4 تشرين الأول سنة 1597 .
ولم يشأ القاصد الرسولي دنديني التدخل في انتخاب بطريرك . وقد كان يوسف رئيسا" لمحبسة دير مار انطونيوس قزحيا . ومما قام به هذا البطريرك: السعي لتطبيق توصيات وأوامر المجمع المنعقد سنة  1596.
في أيامه بدأت الكنيسة المارونية تتبع التقويم الغريغوري 1606.
ربطت هذا البطريرك صداقة مع يوسف باشا سيفا ، فساعده على تدبير الكنيسة ، وصدّ المعادين له       ومن مآثر هذه العلاقة أن البطريرك نهى احد خدام يوسف باشا عن زواج غير شرعي ، فأبى الطاعة للبطريرك ، فرشقه بالحرم فمات حالا" .
أباح للأساقفة أكل اللحم وللمؤمينين أكل السمك وشرب الخمر في الصوم الكبير.
أباح لدروز البياضة في العرقوب بالتظاهر بالنصرانية.
إزدهار الحياة الرهبانية في عهده وعهد عمّيه البطريركين السابقيّ الذكر.
في أيامه بدأ البطاركة الموارنة  يطلبون من البابوات إرسال رهبان أجانب لإفتتاح المدارس في جبل لبنان سنة 1543.
_ البطريرك يوحنا مخلوف الأهدني (1608 – 1633)
تمَ إنتخابه بطريركا بعد سبعة أشهر من وفاة سلفه، وذلك بسبب حبور الحكام،والفتن التي عمت البلاد، وذلك في 16 تشرين الأول من سنة 1608 .
كان هذا البطريرك كريم الأخلاق ، حكيما" ، فطنا" ، كثير الشفقة على الفقراء والمساكين ، ذا قلب طاهر ، قاسيا" على نفسه ، شغوفا" على غيره . وكان مسموع الكلمة لدى الباب العالي ، ويأتمر بأمره الحكام . ولم يكن يتمتع بثقافة عالية ، إلاّ أنه كان رجل خير وتفكير سليم واحلاق حلوة وثابتة وتقوى عميقة وفاعلة وعزم أكيد على مقاومة كلّ العقبات . وقد تلألأت به أنوار الفضائل فتسامى بها حتى لُقب بالقديس …
من مآثره ، أنه رشق الشدياق خاطر الحصروني بالحرم بعد ان تسبب بنزوحه الى الشوف ليكون تحت حماية الأمير فخر الدين المعني الثاني ، فطلب اليه أن يحوّل الحرم عن الشدياق خاطر ، فحوله على الضخرة ، فانشقت الصخرة لساعتها ، وهي صخرة فوق الحدث ، تدعوها العامة المحرومة .وكان يشفي المرضى واصحاب العاهات لمجرّد وضع يده عليهم .
توفي في كفرزينا، ونُقل ليلا" الى قنوبين في 15 كانون الأول سنة 1633 .
تميزت أيام رئاسة هذا البطريرك بالمآثر التالية :
_ربطته علاقة وطيدة بالامير فخر الدين الثاني ، حتى أن هذا الأمير طلب اليه ارسال المطران جرجس عميره الاهدني سفيرا" له ، الى روما وتوسكانا ، لارسال جيوش لتحرير الاراضي المقدسة . وقد استقدم الأمير بواسطة البطريرك والعلماء والمهندسين والمرسلين الى لبنان ، للتعليم والتصنيع والتبشير .
_استقدم أول مطبعة في الشرق الى دير مار انطونيوس قزحيا سنة 1610 .
_اسس أول معهد اكليريكي في الكنيسة المارونية سنة 1624 في دير سيدة حوقا ، بادارة الآباء الفرنسيسكان. وكان المعهد يدرّس سبع لغات.

_ البطريرك جرجس عميره الاهدني ( 1633 _ 1644 )
هو جرجس بن مخلوف بن عميره الاهدني، أوّل بطريرك من تلامذة المدرسة المارونية في روما، ومن تأليفه: عزمطيق سرياني- لاتيني وتآليف في هندسة الابنية والأبراج  سمّاه البابا اوربانوس الثامن(1623- 1644) "نور الكنيسة الشرقية" ومن مآثر عهده :
_ساعد الأمير فخر الدين الثاني الكبير في القضايا العمرانية .
_في ايامه تمّ انشاء مدرسة للموارنة في مدينة رافنا في ايطاليا ، بين سنتي ( 1639 _ 1668 )

_البطريرك يوسف ابن حبيب العاقوري ( 1644 _ 1648 )
انتُخب بطريركيا" في دير قنوبين ، لكنه دُفن في كنيسة العاقورة مسقط رأسه كان . متزوجا" قبل ارتقائه الى الدرجات المقدسة ، وهو المطران بطرس اسقف العاقورة. ومما قام به هذا البطريرك:
_ تأسيس دير مار يوحنا حراش .
_ اقامة مجمع بيعي في دير حراش سنة 1644 .
_ ألفّ عزمطيقا" سريانيا"، واشعارا" عامية وزجليات .

_ البطريرك يوحنا الصفراوي ( 1648 _ 1656 )
هو يوحنا من بيت البواب من بلدة الصفرا والمعروف بالصفراوي .
كان هذا البطريرك رجلا" طاهرا" ، لا غش فيه ، صاحب قناعة ورضى وبشاشة لا تعرف الكدر ، وقد ربي منذ صباه بالتقوى والسيرة النسكية حتى وصل الى اعلى مراتب الاتضاع ، وكان مدمنا على صلاة المسبحة وملازما" الصوم ، ودخل عليه يوما" مرهج بن نمرون الباني في منزل الشيخ ابي ياغي ابن حبيش في ساحل علما مساء، فوجده ملقى أرضا" ورأى النور خارجا" من وجههيضيء كل أرجاء المنزل، وقد ظهر هذا النور يوم وفاته.
في أيامه تجددت حماية ملك فرنسا للموارنة سنة 1649 .

_ البطريرك جرجس السبعلي ( 1657 _ 1670 )
انتُخب بطريركيا" في دير قنوبين ، لكنه توفي في دير ما شليطا مقبس ودُفن فيه .
_ البطريرك اسطفانوس الدويهي ( 1670 _ 1704 )
هو من سلالة آل الدويهي في إهدن ، وتلميذ المدرسة المارونية في روما . يعجز اللسان عن وصف مآثر هذا البطريرك . لقد آثر التعليم في جامعات الغرب ، واتى لبنان وافتتح مدرسة في بلدته لتعليم الأولاد . من مآثره :
_ مؤلفات عديدة تاريخية وطقسية : حوالي 18 مؤلف .
_ الاصلاح الرهباني سنة 1695 .
_ هرب من دير قنوبين بسبب جور الحكام سنة 1628 الى دير مار شليطا مقبس ، وعاد الى قنوبين سنة 1672 .
_ اشتهر بتكريس الكنائس : حوالي 24 كنيسة .

_ البطريرك يعقوب عواد الحصروني ( 1705 _ 1733 )
هو يعقوب ابن الخوري يوحنا عواد من بلدة حصرون ، وتلميذ المدرسة المارونية في روما . اُنزل عن كرسيه البطريركي سنة 1710 واختير مكانه الاسقف يوسف مبارك الريفوني ، لكن أعيد اعتباره سنة 1714 من قبل الكرسي الرسولي ، الذي اعتبر تنزيله باطلا", توفي في دير مار شليطا مقبس ودُفن فيه .
في أيامه أنشأ البابا اكليمنضوس الحادي عشر دير مار بطرس ومرشللينَس في روما للرهبان اللبنانيين.

_ البطريرك يوسف ضرغام الخازن (1733 _ 1742 )
انتخب بطريركيا" بالصوت الحيّ والاجماع ، ونال درع التثبيت سنة 1733 . وفي أيامه التأم المجمع اللبناني في سنة 1736 في دير سيدة اللويزة . ومعه انتقل البطاركة من سيدة قنوبين الى بلاد كسروان .

2 _  الحقبة الثانية ( 1811 _ 1822 )
امتدت هذه الحقبة مدة عشر سنوات ، وقد توالى خلالها على الكرسي البطريركي ثلاثة بطاركة ، هم :

_البطريرك يوسف التيّان ( 1796 _ 1820 )
هو يوسف التيّان من بيروت ، وتلميذ المدرسة المارونية في روما .
انتخب بطريركيا" في دير سيدة بكركي ، الذي كان قد تقرر أن يكون مركزا" بطريركيا" سنة 1809 . كان يرغب في النسك ، فتنازل عن البطريركية سنة 1809 ، وقضى باقي حياته في المحبسة الى أن توفاه الله في 20 شباط 1820 في دير سيدة قنوبين ، حيث كان قد قضى جزءا" من حياته فيه ، بعد ان قضى قسطا" منها في دير مار يوحنا مارون كفرحي .

_ البطريرك يوحنا الحلو الغسطاوي ( 1809 _ 1823 )
انتخب بطريركيا" في دير مار يوسف عينطورا ، بعد أن تنحى البطريرك يوسف التيّان ، سنة 1809 . وهو الذي انتقل الى دير قنوبين منذ سنة 1811 ، وأخذ في اصلاح املاكه وابنيته ، وهو ايضا" الذي حول دير مار يوحنا مارون في كفرحي الى مدرسة اكليريكية . ودفن في حائط كنيسة سيدة قنوبين .

_ البطريرك يوسف حبيش ( 1823 _ 1845 )
هو يعقوب ابن الشيخ جوان حبيش من ساحل علما. انتخبه الاساقفة بطريركيا" في دير قنوبين خلفا" للبطريرك يوحنا الحلو. انتخب في عمر 35 سنة .
في ايامه: أُنشئ نظام القائمقاميتين، وَوُضِع حدّ لوجود الاديار الرهبانية المزدوجة .

البحث الثالث: حياة البطاركة في وادي قاديشا
تميزت حياة البطاركة الموارنة في وادي قنوبين بالبساطة وسهولة العيش ، وقثف الحياة . وقد شارك البطاركة والاساقفة والرهبان ابناء رعيتهم حياتهم اليومية ، فلم يتميّزوا عنهم بشيء البتة . وهذا ما دفع بكثير من الرحالة لوصف حياة القداسة هذه .
نتوقف في بحثنا الثالث حول تاريخ دير سيدة قنوبين ، وحياة البطاركة والاساقفة والرهبان فيه ، وفي الوادي المقدس .

1 – دير سيدة قنوبين
إن دير سيدة قنوبين المعروف حاليا بالكرسي البطريركي طوال ثلاثماية سنة تقريبا" ، قد عرف تحولات واضافة في بنائه القديم .
وقد اختلف الباحثون والمؤرخون على زمن بنائه ، ومن بناه .
يعود بناء دير قنوبين ، على اغلب الظن ، الى أواخر القرن الرابع واوائل القرن الخامس . فمن المؤرخين من ينسْب تسييده الى الأمبراطور تاودوسيوس ( 379 _ 395 ) . (11) غير ان الاب لامنس اليسوعي يخالف المؤرخين رأيهم ، باعتبار أن لا اثبات تاريخي على ذلك . ويذهب الى الاعتقاد بأن باني دير قنوبين هو تاودوسيوس ( القرن 6 ) أحد كبار آباء النسك ، ويغلب الظن بأن هذا القديس زار لبنان في رحلته الى مقام القديس سمعان العمودي ، في جوار مدينة حلب ، وقد يكون أحد تلاميذ ثاودوسيوس ، الذين انتشروا في بلاد سوريا ، وبنوا الاديرة ، قد جاء جبل لبنان وبنى دير قنوبين . وما يجعلنا نعتقد ذلك ، هو أن الكنيسة المارونية تكرّم القديس تاودوسيوس تكريما" خاصا" ، وتعتبره بين مشاهير النساك . (12)
وقد عُرف الدير بدير قنوبين أي " الحياة الجماعة " لأنه ، على ما يبدو ، كان مقرّا" للحياة الرهبانية الجماعية منذ تأسيسه .

2- حياة البطاركة الموارنة في دير قنوبين
نقتصر في كلامنا على حياة البطاركة في قنوبين على مسكنهم ، لباسهم ، عملهم ، طعامهم وضيانتهم . ونستند في كلامنا على ما جاء في كلام شاهدي عيان زارا البطريرك الماروني في قنوبين هما الاب سلفستر دي سانت إنيون، الذي عاش 42 سنة في سوريا، ومات في حلب سنة 1670، والسائح الفرنسي الفارس لوران دارفيو. (13)

-صلاة البطريرك وقداسته
يقول الأب سلفستر : " قد تكون جرأة مني أن آخذ على عاتقي وصف حياة الحبر الجليل في ادق تفاصيلها، كما يقول المثل ، مع أنه كان من الأفضل أن أضع مقالة أوسع من هذه النبذة الصغيرة لأخبر عن اعماله البسيطة الدقيقة التي تعبق بالقداسة ، والتي تكفي في هذه الأصقاع ( اوروبا ) لتطويب واعلان قداسة من يقتدي بها . لذلك لن أقول إلا الشيء اليسير مما رأيت .
إنه مثال يُحتذى به أن نرى هذا الحبر الوقور…يحضر ليل نهار ، الاحتفالات الدينية ، ويرتل الفرض الالهي دون أن يجلس مطلقا" على كرسيه البطريركي ، بل يظل واقفا" ، كراهب بسيط ، مستندا" فقط على عكاز بشكل آ .

_ عمل البطريرك
ويتابع الأب سلفستر كلامه واصفا" عمل البطريرك :" وهذا الواجب ( الصلوات ) المقدس ومهامه الرعائية لا يمنعانه أبدا" من أن يقوم ، غالب الأحيان ، بأعمال يدوية كثيرة ، يجتهد أن يتقنها بعفوية ، تحمل مرؤوسيه الى الاقتداء التام بمثله لكي يحاربوا البطالة ، أمّ كل رذيلة ، ولكي يقوموا بأعمال مثمرة تؤدي الى تغطية النفقات المتوجبة على الطائفة ، بسبب تجنّي الاتراك عليها وجور الحكام لاذلالها ، وبمعنى أن حياته كلها هي عظة متواصلة ، ليس فقط لرهبانه ، بل أيضا" لرؤساء الأساقفة وللاساقفة الذين يعيشون دوما" بقربه…"

_ مسكن البطريرك
أما عن مسكن البطريرك ، فيقول الاب سلفستر :"…وإذا كان المرء فضوليا" ورغب مساعدة محلّ سكناه ، فأجيبه بأن له مسكنين : واحدا" في دير قنوبين حيث يعيش عادة في قلاية صغيرة ، عرضها حوالي ثمانية أقدام وطولها اثنا عشر قدما" ، ويرقد على سرير مؤلف من ألواح خشب بسيطة ، ويبقى من الغرفة رقعة صغيرة من الأرض تتسع لبسط حصيرة أو سجادة .
أما مسكنه الثاني ، فهو الجبال حيث يعتزل ليس سعيا" وراء الراحة والانشراح ، بل هربا" من الأتراك ؛ فإنه يختبئ من اضطهاداتهم له وملاحقتهم إياه ، في برّية تقع على مسافة يومين من مسكنه الأول ، سيرا" على الاقدام ، يصل اليها بعد أن يعبر الجبال الوعرة المرعبة. هذا هو المخبأ ، يعيش في إحدى زوايا كنيسة صغيرة لا تتسع لأكثر من خمسة اقدام عرضا" ولستة أو سبعة اقدام طولا" . جدران هذا المخبأ هو من الخشب المجبول بالطين، مدخله كثير الانخفاض وقليل العرض ؛ شبابيكه الصغيرة تنسجم والمبنى ككل ، لذلك قلما يدخلها ضوء النهار."

_ كسوة البطريرك والاساقفة
يقول السائح الفرنسي دارفيو الذي زار دير قنوبين سنة 1660 ، متحدثا" عن كسوة البطريرك والاساقفة ما نصّه :" يرتدي هذا الحبر ثوبا" بسيطا" للغاية مؤلفا" من قمباز خفيف القماش ، ويضع على رأسه عمامة ضخمة زرقاء مستديرة ومن نسيج القطن . كانت سابقا" بيضاء اللون ؛ وعندما استولى الحكم العثماني على البلاد أ‘جبر على اتخاذ العمامة الزرقاء لأن العمامة البيضاء كانت لباس المسلمين الخاص…"
إن الأحبار الموارنة كافة يعيشون حياة منضبطة جدا" وقشفة للغاية . إنهم يكتسون لباس الفقراء ، وليس لهم موارد سوى ما تعطيهم إياه الأرض ثمرة عملهم اليدوي . لا نرى عندهم مطلقا" أبّهة احبارنا في اوروبا . كلّ اوانيهم نظيفة وعليها مسحة الفقر ،
لأنهم لا يتحلون بالأقمشة المزركشة الغنية المطرّزة ، ولا بالذهب والفضة ، بل حليتهم الوحيدة هي الفضيلة ، لذلك فإن عصيهم من خشب واساقفتهم من ذهب . والجدير بالذكر أن جميع المسيحين يؤدون لهم الاحترام التام اللامتناهي والطاعة العمياء لكلّ ما يأمرن به ، ويقبلون أيدي رؤساء الاساقفة والكهنة وأقدام البطريرك…لأنهم يحترمونهم كآباء لهم ورؤساء . فنمط حياتهم هذا ، ومعاملتهم لرؤسائهم ، هما أمثولة لنا ولأمثالنا نحن الذين تحررّنا واعتمدنا نمط عيش لا يتلاءم تماما" مع ما تلزمنا به شرائعنا ."

_ طعام البطريرك ومائدته
ويكمل السائح دارفيو كلامه على طعام البطريرك ومائدته فيقول : "…توجهنا صحبة البطريرك الى قاعة كبرى هيأوا لنا فيها العشاء ، فرأينا كمية كبيرة  من اللحم مُعدة على طريقة البلاد ، وقدموا لنا ايضا" انواعا" كثيرة من القاكهة والمربّى والعسل ، وعددا" وافرا" من اباريق الفخار الملأى بالخمر المعتق اللذيذ الذي يفوق بكثير خمر البطريرك نوح ! أكلنا بشهية كبرى ، وكان البطريرك والاساقفة والكهنة الذين جالسونا لا ينفكون يطلبون منا بإلحاح لنستفيض من الأكل والشرب…
أما البطريرك والاساقفة والكهنة الذين كانوا يلحون علينا لنشرب ، فلم يعطونا المثل بذلك ؛ لقد كانوا كثيري التقشف في المأكل والمشرب . كان بعضهم يشرب فقط الماء الصرف ؛ وما هيأوا الوليمة إلا اكراما" لنا ، ولا ظهار روح الضيافة التي يتحلون بها ، لأن حياتهم اليومية تتصف بالبساطة التامة…غالبا" ما يصومون بطريقة قشفة للغاية ، ويشتغلون كثيرا" ، ويقومون ليلا" لصلاة الفرض الالهي ، إنهم للملأ أمثلة صالحة في الانضباط الكامل .

_ الضيافة وحسن الوفادة
يتكلم السائح دارفيو عن استقباله في دير قنويبن ، فيقول :"…لقد استقبلنا فيه الاساقفة والرهبان بتهذيب قلّما لاقاه إنسان عند سكان البرية القاحلة البعيدة عن كلّ مجتمع بشري ، وحيث حياة التوبة الصارمة القشفة لا توحي إلاّ بالخشونة التي لا تعرف أيّ تهذيب…"
وصل البطريرك بعد أن اعلموه بقدومنا بنصف ساعة ، فقبلنا يده باحترام ، وغمرنا هو وقبلنا بحنان ، ووجّه الينا كلاما" مهذبا" للغاية.."
اختم هذا البحث الثالث ، وأقول بأن العلامة الاب ميشال حايك ، كتب يوما" مقالا" في إحدى الجرائد ، تخيّل فيه البطاركة الموارنة ، يسيرون في موكب مهيب ، قاصدين زيارة مقرّهم البطريركي ، وعندما وصلوا الى الصرح ، الذي يشبه القصر ، قفلوا عائدين على اعقابهم ، بعد أن تفرّسوا مليا" ، فلم يعرفوا المقرّ الذي عهدوه خلال حياتهم البطريركية . من له إذنان سامعتان فليسمع صدى التاريخ .

البحث الرابع: وادي قاديشا والتحولات الكبرى في تاريخ الموارنة
خلال فترة اقامتهم في دير سيدة قنوبين، عرف البطاركة وأبناءهم الموارنة تحولات مصيرية وخطيرة في تاريخ كنيستهم لم يسبق لها مثيل. نذكر من هذه التحولات ثلاثة هامة جدا" :
_ نشوء المدرسة المارونية في روما سنة 1584 .
_ اصلاح الحياة الرهبانية 1695 .
_ المجمع اللبناني 1736.

1 _ نشوء المدرسة المارونية في روما سنة  1584 . (14)
تأسست هذه المدرسة على أثر وفادة الاب جوان اليانو اليسوعي الى جبل لبنان ، لفحص ايمان الموارنة ، والتثبت من صحة معتقدهم الكاثوليكي . وقد تقدم بطلب إنشاء هذه المدرسة البطريرك مخايل الرزي، وبقيت هذه المدرسة تخرّخ تلامذة حتى نهاية حبرية البابا لاون الثالث عشر (1878 _ 1903 ) .
تكمن أهمية المدرسة المارونية ، أنها ادخلت الكنيسة المارونية عصر نهضة ثقافية وعلمية لم يسبق لها مثيل ، طوال تاريخها . وقد تخرّج من هذه المدرسة كبار العلماء الموارنة أمثال الصهيوني والسماعنة والحقالاني والباني والدويهي وغيرهم ، حتى قيل عن الموارنة في ذلك العصر " علم كماروني " .
غير أن هذه المدرسة كانت وراء تحوّل كبير في حياة وفكر الكنيسة المارونية الشرقية الأصول . فعلى أثر الحريق الاكبر الذي افتعله الاب جوان اليانو لمخطوطات الموارنة الليتورجية ، زعما"منه بأن هذه الكتب تحتوي العديد من الهرطقات ، بسبب اختلاط الموارنة باليعاقبة ، جاءت المدرسة المارونية لتعدّ شبانا" ، وتنشئهم تنشئة لاتينية غربية من أجل التعليم وتسلم زمام الامور في الكنيسة المارونية . أضف الى ذلك بأن مهمة تلامذة هذه المدرسة لم تكن لتتعدى الأرشفة ، والتعليم في مجال اللغات الشرقية .

2 _ إصلاح الحياة الرهبانية  (15)
إن الحياة الرهبانية في الكنيسة المارونية قبل البدء بحركة اصلاحها ، سنة 1695 ، في عهد البطريرك اسطفانوس الدويهي ، كانت حياة غير منفصلة عن هيكلية الكنيسة ، فالرهبان والراهنات كانوا يعيشون في اديار مذدوجة برئاسة الاساقفة غالبا" ، وكانت هذه الاديار مستقلة ، وخاضعة للسيد البطريرك وللسادة الاساقفة ، وهذا ما أضفى على الكنيسة المارونية وجهها الرهباني ، فعُرفت بالجماعة الرهبانية ، لتحلّق ابنائها حول الأديار، ومشاركتهم الرهبان صلاتهم وعملهم .
بدأت بوادر الاصلاح تظهر في المزكرة التي تركها دنديني قبل أن يترك قنوبين ، للبطريرك يوسف الرزي ، سنة ( 1596 ) . ثم جاء ثلاثة شبان من حلب يرعبون الانخراط في الحياة الرهبانية في جبل لبنان، فألبسهم البطريرك اسطفانوس الدويهي الاسكيم الرهباني وهم : جبرايل حوا ، عبد الله قراعلي ويوسف التبن وانضم اليهم فيما بعد جرمانوس فرحات ، ومنذ ذلك الحين بدأت الحياة الرهبانية تشق خطواتها الأولى على طريق المؤسسة . بحيث تأسست الرهبانية اللبنانية على أيدي هؤلاء الأربعة ، واضحى للرهبانية رئيسا" عاما" واربعة مدبرين ، وثبت قوانينها الأولى البطريرك اسطفانوس الدويهي سنة 1700 .
غير أن الظروف شاءت أن تتحول الحياة الرهبانية من خضوعها للسيد البطريرك ، خاصة مع البطريرك يعقوب عواد (1705_1733)، بحيث اضطر رئيس عام الرهبانية آنذاك مخايل اسكندر للسفر الى روما، واعداد قوانين الرهبانية بمساعدة السمعاني الشهير، والتي ثيتها البابا سنة 1732، فأضحت الرهبانية تتمتع بالحق الحبري، وتتبع الكرسي الرسولي مباشرة .
إن انفصال الحياة الرهبانية على جسم الكنيسة المارونية أحدث شرحا" كبيرا" بين الرهبانية من ناحية ، وبين السلطة الكنسية المحلية من ناحية أخرى ، ما زالت تعاني منه الكنيسة حتى أيامنا .

3 _ المجمع اللبناني 1736  (16)
المجمع اللبناني الذي انعقد في دير سيدة اللويزة سنة 1736 ، برئاسة البطريرك يوسف ضرغام الخازن وحضور القاصد الرسولي يوسف سمعان السمعاني ، شكل مفترقا" هاما" في تاريخ الكنيسة المارونية ، وقد تميزت آثاره على حياة الكنيسة من النواحي التالية :
أولا" : تقسيم رقعة الكنيسة المارونية الى ابرشيات ، واستقلال الاساقفة عن البطريرك .
ثانيا" : ليتنة العقيدة والطقوس في الكنيسة المارونية .
ثالثا" : التنظيم الوحيد للكنيسة المارونية بعد كتاب الهدى ، والمجمع الذي لم يتلوه مجمع لتنظيم الكنيسة .
رابعاً: نسخة معدلة عن مقررات المجمع التريدينتني (1545- 1563).
خامساً: حول الكنيسة المارونية من كنيسة موحّدة وجسم واحد، الى عدة كنائس مستقل، مستكملا" بذلك الخطوات التحولية السابقة مثل انشاء المدرسة المارونية ، واصلاح الحياة الرهبانية .

خلاصة
الكلام على الوادي المقدس ، يتطلب في آن معا" ، وداعة الحمام وحكمة الحيّات ، كما يقول الرّب له المجد.
وداعة الحمام ، لما تميزت به حياة الموارنة ، في هذه الحقبة من الزمن ، بالبساطة والقداسة ،فالقاسم المشترك بين كافة البطاركة الذين توالوا على كرسي انطاكيا ، وقطنوا الوادي المقدس كانت حياة برارة وطهارة وقداسة ، وهذا ما استفضنا في الكلام عليه ، في سياق بحثنا .
أما حكمة الحيّات ، فتنطبق على المحلّل الموضوعي الذي يرى الامور بشفافية ، ورؤية الامور بوضوح ، واظهار الحقائق مهمة شاقة وصعبة، وتكلّف صاحبها غاليا"، لأن الحقيقة جارحة. ان الكنيسة المارونية، وعلى رأسها البطريركية المارونية، عبدت الوادي المقدّس، وما زالت مقيمة فيه ، بما هي عليه وفيه في ايامنا . انتقلت منه بالمكان ، وما زالت قابعة فيه بالروح ، وخلال فترة وجود البطريركية المارونية في وادي قاديشا ، عانت هذه الكنيسة من المحن والمصاعب من الحكام المدنيين ، واستطاعت أن تبعد عنها الكأس ، لكنها شربت كأس التحولات التي ثبتتها السلطة الكنسية في جسدها ، حتى الثمالة ؛ انقطعت مع فكرها وتاريخها مع الحريق الاكبر ؛ تليتنت مع ظهور المدرسة المارونية، وعانت من الانقسام مع اصلاح الحياة الرهبانية، وانعقاد المجمع اللبناني.
الوادي المفدّس هو مرآة الكنيسة المارونية . عليها أن تحمل الارشاد الرسولي، وتهبط الى قعر الوادي، لتتمكن من الصعود الى اعلى القمم.




الحواشي
(1)لمزيد من المعلومات عن هذه العلاقات ، انظر بطرس فهد ، علاقات الطائفة المارونية بالكرسي الرسولي ، مطابع الكريم الحديثة ، جونيه ، دون تاريخ .
(2)انظر بطرس فهد ، بطاركة الموارنة وأساقفتهم من القرن 13 الى 15 ، دار لحد خاطر ، بيروت ، 1985 ، ص 12 _15 ؛ وأيضا" الاب يوسف محفوظ ( المطران فيما بعد ) ، مختصر تاريخ الكنيسة المارونية ، الكسليك ، لبنان ، 1984 ، ص 85 _ 90 .
(3)انظرFrancois becheau ,Histoire de concils,Christ source
de vie , Toulouse (France),1993,pp.101-106.
( 4) أنظر يوسف الدبس،الجامع المفصّل في تاريخ الموارنة المؤهل،دار لحد خاطر، الطبعة الرابعة1987 ،ص 161 _ 162 ؛ وايضا بطرس فهد، بطاركة الموارنة واساقفتهم من القرن13 الى 15 ، دار لحد خاطر، بيروت 1985 ، ص 64_68 .
(5) انظر المراجع عينها .
(6) انظر المراجع عينها .
(7) استندنا في بحوثنا عن حياة البطاركة في هذه الحقبة، الى أول سلسلة وضعها البطريرك الدويهي لهم، والى " تاريخ الأزمنة "؛ والى يوسف الدبس ، الجامع المفصل في تاريخ الموارنة المؤصل، وبطرس فهد، بطاركة الموارنة واساقفتهم ( عدة اجزاء ) والخوري اسقف يوسف داغر ، سلسلة بطاركة الموارنة ؛ والأب يوسف محفوظ ، مختصر تاريخ الكنيسة المارونية .
(8) انظر بطرس فهد ، بطاركة الموارنة واساقفتهم في القرن 13 الى 15 ، ص 90 _ 93 .
(9) السمعاني، المكتبة الشرقية، المجلد الأول، ص 522 .
(10) انظر فيليب حتي، تاريخ لبنان، دار الثقافة، بيروت، الطبعة الثانية، 1978 ، ص450 _467 .
(11) انظر فبليب حتي، تاريخ لبنان، ص 17 ( حاشية ) ,
(12) انظر هنري لامنس، تسريح الابصار فيما يحتوي لبنان من الآثار ، دار الرائد اللبناني، طبعة ثانية 1982 ، جزء اول، ص 111 .
(13) الأب يوسف محفوظ، مختصر تاريخ الكنيسة المارونية، 56 _ 62 .
( ترجم النصوص عن اصولها الى العربية الاب محفوظ نفسه ) .
(14) انظر Nasser GEMAYEL,les echanges culturels entre les Maronites et l'Europe , du college Maronite de Rome ( 1584 ) ou college de Aynwarqa ( 1789 ) , Beyrouth , 1984 .
(15) اظر "بدايات الرهبانية اللبنانية" في التراث الماروني، رهبانيات ا ،تقديم واعداد الاب جوزيف قزي، الكسليك، لبنان، 1988 .
(16) انظر المجمع اللبناني، 1900 ، والذي اعيد طبعه في ذكرى مرور 250 سنة على انعقاده ، بيروت، سنة 1986 .



ليست هناك تعليقات: