2016/05/22

الخوري حنا طنوس في أدبه وشعره القسم الأول الأب جورج صغبيني



الأب جورج صغبيني




الخوري حنا طنوس
في أدبه وشعره




                                                


لبنان 2014













هذا الكتاب:
جمعه الأب جورج عقل اليسوعي
طبعته على الكمبيوتر السيدة شارلوت صغبيني مسلّم
إهتم بطبعه على نفقته السيد جورج نون



 هذه النسخة لا تحمل إلا صورة الغلاف


مقدمة الخوري فيليب السمراني

الخوري حنا طنوس رائد الأدب المسرحي في الشرق العربي.
     أأكتب عن الكاهن الأكمل الذي أدى رسالة سيده بالإيمان والتواضع والمحبة؟ أم عن المعلم الأمين الوديع حجة لغة وبلبل منابر، جامع ثقافة الشرقيين إلى ثقافة الغربيين والطابخ من تفاعلهما فيه وتلاقحها ثقافة لبنانية عربية؟
أأكتب عن الدكتور في الفلسفة واللاهوت والشاعر المحلق؟ أو عن أمير المسرحية الذي أحيا من دفائن التاريخ أبطاله المغاوير ورجاله المشاهير فخلدهم على المسارح في تمثيليات رائعات خالدات.
أأكتب عن الأستاذ المحبوب الذي هذب العقول في جيلين كاملين فأفلطها وسقرطها حتى استوت فيما بعد على السدرة في الثقافة والعلم والآداب فكان تلاميذه مشاعل عبقرية ورجولة ووطنية وإنسانية؟
ليس من اليسير على من لم يعايش الخوري يوحنا طنوس في مختلف مراحل حياته وتطوراتها أن يصور شخصيته وما ذخرت به من نبوغ وعبقرية ومواهب وثروات عقلية. ومات في تكتم وصمت نهار الأحد في 20 آذار عام 1946 ودفن في شبه تكتم وصمت. ويكاد يعنكب النسيان حول اسمه، لولا قلة من قادري فضله الذين لا تزال تختلج في قلوبهم بقية من دماء ووفاء وتلاميذه القدامى الذين يذكرون له مواقف ومواقف ويرددون من نوادره كل طريف ويستعيدون ما لا يزال حيا في ذاكرتهم من قصائده المبعثرات ومسرحياته المتفرقات.
والخوري حنا طنوس قد لا يكون أشعر شاعر، ولا أخطب خطيب، ولا أتقى كاهن ولا أقدر مؤرخ، ولا أعمق باحث في الآداب العربية، ولا أشهر أديب، ولا أبلغ كاتب، ولا أعمق مفكر ولا أنبغ رياضي ولا أفضل مؤلف مسرحي.
ولكن أن يكون الخوري حنا شاعراً وخطيباً ومؤرخاً وأديباً وكاتباً ومفكراً ولاهوتياً ورياضياً ومؤلفاً مسرحياً وأن تتوفر في شخصيته وتتألف مواهب الخطابة والشعر والأدب والرياضة والتأليف المسرحي، فذلك ما جعله أحد أشرق الوجوه في أدبنا العربي المعاصر وأحبها إلى القلوب وأحد أنبغ الشخصيات وأغناها طاقة على الإنتاج الأدبي والعطاء الفكري.



تمهيد

أشكر السيد جورج لاوندوس نون الذي خصّني بما تبقى من مخطوطات الخوري حنا طنوس حتى أراجعها وأصحّح ما سقط فيها من أخطاء من أجل طباعتها تكريما وتخليدا لذكرى الخوري حنا إبن بلدة غوما.
       فالسيد جورج نون حفظ أخبار الخوري حنا عن ظهر قلب، وحافظ على كل أوراقه ومخطوطاته.
كيف لا؟ وهو إبن بلدته ونسيب له.
وهو مغرم بالخوري حنا إلى أقصى حدود الإحترام والتقدير ويريد أن يعرف الجميع سيرة وأخبار وقصائد هذا الخوري الذي كان فريد عصره وكتلة من الذكاء الفطري الذي يفكّر شعراً ويتكلّم شعراً ويصلّي شعراً.
الخوري حنا هو شاعر صقل بالعلم بديهيّته وعفويّته حتى عُرف بالخوري الشاعر وكلاهما كما يروى عنه نالهما من غير استحقاق بل بنعمة من الله.
عاش الخوري حنا إلى جانب عروسة الشعر بتولاً وفقيرا لا يمتدح أحدا من أجل مكسب أو منصب أو جاه أو مال، بل كان شعره  متيّما بوطنيته ولمن يستحق المديح، وكذلك هجاؤه الذي لم يتجنّ فيه على أحد بل وكان جوابه سريعا إلى حدود الأدب ونزاهة الشعر.
وأنا أكتب عن الخوري حنا طنوس أراه متجلّيا بقامته المنتصبة وبثيابه الكهنوتية التي ما فارقته طيلة حياته ولا حتى في لياليه التي كان يقضيها متأمّلا مصلّيا في كتاب "شبيّته".
يقول الخوري حنا للذين عرفوه وأحبّوه ألا اذكروني بعد الموت في كفني:
الا اذكروني إذا ما شمسكم طلعت        عند الصباح بأعلى قمة القنن
الا اذكروني اذا ما شمسكم افلت           عند المغيب بمرأى باهر حسن
الا اذكروني اذا أسيافكم لمعت             يوم الوغى فوق هام الصانعي الفتن
قولوا السلام على من عاش منشغفاً      في حب لبنان طول العمر والزمن
مني السلام على لبنان في ألمي            مني السلام على لبنان في كفني

هذه بعض أبيات للخوري يوحنا طنوس من إحدى قصائده الرائعات قالها على لسان أحد أبطال مسرحياته ”يوسف بك كرم".

                                         الأب جورج صغبيني



هوية الخوري حنا طنوس

ولد حنا طنوس صباح يوم الجمعة في 29 حزيران عام 1866 في بلدة غوما البترونية
والده: طنوس، بن حنا، بن ديب، بن الخوري وهبه
والدته: نعمة إبنة منصور، بن صادق، بن فنيانوس، بن الخوري وهبه
سمّي حنا تيمّنا باسم جده لأبيه.
إخوته: مخايل ويوسف
شقيقته: خرستين أو كريستين
جدّه الخوري وهبه، بن نادر، بن ديب، بن نوهرا، بن بصبوص المعادي. نزح في أوائل القرن الثامن عشر من قرية معاد في منطقة جبيل واستقر في قرية "غوما" حيث كُلّف بخدمة أبناء البلدة.
دروسه: لما بلغ عامه التاسع أرسله والده إلى كاهن الرعية ليتعلم في المدرسة مبادىء الكتابة والقراءة التي كانت في ذاك الزمان. وكانت المدرسة في "العلّية" الواقعة في "سمار جبيل" والتابعة لوقف مار نوهرا.
إنتقل بعدها إلى معهد "راتسبون" في القدس حوالي عام 1875. وهو بعمر 9 سنوات. قد أرسله إلى ذلك المعهد الراهب الدومنيكي الأب اسطفان دومط عم صالح الخوري دومط (من قرية معاد في قضاء جبيل) الذي قدّم البيت والأرض في جربتا لراهبات القديسة رفقا.
وترك القدس عائداً إلى لبنان حيث أكمل دروسه العربية وأنجزها على يد الأب يوسف أبي صعب في مدرسة مار يوحنا مارون في كفرحي. وبعدئذ شرع يدرّس في مدرسة الخوري حنا بصبوص في قرية جربتا ثم في قرية معاد.
سافر إلى المكسيك عند أخيه خوسيه حيث بقي زهاء سنتين عاد بعدها إلى وطنه حيث شعر بدعوة إلى الكهنوت وقد كان شاعراً له قصائد عديدة يرددها ذووه واقاربه.
قصد البطريرك بولس مسعد يطلب مساعدته في دعوته فلم يكترث له. ثم قصد الخوري اغناطيوس المعادي (من قرية مراح الزيات) سائلاً مساعدته فرافقه هذا الأخير إلى كلية القديس يوسف للآباء اليسوعيين في بيروت وقابلا الأب جبرائيل اده اليسوعي راجين قبول حنا طنوس تلميذاُ إكليريكياً فيها فرفض لتقدمه في السن. إلا أن عزيمته كانت أقوى من الحواجز والعراقيل فألح وتشبث بطلبه قائلاً، لن أخرج من هنا إلا جثة هامدة. عندئذ أذعن لرغبته رئيس المدرسة، وقبله في عداد التلاميذ الإكليريكيين نهار الخميس في الأول من شهر تشرين الأول عام 1890. وهو في ربيعه الرابع والعشرين فنظراً لسنه واتقانه اللغة العربية أدخل الصف الرابع وأكب على الدرس والتحصيل باجتهاد لا يعرف الملل ولا الكلل حتى فقز بعد شهرين إلى الصف الثالث كما تثبت ذلك القيود المسجلة في اضبارات التلاميذ الإكليريكيين في جامعة القديس يوسف في بيروت.
وأنهى دروسه متضلعاً من الفرنسية والعربية واللاتينية والسريانية واليونانية وآداب هذه اللغات. وسيم كاهناً صباح نهار السبت في 27 أيار 1899.
ونهار الجمعة في 10 حزيران من تلك السنة ترك المدرسة الإكليريكية منتقلاً من ميدان العلم إلى ميدان العمل والجد والنشاط وتأدية رسالته.
وصباح الثلاثاء في 11 نيسان 1899، قدم أطروحته لنيل شهادة الدكتوراه في اللاهوت فنالها بتفوق نهار الأحد في 16 تموز 1899 على عهد رئاسة الأب كائان اليسوعي وكان رئيس اللجنة الفاحصة الأب Augustin Rodet.
شرع الخوري حنا يدرّس ويؤلّف ويعظ ويرشد فعرفه الآباء اليسوعيون في بيروت معلماً البيان والخطابة (1900 إلى 1910) ثم (1920 إلى 1921) وعرفته أخوية "مار لويس غونزاغا" مرشداً لها وكاتدرائية مار جرجس المارونية في بيروت واعظاً يتهافت الناس من مسيحيين ومسلمين إليها لسماع عظاته الإنسانية. وعرفته مدرسة "النصر" معلما في كفيفان 1911 – 1913 ثم 1929، فمدرسة ميفوق 1922 – 1928، فالكلية الوطنية في بانياس 1930 – 1933، كما علم اللاهوت في "كرم سده" وفي "سيدة المعونات" و"مار عبدا هرهريا".
وشهرته الأدبية حملت أرباب الأسر الكبيرة من مشاهير اللبنانيين وأعيانهم على التهافت إلى الخوري حنا يستقدمونه معلماً خاصاً لأولادهم كما فعل مشايخ آل أبو صعب في "مزرعة بيت أبو صعب" ومشايخ آل رفول في "إجبع" ومشايخ آل اسطفان في "كفر صغاب".
وانصرف إلى تأليف الروايات التمثيلية فكان بما خلّف من مسرحيات رائد الفن المسرحي في الشرق العربي. فمن آثاره المسرحية نذكر، رجل الغابة، الفرد الكبير، امير لبنان وكسرى، صبي الدهاليز، ملك الدياميس، النعمان الخامس، الحلم الرامع والصحو الفاجع، الحارث، البطل المجهول، البطل الأخرس، الأعمى البصير، تخليص الوطن، العمران، حرب داحس وغبراء، فرسيا، يوسف بك كرم، المهلهل، البطريرك حجولا، أمير الأرز، العقل اللبناني والدهاء العثماني، عبد المنعم أمير جبيل، داوود وشاوول، يهوديت، قسطنطين الملك، طوبيا البار، يوسف الحسن، أبي شالوم، مار لويس، يوحنا فم الذهب، ليلى العفيفة، شهداء نجران، دانيال النبي، الدنانير الحمر، قايين وهابيل، جريمة وتكفير وغفران...
وله في الفلسفة اللاهوت الأدبي، واللاهوت النظري، وحوادث ذمة أي فتاوى. وفي الأدب تعريب قسم من الألياذة للشاعر فيرجيل، والإبن الشاطر، ودون كيشوت للكاتب الإسباني "سرفنتس".
كل هذا النتاج الأدبي لم يدرّ على الخوري حنا، ما يمكنه من شروى نقير. وظل حتى آخر أيام حياته يفتش عمن يشتري ثمار نبوغه ومولودات خياله.
وأثر وقوعه عن سلم المطبعة الكاثوليكية تمّ نقله إلى مستشفى أوتيل ديو للمعالجة في أواخر شهر آذار 1946.
توفي نهار الأحد في 20 آذار عام 1946 ودفن في بلدته غوما عن عمر يناهز الثمانين عاما.

سيرة الخوري حنا طنوس
هذا العلامة الكاهن اللبناني الذي قضى حياته كل حياته، يعلّم، ويهذّب، ويرشد، ويؤلّف ويعظ ويتغنّى بلبنان وأمجاد رجاله وأبطاله.
       هذا الكاهن الأكمل الذي أدّى رسالة سيده بالإيمان والتواضع والمحبة والمعلم الأمين الوديع حجة لغة وبلبل منابر، جامع ثقافة الشرقيين إلى ثقافة الغربيين والجامع من تفاعلهما فيه وتلاقحهما ثقافة لبنانية عربية؟
هذا الدكتور في الفلسفة واللاهوت والشاعر المحلق وأمير المسرحية الذي أحيا من دفائن التاريخ أبطاله المغاوير ورجاله المشاهير فخلدهم على المسارح في تمثيليات رائعات خالدات.
هذا الأستاذ المحبوب الذي هذب العقول في جيلين كاملين فأفلطها وسقرطها حتى استوت فيما بعد على السدرة في الثقافة والعلم والآداب فكان تلاميذه مشاعل عبقرية ورجولة ووطنية وإنسانية؟
ليس من اليسير على من لم يعايش الخوري يوحنا طنوس في مختلف مراحل حياته وتطوراتها أن يصور شخصيته وما ذخرت به من نبوغ وعبقرية ومواهب وثروات عقلية.
مات في تكتم وصمت نهار الأحد في 20 آذار عام 1946 ودفن في شبه تكتم وصمت. ويكاد يعنكب النسيان حول اسمه، لولا قلة من قادري فضله الذين لا تزال تختلج في قلوبهم بقية من دماء ووفاء الذين يذكرون له مواقف ومواقف ويرددون من نوادره كل طريف ويستعيدون ما لا يزال حيا في ذاكرتهم من قصائده المبعثرة ومسرحياته المتفرقة.
فالخوري حنا طنوس قد لا يكون أشعر شاعر، ولا أخطب خطيب، ولا اتقى كاهن ولا أقدر مؤرخ، ولا أعمق باحث في الآداب العربية ولا أشهر أديب ولا أبلغ كاتب، ولا أعمق مفكر ولا أنبغ رياضي ولا أفضل مؤلف مسرحي.
ولكن الخوري حنا كان شاعراً وخطيباً ومؤرخاً وأديباً وكاتباً ومفكراً ولاهوتياً ورياضياً ومؤلفاً مسرحياً وأن تتوفر في شخصيته وتتألف مواهب الخطابة والشعر والأدب والرياضة والتأليف المسرحي، فذلك ما جعله أحد أشرق الوجوه في أدبنا العربي المعاصر وأحبها إلى القلوب وأحد أنبغ الشخصيات وأغناها طاقة على الإنتاج الأدبي والعطاء الفكري.
لذلك سأحاول أن أصوره في هذه الدراسة صبياً وفتى وتلميذاً وكاهناً وخطيباً وشاعراً ومؤلفاً مسرحياً وإنساناً. وكي لا تكون هذه الدراسة جافة سأسرد بعض نوادره وطرائفه في سياق الحديث.



مولده ونشأته
على علو 500م عن سطح البحر، وعلى بعد 12كلم عن البترون، تقع قرية وادعة قائمة على جبل كأنه سنام جمل، تحيط بها وديان من جهات ثلاث، فتطل على البحر غرباً وتشرف على العديد من قرى منطقتي البترون جنوباً وجبيل شرقاً.
       بيوتها لا يزيد عددها عن الأربعين منزلا آهلة بثلاثماية شخص تربط فيما بينهم أواصر الحسب، وتشد الواحد إلى الآخر وشائج القربى فكلهم أبناء عمّ ينحدرون من جدّ واحد هو الخوري وهبه، بن نادر، بن ديب، بن نوهرا، بن بصبوص المعادي.
نزح الجد الخوري وهبه في أوائل القرن الثامن عشر عن قرية معاد في منطقة جبيل واستقر إلى جانب منخفض من الأرض تتجمع فيه مياه الأمطار أيام الشتاء. سُمّيت هذه المنقطة "غوما" التي حلّ فيها هذا الضيف النازح عن معاد. وإذا أولاده وأحفاده يبتاعون على مراحل أملاكاً من سرحال حماده، ويطحنون الصخور، ويستصلحون الأراضي القاحلة ويسقونها عرق الجبين ويتعهدون تربتها يستنبتونها خيرات ومواسم وهم بكفافهم راضون.
       في هذه القرية ولد فجر نهار الجمعة في التاسع والعشرين من شهر حزيران عام 1866 لطنوس بن حنا، بن ديب، بن الخوري وهبه، ولزوجته نعمة إبنة منصور، بن صادق، بن فنيانوس، بن الخوري وهبه، طفل سُمّي حنا تيمنا باسم جده لآبيه. ففرح به والداه وشاركهما فرحهما الأهل والأقارب وسائر أفراد القرية.
       نشأ حنا كجميع أترابه، يقضي وقته بين البيت والحقل والجنائن، يتلهى "بصلي الدبق"، للعصافير وتخريب الأعشاش، ومساعدة والديه في قضاء ما يطلبان منه القيام به من عمل.
       وكان حنا ينمو في كنف والديه مع أخويه مخايل ويوسف وشقيقته خرستين صارفاً وقته في اللهو مع أبناء عمه أنطون وقيصر وحنا ومخايل وعندما كان يقسو عليه والده لعمل شيطاني قام به، كان يهرول إلى جده حنا وجدته وردية إبنة نعمه أبي نادر، فيطعمانه من اللوز والزبيب والقضامى ما يطيب خاطره ويعيده جدّه إلى بيته راضياً مسروراً.
       ولما بلغ عامه التاسع أرسله والده إلى كاهن الرعية ليتعلم في المدرسة مبادىء الكتابة والقراءة. فوالدا حنا ما كانا يعرفان ما يضمر المستقبل لولدهما، ولا كان يمرّ في خاطرهما أن هذا الولد سيكون أساساً لنهضة علمية أدبية في قريته وجوارها ومنطقته ولبنان.
       فعندما يتمكن حنا من توقيع اسمه ومن قراءة "عند سعد ورد" ومزامير داوود، وعندما يصبح أهلاً للوقوف في الكنيسة حول "القرّاية" يجاري شباب القرية في ترتيل الصلوات الكرشونية والسريانية. يكون في نظرهما قد بلغ أقصى الحدود التي يطمحان إليها. فحنا لا يحتاج إلى المزيد من العلم لأنه لن يصبح كاهناً ويكفيه منه هذا المقدار.
       كانت المدرسة في "العلية" الواقعة في "سمار جبيل" والتابعة لوقف مار نوهرا. فكان حنا يذهب إلى المدرسة مرتدياً القمباز، معلقاً بكتفه اليمنى "الحمّال" وفيه الكتب والدفاتر شاكا في زناره أقلام "الغزار" ودواته.
       توصل حنا إلى كتابة الألف باء وتصوير اسمه وقراءة "عند سعد ورد"
 ومن مزامير داوود "طوبى للرجل الذي لم يسلك في مشورة الكفرة" وفي السنين التوالي حفظ الأجرومية وتعلم قليلاً من السريانية والكرشونية.
       إلا أن ارتياده المدرسة كان يسبب لوالديه كثيراً من المتاعب وقلق البال. كان الطيش مسيطراً عليه، فقلما يمرّ نهار دون أن تصلهما من أخبار حنا ما لا يفرح ويسرّ. "حنا ضرب زيد" حنا وقع من التوتة، حنا اعتدى على أحد رفاقه وشج رأسه بحجر، فولدهما حنا كان عفريتاً يتحرش برفاقه ويقاتلهم ويتغلب حتى على الأكبر منه سناً ويمزق ثيابهم وكثيراً ما كان يسطو عليهم ويستأثر بما لديهم من الطعام من "تين مطبع" و"زبيب" و"صفوف". ويهرب إلى خرائب قلعة "سمار جبيل".
       ويعود الأب وابنه إلى البيت. ويجتمع أفراد العائلة في ليالي الشتاء الباردة حول الموقد يشوون على جمره "البلوط"، وينضم إليهم الجيران والأنسباء فيمضون السهرة في لعب "السكنبيل" و"الباصرة" و"المنقلة" أو في السماع إلى قصة عنتر بن شداد أو رواية "الزير أبو ليلى المهلهل".
       وكثيراً ما كان يدفع الإستطراد إلى التحدث عن بطولات الأجداد ونوادرهم، وعن السلف والخلف من أهالي القرية فيتحدثون عن "الخوري نوهرا خطار" الذي رفس الضبع برجله وقتله، وعن الكتب الضخمة التي ملأ بها خزانته، وعن "نوهرا بو خطار" الذي أدب "الظابط" التركي وأشبعه ضرباً.
       ويتشعب الحديث فيروي البعض البطولات عن يوسف بك كرم وكيف حارب داوود باشا وهزم الجيش التركي في أكثر من موقعة. وينتقل الحديث إلى جد أهالي القرية الخوري وهبه ويعود المتحدثون إلى الوراء متوغلين في الماضي باحثين في أنساب الجدود من الخوري وهبه إلى نادر إلى ديب، إلى نوهرا إلى المقدم بصبوص جد العائلة الجامع، الذي كان ذا قوة وبطش ومثّل دوراً كبيراً في العاقورة.
       هذه لمحة خاطفة عن الخوري حنا طنوس عهد الطفولة والحداثة وعن البيئة التي نشأ فيها وعما كان يدور في تلك الأيام من أحاديث وأخبار كان يصغي إليها كل الأصغاء ويستوعبها ويخزنها في عقله الباطني تاركاً للأيام أن تخمّرها وتنضجها وتصفّيها وتجلو دقائقها.
       ويشاء القدر ألا يبقى حنا طنوس على ما اقتبس في مدرسة القرية من مبادىء الكتابة والقراءة وتشاء العناية الإلهية ألا تتخلى عن مواهب هذا الفتى فتتركها خاماً بل أن تصقلها وتثمرها وتعدها لمستقبل باهر في ميادين العلم والأدب والثقافة، فقيضت له مجال الإنتقال إلى معهد "راتسبون" في القدس حوالي عام 1875.

حنا في معهد راتسبون
   Théodore Ratisbonne
معهد "راتسبون" أنشأته في القدس جمعية رهبنات سيدة صهيون (Notre Dame de Congregations SC) التي أسسها تيودور راتسبون.[1] وهو يهودي فرنسي ولد في مدينة ستراسبورج عام 1802 ومات عام 1884. اعتنق الدين المسيحي عام 1827 وأصبح كاهناً وأسس جمعية رهبنات سيدة صهيون عام 1842. وكان لتيدور شقيق اسمه ألفونس اعتنق النصرانية أيضاً عام 1842 فدخل أولاً رهبنة الآباء اليسوعيين ثم الرهبنة التي أسسها شقيقه أي رهبنة سيدة صهيون ونقل مركزها الرئيسي إلى القدس حيث أنشأت معهداً عرف بمعهد "راتسبون".
       كان هذا المعهد يعلم التلاميذ مجاناً ولا يتقاضى منهم إلا أكلاف الكتب والقرطاسية. أما حنا طنوس فقد أرسله إلى ذلك المعهد الراهب الدومنيكي الأب اسطفان ضوميط عم صالح الخوري ضوميط (من قرية معاد في قضاء جبيل) الذي كان نظراً لما بينه وبين المشرفين على إدارة المعهد المذكور من وشائج الصداقة وطيب الصلات، يرسل إليهم أنسباءه تلاميذ الأسرة المعادية ويدفع عنهم ثمن الكتب والقرطاسية وما شاكلها لييسّر لهم التعلم والتثقيف.

 الأب اسطفان ضوميط الدومنيكي من معاد
وُلد في 14 آذار 1843 ودُعي حنا.
أرسله والده إلى مدرسة غزير للآباء اليسوعيين حيث تعلّم طيلة خمسة عشر عاما، ثمّ سيم كاهنا بإسم نعمة الله في 14 تموز 1873.
أسّس مع الأب لاغرانج مجلة الكتاب المقدس، وحاضر طيلة ثماني سنوات في معهد الكتاب المقدس ( (Ecole Biblique، وإعتزل التعليم عام 1899 وعمل مرشدا لراهبات مار يوسف الظهور في القدس وانصرف إلى التأليف، غير أن آثاره بقيت غير منشورة. وقد توفي عام 1929.
إنتقل حنا طنوس إلى القدس، على يد الأب إسطفان دوميط المعادي، وترك الجوّ الذي كان يعيش فيه في بلدته، فتبرعمت مواهبه وتفجرت نباهته فإذا هو المجلّى بين رفاقه وأترابه، تلميذ حاد الذهن، فطن، لبيب، يتمتع بذاكرة عجيبة مدهشة وذكاء نادر أدهش جميع معلميه حتى أن امبراطور البرازيل "دون بادرو الثاني" رغب أن يتبناه بعد حادث طريف يظهر ذكاء الشاب حنا.

حنا وإمبراطور البرازيل
   صورة دون بيدرو الثاني - Pedro II امبرطور البرازيل  18 يوليو، 1841 إلى 15 نوفمبر 1889. [2]
كان إمبراطور البرازيل دون بادرو الثاني وهو رجل عميق الثفافة ومن أعظم علماء عصره قد درج على زيارة الأراضي المقدسة كل عام. وأثناء زيارته الأخيرة حوالي عام 1877 عرّج على معهد "راتسبون" لتفقد أحوالها ويمدها بالمساعدات أسوة بأمثاله من الملوك المسيحيين.
فاستعرض الملك التلاميذ يحادث هذا وذلك ويطرح عليهم الأسئلة ممتحناً موهبهم وذكاءهم حتى دنا من التلميذ يوحنا. فأسرّ رئيس المعهد إلى الملك أن التلميذ الذي أمامه هو من أنبغ من عرفهم المعهد وأذكاهم وأنجبهم فضلاً عن ذاكرته الغريبة المدهشة. وسأل الملك التلميذ حنا قائلاً:
يقول حضرة الأب الرئيس أنك ذكي وذو ذاكرة قوية. فلك مني جائزة ثمينة إن أثبتت لي ذلك وتمكنت من حفظ ما سأقوله. وشرع الملك يقول "صلاة الأبانا" باللغة البرتغالية، وحنا مطرق الرأس، جالس على المقعد الخشبي، يهز برجليه ويلعب بقلم بين أصابعه فدنا منه الأب الرئيس ولكزه في خاصرته لافتاً انتباهه إلى وجوب شحذ وعيه وذاكرته كي لا يسوّد وجهه ويخيّب أمله فيه. فأفهمه التلميذ حنا بإشارة بأصابعه الثلاث التي ضمها إلى بعضها، ألا يخاف (وكان الخوري يوحنا أثناء سرده هذا الحادث يوضح أنه كان لا يمكنه أن ينتبه ويستجمع قواه العقلية إلا ساعة يلهى أطرافه كأصابعه ورجليه بشئ ما).
وما كاد الملك ينتهي من الصلاة الربانية حتى أعادها التلميذ بحذافيرها. فطار رئيس المدرسة فرحاً واستولت الدهشة على الإمبراطور الذي طلب من الأب الرئيس أن يُعلم أهل التلميذ بأنه يرغب أن يتبنى ولدهم، وهو مستعد لإعطائهم لقاء سماحهم له بذلك، ما يريدون ويرغبون.
وسافر الإمبراطور عائداً إلى بلاده منتظراً جواب أهل التلميذ. لكن هذا الملك الفيلسوف العميق الثقافة المشبع بمبادىء فلسفة المدرسة الوضعية "Positisme" للفيلسوف الفرنسي "اوغست كونت"، ما كاد يصل إلى بلاده حتى ألغى الرقّ وأعتق العبيد في مملكته عام 1888. عندئذ نقمت عليه الطبقة الإجتماعية السائدة وأشعلت ضده نار الثورة التي أطاحت بعرشه فاضطر إلى الإستقالة في 15 تشرين الثاني 1889 والتخلي عنه واللجوء إلى فرنسا حيث توفي عام 1891. والله أدرى بما كان يضمره المستقبل ليوحنا طنوس في ما لو لم يُخلع الإمبراطور عن عرشه ووافق والدا حنا على عرض الملك. وقد ظل حنا طنوس يتمتع بهذه الذاكرة النادرة طيلة حياته.

عودة حنا إلى لبنان
ترك حنا القدس عائداً إلى لبنان حيث أكمل دروسه العربية وأنجزها على يد الأب يوسف أبي صعب في مدرسة مار يوحنا مارون في كفرحي. وبعدئذ شرع يدرّس في مدرسة الخوري حنا بصبوص في قرية جربتا ثم في قرية معاد... وسافر إلى المكسيك لزيارة أخيه خوسيه حيث لم يبق إلا زهاء سنتين عاد بعدها إلى وطنه حيث شعر بدعوة إلى الكهنوت.

حنا الإكليريكي
قصد الشاب حنا، البطريرك بولس مسعد، يطلب مساعدته في دعوته فلم يكترث له. ثم قصد الخوري اغناطيوس المعادي، من قرية مراح الزيات، سائلاً إياه مساعدته فرافقه هذا الأخير إلى كلية القديس يوسف للآباء اليسوعيين في بيروت وقابلا الأب جبرائيل اده اليسوعي راجين قبول حنا طنوس تلميذاُ إكليريكياً فيها فرفض لتقدمه في السنّ. إلا أن عزيمته كانت أقوى من الحواجز والعراقيل فألح وتشبث بطلبه قائلاً: لن أخرج من هنا إلا جثة هامدة. عندئذ أذعن رئيس المدرسة لرغبته، وقبله في عداد التلاميذ الإكليريكيين نهار الخميس في الأول من شهر تشرين الأول عام 1890.
وهو شاب غض الأهاب في ربيعه الرابع والعشرين فنظراً لسنه واتقانه اللغة العربية أدخل الصف الرابع وأكب على الدرس والتحصيل باجتهاد لا يعرف الملل ولا الكلل حتى فقز بعد شهرين إلى الصف الثالث كما تثبت ذلك القيود المسجلة في اضبارات التلاميذ الإكليريكيين في جامعة القديس يوسف في بيروت.
       وكان الأول في صفّه بين رفاقه، كما كان الأول في اللغة الفرنسية، والأول في العربية، والأول في الأدب، والأول في التاريخ، والأول في الشعر، والأول في الرياضيات حتى حاز على إعجاب وتقدير جميع أساتذته ومعلميه. وقد كان رهيف الحس، قوي الشعور، دقيق الإحساس يرى ويسمع ما لا يراه أو يسمعه سواه.

أبي مات
       جرى له في عهد تلمذته حادث طريف يوم الأربعاء في الحادي والعشرين من شهر تشرين الثاني عام 1890، حين كان الإكليريكي حنا في الدرس منكبّاً على كتبه يدرس أمثولاته عند الظهيرة وإذ يطرأ عليه ذهول ويضيع في بحر من الإنخطاف ويسمع جرس كنيسة رعيته "مار نوهرا" في سمار جبيل يدق دقات حزن. ويرى الإكليريكي حنا بعين البصيرة أحد أهالي قرية "سمار جبيل" يقف على سطح بيته وينادي قارع الجرس جرياً على العادات في القرى اللبنانية، قائلاً: مين مات ؟ ويجيبه قارع الجرس: طنوس حنا.
       وينتفض الإكليريكي من تأثير الصدمة والنبأ المشؤوم فيعود من غيبوبته ولاوعيه وذهوله مسرعاً إلى الأب المناظر قائلاً له والدمعة في عينيه: أبي مات أرجو أن تسمح لي بالذهاب إلى القرية. فقال له الأب الناظر متعجباً ساخراً :"هل طرق عليك جنون يا ابني ماذا دهاك، من أطلعك على هذا النبأ، كيف عرفت ذلك ؟" أجابه الإكليريكي واللفظة تتحشرج في نبرات صوته: أنا سمعت دقات جرس القرية وسمعت قارع الجرس يقول أن والدي مات. فهدّأ الأب الناظر روع التلميذ وقال له: قد تكون تحت تأثير عوامل نفسانية سيطرت عليك وعلى حواسك فتوهمت أنك سمعت ما سمعت ورأيت ما رأيت. عد إلى مقعدك واستأنف درسك بطمأنينة.
       وعاد إلى مقعده وما كاد يتكئ رأسه بين يديه منصرفاً إلى الدرس حتى عاودته الظاهرة ذاتها، جرس الرعية في القرية يدق دقات حزن والشخص ذاته من "سمار جبيل" يسأل: مين مات؟ فيجيبه قارع الجرس: طنوس حنا. وينتفض الإكليريكي كالمجنون ويقص ثانية على الناظر ما رأى وسمع متوسلاً إليه أن يأذن له بالذهاب إلى قريته لحضور جناز المرحوم والده. فنصحه المناظر بترك الدرس والتمشي في الملعب ثم الذهاب إلى المنام فيستلقي على فراشه مريحاً بذلك أعصابه.
       وفي اليوم التالي وفد إلى بيروت رسول من "غوما" ينقل إلى الإكليريكي حنا خبر موت والده البارحة. وقد ثبت أن الجرس كان فعلاً يدق حزناً في تمام الساعة التي سمع حنا دقاته، وأن الشخص الذي قرع الجرس كان الشخص الذي رآه حنا بعين البصيرة، وأن الشخص الذي وقف على سطح بيته في "سمار جبيل" وسأل من مات كان الشخص عينه الذي رآه الإكليريكي حنا.



صورة رسالة الخوري حنا بخطّ يده إلى والدته قبل سيامته الكهنوتية


سيامة حنا كاهناً
أنهى الإكليريكي حنا دروسه متضلعاً باللغات الفرنسية والعربية واللاتينية والسريانية واليونانية وآداب هذه اللغات. وسيم كاهناً صباح يوم السبت في 27 أيار 1899.
ويوم الجمعة في 10 حزيران من تلك السنة ترك المدرسة الإكليريكية منتقلاً من ميدان العلم إلى ميدان العمل والجد والنشاط وتأدية رسالته.
وصباح نهار الثلاثاء في 11 نيسان 1899 قدم أطروحته لنيل شهادة الدكتوراه[3] في اللاهوت فنالها بتفوق نهار الأحد في 16 تموز 1899 على عهد رئاسة الأب كائان اليسوعي وكان رئيس اللجنة الفاحصة الأب Augustin Rodet.
       شرع الخوري حنا يدرّس ويؤلف ويعظ ويرشد فعرفه الآباء اليسوعيون في بيروت معلماً للبيان والخطابة بين سنة (1900 إلى 1910) ثم (1920 إلى 1921). وعرفته أخوية "مار لويس غونزاغا" مرشداً لها. وكاتدرائية مار جرجس المارونية في بيروت واعظاً يتهافت الناس من مسيحيين ومحمديين إليها لسماع عظاته الإنسانية. وعرفته مدرسة "النصر" في كفيفان 1911 – 1913 معلّما ثم في 1929، وكذلك مدرسة ميفوق 1922 – 1928، والكلية الوطنية في بانياس 1930 – 1933. كما علم اللاهوت في "كرم سده" وفي "سيدة المعونات" و"مار عبدا هرهريا".
       وشُهرة الخوري حنا الأدبية حملت أرباب الأسر الكبيرة من مشاهير اللبنانيين وأعيانه على التهافت إلى الخوري حنا يستقدمونه إليهم معلماً خاصاً لأولادهم كما فعل مشايخ آل أبو صعب في "مزرعة بيت أبو صعب" ومشايخ آل رفول في "إجبع" ومشايخ آل اسطفان في "كفر صغاب".
       وهكذا على مقاعد معهد الآباء اليسوعيين في بيروت، ومدرسة "النصر" في كفيفان، وبين جدران مدارس "ميفوق" والكلية الوطنية في بانياس، وبين "كرم سده" و"سيدة المعونات" و"مار عبدا هرهريا" وفي رحاب دور مشايخ آل اسطفان في كفر صغاب وآل رفول في إجبع وآل أبي صعب في مزرعة بيت بو صعب، هدى نفوساً وصقل أوراقاً و"سقرط" أذهاناً و"أفلط" عقولاً، فتتلمذ لديه عدد كبير من مشاهير الرجال وتخرج عنه دهاقنة سياسة، وفواحل أدب وعلم وثقافة، وأفاضل رجال دنيا ودين، ومشاعل عبقرية ورجولة ووطنية.



ليست هناك تعليقات: