2016/05/23

الخوري حنا طنوس في أدبه وشعره القسم الرابع الأب جورج صغبيني



الأب جورج صغبيني

الخوري حنا طنوس
في أدبه وشعره
                                                
لبنان 2014
 
هذا الكتاب:
جمعه الأب جورج عقل اليسوعي
طبعته على الكمبيوتر السيدة شارلوت صغبيني مسلّم
إهتم بطبعه على نفقته السيد جورج نون 
 
   
 
 

طباعه وأخلاقه من خلال نوادره
       كان الخوري حنا طنوس رضيّ الطباع حلو المعشر يرتاح إليه جليسه وقلّما نلقى شخصاً من الذين عرفوه وعاشروه ألا يذكر عنه من النوادر ما يتصف بخفة الروح.

أنا كلّ عمري الأول يا سيدنا
       قام المثلث الرحمات البطريرك عريضه عندما كان مطراناً بزيارة رعائية إلى بانياس فجرت له استقبالات رائعة وحفلات عامرة. وفي عداد تلك الحفلات مأدبة أقامها في بيته أحد أعيان الموارنة [1][7] في بانياس على شرف سيادته. وأثناء تناول الطعام وكان من الطبيعي أن يطلق الخطباء والشعراء ألسنتهم وقرائحهم والعنان مثنين على جهود سيادته وتضحياته ولا سيما خلال سني الحرب الكونية الأولى حيث أنه رهن صليبه ليخفف من مصائب من عضهم الدهر بنابه وجارت عليهم أحوالهم. وفيما كان الخطباء والشعراء مسترسلين في مديحهم دنا أحد الحضور [2][8] من الخوري حنا طنوس وأراد أن يستفز سرعة خاطره فأسرّ في أذنه ما يلي: "كفاهم مديحاً. ألا يوجد للمطران عريضة سيئة واحدة... إن كنت جريئاً تكلم...". فإذا بالخوري حنا، بعد أن أنهى الخطباء مدائحهم، يقف ويقول: "لقد أكثر الخطباء من مديح سيادة المطران عريضة وكأني بهم خجلوا أو جبنوا فلم يذكروا ما عنده من سيئات. اما أنا فأعرف له سيئة لا تضاهيها سيئة."
       هنا جمد الحضور واشرأبت الأعناق وأرهفت الأسماع. وإذا الخوري حنا يستأنف كلمته قائلاً: "أما سيئته هذه فتصرفه بما ليس له. إنه يجازف بصحته في سبيلنا وصحته هي ملكنا لا ملكه... فعلا التصفيق وكان لكلمة الخوري حنا التي مدح بها تحت ستار القدح الصدى المستحب.
       واستفاد أحد الحضور[3][9] من هذا الجوّ المرح وسأل سيادة المطران: من أكبر سنّا سيادتك أم الخوري حنا؟ أجاب المطران: "أنا والخوري حنا بعمر واحد وكنا في المدرسة معاً نتنافس على الأولية فكنت أنا الأول خلال أسبوع والخوري حنا الأول في الأسبوع التالي "هنا وقف الخوري حنا وأجاب بحدة وانفعال: "كلا يا سيدنا أنا كلّ عمري الأول".


قصاصك، أكل رطل شعير
       أخبر الخوري عن نفسه فقال أنه كان واقفاً مرّة في بيروت على ساحة الشهداء وإذا بفتاة لم يرَ قط أجمل منها تمرّ أمامه. وقبل أن يقيم القداس أراد الإعتراف عند كاهن صديق له فجثا على مركع كرسي الإعتراف وروى للكاهن قصته. فسأله هذا الأخير: هل شكّك ضميرك وهل نويت الإساءة إليها.
أجابه الخوري حنا: كلا، ابداً ولكن أعجبت بجمالها.
عندئذ قال له الكاهن المعرف: أتعلم ما هو قصاصك.
أجابه الخوري حنا: لا.
فقال له الكاهن المُعَرّف: تأكل رطل شعير.

قد يدخل الوثني السماء قبلي
       كانت عظاته في الكنائس إنسانية شاملة يتناول فيها القضايا الإجتماعية، والقضايا البشرية التي تهم جميع الناس على مختلف أديانهم ومذاهبهم وطوائفهم ومعتقداتهم. وهذا هو سر إقبال غير المسيحيين على سماع عظاته سواء كان في كنائس بيروت أو في بانياس أو في طرابلس... فالخوري حنا كان السباق في الدعوة إلى الإلفة والمحبة والتسامح.
       وقد روى أحد عارفيه[4][10] أن الخوري حنا كان يعظ دائماً أيام الآحاد في الكنيسة خلال السنين التي قضاها في بانياس وليلة أحد الآحاد طلب منه أن يصطحب معه إلى الكنيسة أكثر عدد ممكن من رفاقه الشبان على مختلف طوائفهم. ومذاهبهم ليسمعوا عظته فلبى راوي القصة رغبة الخوري حنا وحضر في اليوم التالي القداس ومعه عدد من الشبان. وبعد قراءة الإنجيل ألقى الخوري حنا عظة ورد فيها ما يلي:
       أيها الأبناء الأحرار، سألني أمس بعض بسطاء العقول، هل يدخل السماء غير المسيحيين؟ انتفض الخوري حنا معلقاً على هذا السؤال. هذا هو الكفر بعينه فالسما ليست وقفاً للمسيحيين دون غيرهم وأنا أصارحكم، وأنا بين يدي الله، بأنه قد يدخل الوثني الذي يعبد الأوثان والنار إلى السماء قبلي أنا وقبلكم، إذا كان يقوم بأعمال إنسانية مفيدة لبني البشر...
       فكان لكلمته هذه أحسن الوقع وأطيب الأثر في نفوس غير المسيحيين الذين كانوا في الآحاد التالية يقبلون بعدد وافر إلى الكنيسة لسماع عظات الخوري حنا.

شبردم شبردم وفقد عينه اليمين
       لكثرة ما ألّف الخوري حنا من مسرحيات مجد فيها البطولة والرجولة وتغلغل في نفسانية اشخاصها وبث فيهم روح الفروسية والعنفوان والجرأة والإقدام أصبح يعيش فيهم ويتصرف تصرفاتهم حتى وقع له عام 1925 حادث مشؤوم أفقده عينه اليمنى.
       كان عندما يضطر إلى الإنتقال من قريته إلى "ميفوق" حيث كان يعلّم أو إلى سواها من القرى يمتطي فرساً لقلة توفر السيارات حينذاك. وعندما يصل إلى منبسط من الأرض كان ينحني فوق رأس الفرس فيشد بشعرها صائحاً "شبردم شبردم" فإذا بالفرس تسرع وتعدو به حتى توهم من كان يرافقه أن الفرس إنما أسرعت لدى سماعها كلمة "شبردم" وأن الخوري حنا مثل سليمان الحكيم يخاطب الحيوانات بلغة خاصة.
       وصدف أنه كان عام 1925 مع إبن أخيه الأب يوسف فارس في قرية زكرون قضاء الكورة التي لم تكن قد وصلتها بعد طريق السيارات. ولما أحب النزول إلى شكا أعد من كان في ضيافتهم، للخوري حنا وللخوري يوسف فارس ولمن سيرافقانهما فرساً وبغلا وحمارين. ولما كان الخوري حنا في السبعين (ومنهم من يقول في التاسعة والخمسين) من عمره خشي أصحابه أن يمتطي الفرس وهي أصيلة وما كانت تسمح لغير صاحبها أن يمتطيها، فأعدوا له البغل. لكن الخوري حنا أصرّ على ركوب الفرس ولما حذروه منها ولفتوا انتباهه إلى الخطر الذي يعرض له نفسه بامتطائه تلك الفرس راح الخوري حنا يتبهور ويتمرجل كأنه شاب في ريعان العمر أو أحد أبطال مسرحياته متغنياً، أنا عنترة بن شداد، أنا الفارس المغوار الذي لا يشق له غبار، أنا في الميدان لا يجاريني أفرس الفرسان أنا أنا...
       وأخيراً أذعن لرغبته أصحاب الفرس وأركبوه عليها بعد إسداء النصيحة له بوجوب الحذر والإنتباه والسير بتؤدة كي لا يحدث له مكروه. ولكن الخوري حنا ما كاد يبعد قليلاً عن قرية "زكرون" ويصل إلى مشارف "شكا" حتى شاء أن يمثل دور الفروسية والبطولة فانحنى فوق رأس الفرس وصاح، "شبردم شبردم" شاداً بشعرها كما اعتاد أن يفعل. ولكن هذه الفرس الأصيلة التي ما كانت تلقى من أصحابها إلا كل عناية ورعاية وحسن معاملة وترفيه ضايقها الشد بشعرها فجمحت بالخوري حنا ولم تتوقف إلا بعد أن وقع عن صهوتها فاقد الرشد من شدة الصدمة.
       وأسرع إليه من كان برفقته ورفعوه عن الأرض فإذا عينه اليمنى يسيل منها الدم. واجريت له الإسعافات اللازمة وأخذ إلى الأطباء للمعالجة فضمدت جراح وجهه وعولجت الرضوض في جسمه لكن عينه لم يتمكن الأطباء من إعادة النور إليها بعد ذلك الحادث المشؤوم.

الصدق المُنَجِّي
       كان الخوري حنا شغوفا جداً بالتدخين حتى إن اللفافة ما كانت تفارق شفتيه. وحدث له مرة أنه بعد قضاء إجازته في لبنان عاد إلى بانياس ومعه حقيبة مليئة بالتبغ وعند وصوله إلى الحدود أوقفه رجال قوى الأمن وموظفو شركة التبغ والتنباك وسألوه قائلين: شو فيها ها الشنطة يا بونا؟ أجاب بكل بساطة: فيها دخان. فحسبوه يمزح. فقالوا: شو؟ أجابهم: صدقوني معي دخان. عندئذ ابتسموا وقالوا: طيب أكمل طريقك ولكن لا تمزح معنا مرة ثانية.

لا أعيد إلى جيبي ما خرج منه
       كان زاهداً في الدنيا وخيراتها لا يقدر للمال قيمة ولا يدخر لغده ما يصل من المال إلى يده. لذلك كان دائماً خالي الوفاض فارغ المحفظة يصرف ما تيسر له من المال بسرعة ولذة.
       وقد حدث مرة أنه كان في حي الأشرفية ببيروت عند أحد أنسبائه وأراد الإنتقال إلى ساحة الشهداء لتقلّه من هناك سيارة إلى قريته. ولما كان الجو ماطراً يومذاك أحب نسيبه أن يؤمن له سيارة توصله تواً إلى موقف سيارات قريته فيجنبه بذلك مشقة التنقل من مكان إلى مكان تحت الأمطار.
       وكان مع الخوري حنا ساعتذاك ماية وخمسون ليرة لبنانية قبضها من المطبعة الكاثوليكية ولم يتيسر له بعد صرفها أو إضاعتها. فخشية أن يفقدها أثناء تنقلاته وخلال دفعه أجرة السيارة حرص نسيبه على أن يستخرج من المبلغ الذي مع الخوري حنا ليرة ونصف وضعها في جيبه اليمنى كأجر السيارة التي ستقله إلى ساحة الشهداء ووضع الباقي في جيبه اليسرى فاصلاً بذلك بين ما يجب أن يدفعه للسيارة وما يجب أن يبقى معه تلافياً لكل خطأ أو سهو يتعرض له الخوري حنا.
       وأوقف نسيبه سيارة طلب من سائقها ايصال الخوري حنا إلى موقف سيارة قريته في ساحة الشهد لقاء ليرة ونصف. ولما وصل الخوري حنا إلى حيث يقصد أحب أن ينقد سائق السيارة الأجر المتفق عليه لكنما تعذر عليه أن يمد إلى جيبه اليمنى يده التي كان حاملاً بها حقيبه فمد يده اليسرى إلى جيبه اليسرى وأخرج منها قطعة نقدية كانت من فئة العشر ليرات وأعطاها السائق شاكراً. ولما أحب السائق أن يرد له الرصيد أجابه، إبقها معك. هي نصيبك أنا لا أعيد إلى جيبي ما خرج منه .

الله أشفق وأكرم
صورة للخوري حنا طنوس يوزّع الخبز على الفقراء في البترون عام 1916(جريدة الأنوار 26 حزيران 2004)
في صيف عام 1945 مرّت إمرأة فقيرة على بيت الخوري حنا تستعطي وكان آنذاك وحده على مدخل البيت فراح يفتش في محفظته ويقلب جيوبه فعثر على ليرة لبنانية هي كل ما كان لديه فأعطاها للفقيرة. وفيما كان ينقدها اياها قدمت إمرأة من إنسبائه ولامته على إسرافه. نظراً للعسر الذي كان فيه وقالت: كيف تعطي الفقيرة ليرة لبنانية وأنت أحوج منها إليها، أما كان بإمكانك أن تحسن إليها برغيف من الخبز أو قليل من الزيت والبرغل. أجابها: شفقت عليها. فقالت له: أما تشفق على نفسك؟ عندئذ تأثر الخوري حنا من كلام نسيبته وصاح مؤنباً: أصمتي يا امرأة. من لا يشفق على الفقراء لا يشفق الله عليه. ألا تعرفين أنه سبحانه وتعالى أشفق وأكرم.
       وفي صباح اليوم التالي شوهد الخوري حنا مهرولاً إلى بيت نسيبته مهللاً صائحاً، أما قلت لك أن الله أشفق وأرحم. هذه حوالة مصرفية بمبلغ اثنين وعشرين دولاراً وردتني الساعة من أميركا كحسنة قداديس.

تواضعه
وعن قوة ذكائه وسعة إطلاعه، وشامل ثقافته وعمقها، كان متواضعاً، وديعاً، لا يشعر جليسه الذي لا يعرفه بأن الذي أمامه على شيء من العلم أو الثقافة لأن منظره وشكله الخارجي وإهماله ثيابه ما كانت تدلّ على أن الخوري حنا يعرف الكتابة والقراءة، قبل أن يتكلم.
       وحدث له مرة أنه كان في نادي الشبيبة الكاثوليكية جالساً على كرسي ينتظر إبن أخيه الأب يوسف فارس الذي كان وقتذاك مديراً للنادي المذكور. وشاء أن يتسلى ريثما يأتي الأب فارس فتناول الصحيفة الفرنسية "لوجور" وشرع يقرأ فيها وقد أدناها كثيراً إلى عينيه لأنه كان في شيخوحته شحيح البصر. ومرّ بقربه شابان من تلامذة جامعة القديس يوسف لا يعرفان الخوري حنا إلا أدبيّاً. ولما شاهداه يطالع في صحيفة فرنسية هزئا به وأخذا يضحكان ويتندران عليه ويتحادثان باللغة الفرنسية عنه وهو جالس قربهما. وشرعا يتبادلان النكت بشأنه بهزء وسخرية وهو صامت لا يلتفت إليهما كأنه يجهل الفرنسية ولا يفهم ما يدور بينهما من حديث.
       ثم أحب الشابان أن يحتكا به ويداعباه فقال له أحدهما بالعربية: ماذا تقرأ يا محترم؟ أجابه الخوري حنا: هذا الجرنال. وسأله الثاني: هل تحسن قراءة اللغة الفرنسية؟ أجابه: قليلاً. فسأله الأول: وهل تفهم ما تقرأ؟ فرد عليهما بالفرنسية متعمداً إساءة اللفظ كي يبقى الشابان على وهمهما فلا يخجلا إذا أدركا أنه يتقن الفرنسية وأنه فهم ما دار بينهما من حديث. اجاب: "أن بي" (IN PÉ) أي قليلاً.
       وفيما هم في الحديث إذا الأب فارس يقبل ويسرع إلى الخوري حنا مؤهلاً مرحباً مرحباً. ويلتفت إلى الشابين اللذين كانا من تلاميذه في صف البيان قائلاً، هل تعرفان هذا المحترم؟ أنه الخوري حنا طنوس بشحمه ولحمه الذي كثيراً ما حدثتكم عنه وحفظتم روائعه الشعرية ومثلتم مسرحياته الشهيرة.
       وكم كان خجل الشابين كبيراً عندما أدركا أن هذا الكاهن الذي سخرا منه وهزئا به ظنّاً منهما أنه يجهل الفرنسية ولا يفهم ما يدور بينهما من حديث بشأنه، كان العلّامة الكبير والشاعر الموهوب الذي يجيد الفرنسية أحسن منهما. فاحمرّ وجههما خجلاً وتواريا مسرعين.

مقدرته على الترجمة
       نعم هذا العلامة الذي تجاهل اللغة الفرنسية كي لا يجرح كرامة الشابين عندما يدركان أنه فهم ما دار بينهما من حديث كان يجيد الفرنسية أحسن من أبنائها. وكان له مقدرة فائقة الحد في ترجمتها وتعريب روائعها نثراً وشعراً وبأمانة مدهشة.
       وعن مقدرته في نقل روائع الأدب الفرنسي إلى اللغة العربية يتحدث عارفوه الأخبار المدهشة. وقد روى الأستاذ جوزف خياط النادرة التالية:
       كنت أدرس عام 1927 الأدب الفرنسي في معهد ميفوق في قضاء جبيل. وفي أحد الأيام، والكلام للأستاذ خياط، أتيت بقصيدة لـ "الفرد دي موسه" انشدها بإعجاب وهوس. فقال الأب الرئيس أن الخوري حنا ينظم إرتجالاً ما هو أفضل منها. وكان بيني وبين الأب الرئيس شرط ورهان. فالقصيدة الفرنسية "الران الألماني" Le rhin Alemand، وهي رائعة جداً لا يمكن تعريبها بالسهولة التي يتوقها الأب الرئيس. فاستدعى الخوري حنا وسأله نقلها إلى العربية شعرا. فتهرب الخوري حنا كعادته متذرعاً بضيق الوقت وبعدم استعداده لذلك، ولما أصر عليه الأب الرئيس وألحّ، تنحنح الخوري حنا وقال: اسمعنا إياها يا أستاذ. فأنشدتها. وإذا الخوري حنا يترجمها شعراً إرتجالاً وفوراً وأمام جمهور من الرهبان وأساتذة المعهد بينهم مدير المعهد الأب بطرس الخوري، ووكيل عام الرهبنة البلدية الأب مرتينوس طربيه الذي أصبح فيما بعد رئيساً عاماً للرهبنة المذكورة والأب جرجس المعادي رئيس المعهد والأب مخايل خليفة رئيس الدير.
       والقصيدة يجيب بها الشاعر الفرنسي "الفرد دي موسه" على أغنية للشاعر الألماني "بودر" يقول فيها للفرنسيين "لن تروا نهرنا الران الألماني". عندما استولى الفرنسيون على نهر "الرين" نظم "موسه" هذه القصيدة التي أثبتها في ما يلي:
        Nous l’avons eu, votre rhin allemand
        Il a tenu dans notre verre
        Un couplet qu’on s’en va chantant
        Efface-t-il la trace altière
        Des pieds de nos chevaux marqués dans votre sang ?

        Nous l’avons eu votre Rhin allemand
        Son sein porte une plaie ouverte
        Du jour où Condé triomphant
        A déchiré sa robe verte
        Où le père a passé, passera bien l’enfant

        Nous l’avons eu, votre Rhin allemand
        Si vous oubliez votre histoire
        Vos jeunes filles, sûrement
        Ont mieux gardé notre mémoire
        Elles nous ont versé votre petit vin blanc.

        S’il est à vous votre Rhin allemand
        Lavez-y votre livrée
        Mais parlez-en moins fièrement
        Combien, au jour de la curée
        Etiez-vous de corbeaux contre l’aigle expirant ?

        Qu’il coule en paix, votre Rhin allemand
        Que vos Cathédrales gothiques
        S’y reflètent modestement
        Mais craignez que vos airs bachiques
        Ne réveillent les morts de leur repos sanglant.

       وكنت، يقول الأستاذ خياط، كلما انتهيت من إنشاد مقطع، يقوم الخوري حنا فوراً بارتجال تعريبه شعراً حتى عرَّب كامل القصيدة بسرعة لا يصدقها غير من كان حاضراً ذلك الاجتماع.
       أما القصيدة كما عرّبها الخوري حنا فأثبتها في ما يلي تأكيداً لدقة الترجمة وإجادة التعبير:
       نلناه حقاً ذلك النهرا                           وغداً بمحجمنا لكم نذراً
       انشيد شعر منشد هوسا                 يمحو سنابك خيلنا الحمرا
       وعلى السنابك من دمائكم               اثر يزر علاءنا فخراً
أحرى بكم أن تسكتوا أحرى        

       نلناه حقا ذلك النهرا                           اذ حاز كوندى القائد النصرا
       اذا شق بردا أخضر علنا               في الصدر جرحاً دامياً أجرى
       هلّا يمرّ الابن منتصرا                 وأبوه حقا قبله مرّا ؟
                            أحرى بكم أن تسكتوا أحرى        

       نلناه حقا ذلك النهرا                           في عهد قيصرنا القوى قدرا
       جرمان ما صنعت بسالتكم             اذ رام قيصرنا لكم قهرا
       غطى السهول بظل هيبته               اشلاؤكم أنت بها أدرى
       أين ارتمت اشلاء اخركم               أحرى بكم أن تسكتوا أحرى

       نلناه حقا ذلك النهرا                           والأمر فينا لم يعد سرا
       فإذا نسيتم ذكر والدكم                  فبناتكم قد تحفظ الذكرا
       صبت لنا من خمركم فغدا              من ابيض في الكأس مصفرا
       إن كان نهركم عجا لكم                 والنسر منسى ينهش الصخرا
       فليجر نهركم على مهل                 ولتنعكس أراجه الكبرى
       بماهه من دون غطرسة                وحذار الحانا حوت سكرى     
       فلقد تنبه من مراقدهم                   موتى استراحوا فاحذروا الشرا
                           أحرى بكم أن تسكتوا أحرى        

تعريبه ارتجالا قصيده لافونتين، الحيوانات المصابة بالطاعون
       روى أحد تلامذته في بانياس الأستاذ أنور إمام قال:
       سنة 1931- 1932 كان الخوري حنا يدرّسنا الأدب العباسي وكنا نعالج المواضيع التي يقترحها علينا ليعود فيصلحها. وعندما يجد أنه طال وأجاد في موضوعه كان يهش وتنبسط أسارير وجهه وتومض الفرحة في عينيه. وفي إحدى المرات اقترح علينا تعريب قصيدة الشاعر الفرنسي "لافونتين" التي عنوانها "الحيوانات المصابة بالطاعون". فترجمتها أنا شعراً لأني كنت قد بدأت أعالج الشعر بيني وبين نفسي متأثراً بالجو الذي يحيط بي، فانا بين رئيسين روحيين والدي واستاذي وكلاهما شاعر وأديب. ولما جثته بالترجمة التفت إلى رفاقي الطلاب وقال: هذا أنور قد ترجم القصيدة شعراً. وسأحاول أنا ترجمتها شعراً وأنتم الحكم فكونوا حكماً غير متحيز لزميل، يقصد رفيقهم أنور إمام، أو متعصب لرفيق، يقصد نفسه لأنه كان دائماً يعتبر نفسه رفيقاً لطلابه. ومضى يترجم القصيدة فبدأ بالمطلع وهو لي:
       داء يثير الرعب في الأحشاء                  داء براه تغيظ العلياء
                           حتى تقاصص حوية الغبراء
       فاعرضت قائلاً، هذا المطلع إنما هو لي يا أبانا. فأجاب، "لا بأس" إنه جيد واستعيره منك" ومضى يعرب باقي القصيدة شعراً وارتجالاً وكأنه يقرأ في كتاب حتى أتمّها.
والقصيدة التي ماتت في صدره دون أن يتنبّه أحد لكتابتها.
       وإذا كان الحديث يجر الحديث فانى اعتبرني أخللت بواجبي إذ لم أقص نادرة ثانية رغبة في إعطاء فكرة واضحة وافية عن غنى شخصية الخوري حنا الأدبية.
       بعد أن وقع عن سلم المطبعة الكاثوليكية عام 1946 وهو عائد منها بعد تسليمه إياها قسما من تعريب رواية "دون كيشوت" أدخل مستشفى "اوتيل ديو" في بيروت ولم يخرج منه إلا جثة هامدة بعد أربعة أيام من الحادث.
عدته في المستشفى قبل عشية يوم وفاته فقال لي، وهو يتقلب على فراش الآلام: هل يمكنك أن تأتيني بقصيدة "تناغم المساء" Harmonie Du Soir. فقلت له: لماذا؟ أجاب: أحب أن أعرّب هذه القصيدة شعراً لتكون خاتمة ما أنتجت. إنى أشعر في مساء حياتي بدنو أجلى وأشعر بطمأنينة ونشوة حبيبة تغمرني وتذكرني بقصيدة "بودلير" فتّش عنها وستجدها في مجموعة "زهور الشر" Les Fleurs du Mal ، أنا لا أزال أذكر منها المقطعين الأولين إنما أحب أن أعيد قراءتها لأستوعبها كلها قبل مباشرة التعريب. وأنشدني الخوري حنا المقطعين الأولين وهو في الثمانين من العمر أما القصيدة التي هي من أروع شعر الأدب الفرنسي فأثبتها في ما يلي:
Voici venir les temps où vibrant sur sa tige
Chaque fleur s’évapore ainsi qu’un encensoir
Les sons et les parfums tournent dans l’air du soir
Valse mélancolique et langoureux vertige

Chaque fleur s’évapore ainsi qu’un encensoir
Le violon frémit comme un cœur qu’on afflige
Valse mélancolique et langoureux vertige
Le ciel est triste et beau comme un grand reposoir

Le violon frémit comme un cœur qu’on afflige
Un cœur tendre, qui hait le néant vaste et noir !
Le ciel est triste et beau comme un grand reposoir ;
Le ciel s’est noyé dans son sang qui se fige.

Un cœur tendre, qui hait le néant vaste et noir,
Du passé lumineux recueille tout vestige
Le soleil s’est noyé dans son sang qui se fige …
Ton souvenir en moi luit comme un ostensoir.

       أن يتذكر الخوري حنا طنوس وهو في الثمانين من عمره الشاعر الفرنسي "بودلير" لدليل على أصالة في الأدب، وأن يتذكر أن لهذا الشاعر قصيدة "تناغم المساء" لبرهان قاطع على شمول إطلاعه. وأن يتذكر أن هذه القصيدة هي في مجموعة "زهور الشرّ" وأن ينشد منها مقطعين، كل ذلك دليل على أصالته في الأدب وعلى قوّة حافظته وشخصيته الأدبية الفذّة.
       ودّعته على أن أعود إليه في اليوم التالي ولكن ما كاد يطل صباح ذلك النهار حتى بلغنا أنه فارق الحياة وانتقل إلى العالم الثاني.
نعم مات الخوري حنا وفي قلبه الكبير أمنية، وفي دماغه الذي لم يهرم ولم يشخ، رائعة شعرية دفنت معه.

"لم أستفد من كل تآليفي إلا التصفيق"
هذا ما كان يقوله الخوري حنا طنوس بغصة ومرارة. ولكن التصفيق لا يطعم خبزاً ولا يشبع جائعاً ولا يروى ظمآن ولا يكسو عريان. وظل الخوري يوحنا يجدّ ويكدّ طوال حياته، وحتى في الثمانين من عمره كان منكباً على رواية "دون كيشوت" ينقلها إلى العربية كسباً لكفافه. أما تأليفه ومسرحياته فكثيراً ما كان يغير عليها طفيليو الأدب فيكتبون منها الفصول الكاملة ويمثلونها دون معرفته أو استئذانه أو ينتحلون منها ما يروق لهم منها وينسبونها لأنفسهم دون ان يردعهم رادع أو يعصمهم عن ذلك عاصم.
       يقول اميل أبي نادر: حدث عام 1947 أن أقدم شخصان على تقديم مشهد بواسطة الإذاعة اللبنانية، اقتطف من تمثيلية "البطل المجهول" دون ذكر مؤلفها الخوري يوحنا طنوس، كأنما آثار علامتنا مال سائب، أو كرم على درب يسطو عليه من يشاء. وهذا التصرف الشاذ حثّنا على توجيه كلمة بهذا الصدد على صفحات جريدة "البيرق" نبيّنها في ما يلي:
       "قدّمَت الإذاعة اللبنانية، مشهداً تمثيلياً "الوطن أولاً" دون أن تذكر إسم مؤلفه. فلمن هو يا ترى؟ أوجد هذا المشهد التمثيلي على قارعة الطريق؟ أم أن مؤلفه مجهول تستحي الإذاعة من ذكر اسمه"؟ وهل أن السيدين اللذين دفعتهما غيرتهما إلى تمثيله أشهر منه ليعرف عنهما؟
       أسئلة لم نكن نوجهها إلى الإذاعة اللبنانية لولا ما في عملها من شذوذ وطعن في الحقوق والكرامة.
       ليس مؤلف الرواية مجهولاً أو نكرة. ونحن على إدراكنا العادي نعرف أن الرواية تنسب إلى مؤلفها أولاً ثم إلى ممثلها.
       ومؤلف الرواية الذي استحت الإذاعة من ذكر اسمه هو العلامة الخوري يوحنا طنوس. ولئن مات السنة الماضية، فإنما هو خالد في آثاره ومنتجات خياله، ومولدات عقله، وإنه حيّ في كل قلب ويختلج في حنايا كل من عرفوه.
       وإن جهلت الإذاعة اللبنانية من هو أو تجاهلته، وإن عميت عن الحقيقة أو تعامت عنها، فهذا لا ينفي أن الخوري حنا طنوس هو عميد الفن المسرحي في لبنان ومؤلف زهاء أربعين مسرحية. هو صاحب "العمران"، والبطل المجهول، والأعمى البصير، والبطل الأخرس، وشهداء نجران، والنعمان الخامس، وداحس وغبراء، ويوسف بك كرم، وأمير الأرز، والعقل اللبناني والدهاء العثماني...
       هو المؤرخ والشاعر واللاهوتي والمعلم الذي وقف اصغريه أربعين سنة على خدمة أمته، وتثقيف رجالها وبينهم العديد من عظماء اليوم وأبرز رجالات الوطن.
       ليس الخوري يوحنا طنوس مجهولاً فاذكروه، وليس نكرة، فلا تستحوا من نسبة روائعه إليه وقليلاً من الذوق يا سادة...
       عاش الخوري يوحنا ومات، كما يعيش ويموت كل أديب اصيل. إن الذين يحصرون إنسانيتهم في كيسهم أو بطنهم ظانين ان الحياة أكل وشرب ونوم وتناسل يعيشون بهناء ورخاء أما الذين يعتبرون الإنسان قلباً وعقلاً وروحاً، والحياة رسالة، فهؤلاء شرقيين كانوا أم غربيين، أشقياء حيثما وجدوا وتعساء تحت أية سماء خلقوا ولأيّ شعب كتبوا.
       فأبو الطيب المتنبى الذي كان يجيزه سيف الدولة مئات الدنانير لقاء قصائده كان أول من نعى القلم يوم قال:
       أف لعيش الكتبه                        أف له ما أصعبه
       تبّاً لعيش يرتجى                        من شق تلك القصبه

       والياس فياض نعى جميع الأدباء في رثائه طانيوس عبده إذ قال:
       لا تبكه فاليوم بدء حياته                ان الأديب حياته بمماته

       اما شوقي فلولا تعيينه في ديوان الخديوي لكان مات جوعاً، وحافظ ابرهيم لولا توظيفه في دار الكتب الكبرى لكان قضى حياته في ضيق. وابرهم البازجي، وإمام العبد إمام المفلسين، وولي الدين يكن، وعبد الله البستاني، وأديب اسحاق، ونجيب حداد، واسكندر العازار، وطانيوس عبده، والياس فياض، وامين الريحاني، والياس ابو شبكه، وجبران خليل جبران "المثقلة نفسه باثمارها وما من جائع يقطف ويأكل"... ووديع عقل الذي شكا حاله في هذه الأبيات:
أكد لي سيف الدولة اليوم مالكاً         تجدني في النادي أيا الطيب ثاني
وهات دنانير الرشيد وخذ من          القوافي عقوداً من عقيق ومرجان
كِليني لهمّي يا ثريا فإنني                      أرى الشعر من بلواي في أرض لبنان
ولا تطلبي ديوان شعري فإنه           بقية ما يبقي لك الزمن الجاني
لعلك يوماً بعد موتي ترينه              ينيلك من شاريه قيمة أكفاني

       وفي قصيدة أخرى يقول:
يرى لي الناس شعراً غالياً             وإذا عرضته لا أرى للشعر من شار
قد طيب الله أنفاس لأنفحهم             بها، وما نفحوا كفّي بدينار
أنا هو العود والعواد، أطرب           سماعي بأيلام أضلاعي وأوتاري

       وجميل صدقي الزهاوي، ومعروف الرصافي الذي مات وهو لا يملك سوى الثياب التي يلبس والفراش الذي ينام عليه، وسلسلة من أصحاب الأقلام العربية التي لم تبعد عن أصحابها الآلام ولم تقص عنهم شبح الفاقة والعوز.
      
أما أعضاء الرابطة القلمية في الولايات المتحدة الأميركية وهم رشيد أيوب، وندره حداد، ووليم كاتسفليس ووديع باحوط، والياس عطا الله، ونسيب عريضه ومخايل نعيمه وايليا أبو ماضي وجبران خليل جبران وعبد المسيح حداد فما درت عليهم أقلامهم كفافهم اليومي.
       فرشيد أيوب اضطر إلى الدعوة لاكتتاب يمكنه من طبع ديوانه "أغاني الدرويش"، أما نسيب عريضه فبقى أكثر من عشرين سنة ينتظر الفرصة التي تسمح له بطبع ديوانه "الأرواح الخائبة"، ولولا غيرة نفر من أصدقائه لبقي الديوان أوراقاً يرعاها العث، وقد لفظ شاعرنا أنفاسه والديوان ما يزال قيد الطبع.
       ويروي مخايل نعيمة في كتابه "سبعون" أن أعضاء الرابطة القلمية لم يكن بينهم واحد يملك من المال ما يفيض عن حاجته من يوم ليوم أو من شهر لشهر، وأن بعضهم ما كان يملك أجرة الترامواي. وبرهاناً على ما كان بينهم وبين الدولار من جفاء، يروي نعيمه أن جبران خليل جبران يوم أعلنت هدنة الحرب الكونية الأولى اجتمع برفاقه أعضاء الرابطة القلمية ليفرح معهم بانتهاء الحرب ويشربوا معاً كأساً من الويسكي. لكن الجيوب كانت فارغة ففتقت لجبران حيلة وأخذ لوحة من "الكرتون" ورسم عليها فتاة تحمل علماً فضفاضاً خط عليه هذا البيت
       على انقضاض ماضينا                 سنبني مجد آتينا
       وعرض جبران الصورة بالمزاد لعلها تأتي بما يبرد عطشه وعطش رفاقه فإذا بين الحضور شاب حمصي يستلذ بمجالسة أهل الأدب، يبتاع الصورة بقنينة من الويسكي. وكان تصفيق وكان فرح كبير.
       ويروي كذلك مخايل نعيمه عن رشيد أيوب أنه كان مرافقاً ذات صباح صديقاً له يتعاطى التجارة. وبلغا باب المخزن فإذا على العتبة شيء ما أن راه التاجر حتى أدار وجهه عنه وسدّ أنفه وأخذه غثيان شديد. فأدرك رشيد أيوب أن ذلك الشيء لم يكن غير براز قطة. ولما كان يعرف مقدار تقزز صديقه من تلك القذارة استغرق في الضحك وقال: ماذا يكون لي منك إذا أنا أرحتك من هذه القذارة ؟ فأجابه رفيقه: غداء شهيّ مع ويسكي. وأزال رشيد القذارة. فأكل غداء طيبا وشرب من الويسكي على قدر ما شاء قائلاً لصاحبه: هذا باب رزق لم يكن ليخطر لي في بال. سبحان مقسم الأرزاق.
       وبعد فهل الأدب العربي وحده لا يطعم خبزاً ؟
       كلا، فالأدب الحقيقي لا يطعم خبزاً في بلد من بلدان الله ولا يقل أدباء الغرب تعاسة عن أدباء الشرق. وإذا كان هناك طائفة من الكتاب أمثال برناردشو، وكرنان دويل، ومكسيم غوركي، وتولستوي، قد جنوا من نفثات أقلامهم الأموال الطائلة، فهناك سلسلة غير معدودة الحلقات من العباقرة العالميين الذين عاشوا فقراء وماتوا تعساء.
إن الشاعر المسرحي "كورناي" لو لم ينعم عليه لويس الرابع عشر ببعض المال من وقت إلى آخر لكان مات جوعاً. ويروي عنه أنه كان يملك حذاءاً واحداً رأى فيه ثقباً فذهب إلى إسكافي وخلعه طالباً ترقيعه ووقف في الطريق ينتظر أن ينتهي الاسكافيّ من إصلاحه، والناس ينظرون إلى كورناي واقفاً على قدم ورافعاً الأخرى في الهواء.
       والروائي الشهير "هونورى دي بلزاك" رأته مرة إبنة جاره مرتدياً ثوباً ممزقاً فراح يعتذر لها ويختلق الحجج فقالت له الفتاة، عندما أطالع يا سيدي كتاباً من كتبك أتظن اني أفحص غلافه أو اقرأ محتوياته ؟
       و"بول فرلين" كان غارقاً في الديون، دائم الإفلاس، دعى مرة إلى مائدة فسر كثيراً ولكن ثوبه كان مرهوناً فطاف في جيرانه يستدين منهم ما يستفك به ثوبه. ويقال أنه أكل بشراهة لأنها المرة التي يتناول فيها الطعام بلا حساب ويأكل ما يريد.
       أما "لامارتين" فكان ينتقل من الغنى إلى الفقر بسرعة عجيبة. ويروى أنه جاءه مرة رجل يطلب منه مساعدة فقلب لامارتين جيوبه وفتش في مكتبه ولما لم يجد فلساً واحداً يعطيه الرجل بكى...
       و"الكسندر دوماً" الأب، كان فقيراً، و"ريشار فاغنير" الموسيقي الألماني كان غارقاً في الديون حتى أذنيه.
       والمصور الهولندي "فانست فان غوغ"، تروى مجلة المختار أنه لم يمشِ وراء نعشه يوم مات الا سبعة رجال وقد بلغ الذين زاروا متحفه في نيويورك ليروا رسومه مليونا ونصف مليون شخص. ولم يتجاوز ما كسبه في عمله طوال حياته كفنان، ماية وتسعة وعشرين ريالاً، وبعد موته بيعت صورة واحدة بمئات الدولارات ويقدر مجموع ما بلغه ثمن صوره بعشرة ملايين دولار.
       و"فرنسيس بيكن" الفيلسوف الإنكليزي واضع أساس التجربة ومثال القضاة الذي قيل عنه أنه أعظم وأحكم وأعدل وأحسن إنسان بين البشر، سيق مرة إلى السجن وفاء لدين عجز عن وفائه.
       و"سبينوزا" الفيلسوف الهولندي الشهير، اضطر إلى تعليم الأطفال وصقل العدسات الزجاجية كسبا لقوته. ويروى أن شخصية كبيرة زارته في أحد الأيام ولما رأته في ثوب قذر امتعضت منه ووهبته رداءاً جديداً. فاعتذر "سبينوزا" عن قبول الهدية قائلاً: ان الرجل لا يسمو به رداء جميل.
       و"عمانوئيل كانت" الذي قيل عنه أنه كاتب المانيا الوحيد، وان الرجل يظل طفلاً حتى يفهمه، عاش حياة فقر وتعاسة.
       و"هربرت سبنسر" اضطر إلى الشغل كرسام للخطوط الحديدية وإلى التحرير في جريدة "الايكونومست" كسبا لقوته اليومي.
       إذا ساقني الموضوع لهذا الاستطراد والتحدث عن هؤلاء العباقرة البائسين فلكي أبرهن أن الخوري حنا طنوس الذي عاش فقيراً ومات لا يملك ثمن الكفن وكان نصيبه من دنياه نصيب أمثاله في النبوغ والعبقرية. عاش ليتألم ويشقى وبينما الناس تلهو في جمع المادة فوق المادة وتكديس المال فوق المال، كان، كأمثاله من الأدباء الأصيلين، في غمرة من الفقر ونشوة من اللاوعي سكران يستقطر الحرمان عبقرية وروائع ويضفر من شقائه على رأسه أكاليل من الخلود لا تذبل.
       هذا كان حظه من دنياه، حظ من يعيش في عالم الروح والعقل والخيال في عالم المادة. إنه كطير "الالباتروس" في قصيدة الشاعر الفرنسي "بودلير"[5][11] خلق ليحلق في الأجواء والأعالي لا ليحط على الأرض لأن جانحيه الكبيرين يمنعانه من الوقوف على اليابسة.
       لم يطبع من آثاره سوى النعمان الخامس والبطريرك حجولا وأمير الأرز والبطل المجهول ويوسف بك كرم وطبعت في الشوف سنة 1970... وكان قد باشر قبل وفاته بشهر يتصل بدور النشر وبوزارة التربية الوطنية يعرض عليها مشروع كبيع مسرحياته ودهمه الموت قبل أن يتحقق مشروعه. وكأنما عدم تحقيق هذا المشروع قد خلق في قلبه غصة فظل المرحوم الخوري يوحنا طنوس يعودني طيفه في الحلم فيذكرني بملاحقة هذه القضية والسعي لدى المسؤولين لحملهم على طبع مؤلفاته.

حلم الخوري حنا طنوس
كتب إميل أبي نادر في 2/1/1947: في ليلة أول كانون الثاني 1947 عادني الخوري حنا في الحلم وسألني مهمة بسطتها في كتاب وجهته بتاريخ الثاني من كانون الثاني 1947 إلى فخامة رئيس الجمهورية وهذا  نصه:
       يا صاحب الفخامة،
       لم يولني الحظ شرف مقابلة فخامتكم، فاستنبت القلم عن اللسان راجياً من فخامتكم أن تعيروني من وقتكم خمس دقائق فقط.
       إن الخوري يوحنا طنوس، يا صاحب الفخامة، وأنتم بغنى عن أن أعرفه إليكم، هذا الرجل المثل، واللبناني اللبناني الذي قضى حياته كل حياته يهذب أمة انجبت فخامتكم، ويوجه جيلاً أنتم اليوم قائده، مات السنة الماضية بعد حياة ملأى بالكد والتضحيات. وكنت أعوده في أيامه الأخيرة واذكر أنه يستعذب التحدث عنكم وقد أخبرني في ساعاته الأخيرة عن فخامتكم عهد التلمذة القصص الجميلة والنوادر العذبة. ومما دفعني إلى كتابة هذه الأسطر هو هذا الحلم الذي قضّ مصجعي تلك الليلة وأقلق راحتي. فقد عادني الفقيد في المنام ليلة البارحة وكلفني أن أنقل لفخامتكم ما سأقصه عليكم.
       حلمت أنني نائم تموج بين أهدابي خيالات وصور وإذا بي أشعر في الحلم بيد تمتد إلى صدري وتهزني ثلاث مرات استيقظت على أثرها، في الحلم دائماً، مذعوراً قلقاً إذا أمامي الخوري يوحنا طنوس كما عرفته في شيخوخته مرتدياً ثوبه الأسود والبائخ، الا أنه أعمى.
       فجلس قربي على السرير وخاطبني بصوت أجش، وعلى محياه مسحة من الكآبة ما رأيتها قط على وجهه حتى في أشد ساعاته واقساها. قال: "جئت إليك لتذهب إلى بشارة فخامة رئيس الجمهورية، تلميذي الحبيب وتذكره بأستاذه العجوز. أنا شيخ أعمى لا أستطيع الوصول إليه. قل له أن لبنان الذي أحببته من كل قلبي، لبنان الذي عشقته ضاق بي ولم يقابل الحب بالحب.
       قال هذا وهو ينهش تعباً، ورأيت العرق يتصبب من جبينه. فمد يده ومسحه ثم وقف واستطرد: "والأستاذ حيمري لا تنس أن تقول له أني منتظر جوابه. قد وعدني بطبع رواياتي وحتى الآن لم يبر بوعده. قل له: أني "زعلان". أمِنَ العدل ألا أستفيد منها لا في شبابي ولا في شيخوختي وعجزي. وهذه الروايات هي أعز ما أملك وهي ثمرة جهودي ومولدات قلبي وخيالي وعقلي. أنت قل له: أني "زعلان".
       وتفتحت أسارير وجهه ثم أردف، "انا أعرفه وأعرف قلبه فإذا علم بزعلي يدبر المسألة وقد عودني على فضله.
       وانحنى عليّ مودعا فطوق عنقى قائلاً: "أنا متكل عليك فأنت عصا شيخوختي. وأطلب منك أن تنشر القصيدة التي نظمتها للشيخ بشارة بمناسبة تسلمه كرسي الرئاسة. لا تنسى لا تنسى.
       فقبلت يده وهممت بالوقوف لأرافقه وأنا بقشعريرة تهزني فاستيقظت، استيقظت فعلاً هذه المرة، ورأيتني وحدي في الغرفة، قابضاً على عمود السرير، وفي أذني بقية كلمات تتلوى، وشبه همس يتغلغل في مسمعي، وصدى نبرات تذوب.
       هذا يا فخامة الرئيس حلمي الذي رأيته، سردته عليكم لأنه قد أثر في كثيراً. وأحببت أن أنقل إليكم ما بثّني فقيدنا الكريم. وتلبية لرغبته سأنشر عاجلاً قصيدته في فخامتكم التي مطلعها:
       بشرى البشائر في أصقاع لبنان        دقت تنادي بأسعاد وأحسان
       هذا وأعذروني إذا أزعجتكم وثقوا يا فخامة الرئيس بصادق احترامي وفائق إخلاصي. فظل هذا الكتاب دون جواب ولا نتيجة.

وكتب اميل أبي نادر بتاريخ 23/8/1947:
وفي 23 آب عام 1947 اعدت محاولة السعي لطبع رواياته فوجهت كتاباً إلى وزير المعارف آنذاك الأستاذ حميد فرنجيه اقتطف منه ما يلي:
       إن النابغة اللبناني العلامة الخوري يوحنا طنوس توفي السنة الماضية وقد خلف من الروايات المسرحية ما يربى على الأربعين وهي كلها من خيرة الروايات من حيث المعنى والمبنى ومن حيث العاطفة اللبنانية الخالصة الصادقة. ولما كان يخشى أن تضعضع هذه الروايات فيفقد لبنان ثروة أدبية تذكر وتراثاً مسرحيا قيّما جئت بكتابي هذا أعرض على وزارة المعارف، وأنتم على رأسها من الذين يقدرون منتجات العقل ومولدات الخيال، أن تشتري هذه الروايات لطبعها أو لحفظها كمخطوطات.
       ففي هذه الأيام ووزارة المعارف تبذل جهداً تذكر فتشكر لرفع المستوى الثقافي فتعقد المؤتمرات وتبذل الألوف من الليرات في هذا السبيل، نلفت نظرها إلى هذه القضية ولنا أمل عظيم بأنكم يا معالي الوزير ستولون هذه الروايات اهتمامكم حرصاً عليها وعلى التراث اللبناني. وتحضرني في هذه المناسبة أبيات قالها المرحوم الخوري حنا طنوس فيكم:
سألوا النزاهة والنجابة والحجى        من نصطفيه البلاد عيدا
فأجابت العلياء هبوا وانتقوا            شهماً غدا بين الأنام فريدا
طافوا البلاد فصادفوا في اهدن         رجل الجهاد المستميت حميداً
وثقوا يا معالي الوزير، باخلاصي وتجردي واقبلوا فائق الإحترام. وبقي هذا الكتاب أيضاً دون جواب ولا نتيجة.
       وكتب إميل أبي نادر في جريدة العمل عدد 1258 بتاريخ 5/5/1950:
وعلى الرغم من شعوري بأني أصرخ في واد وأنفخ في رماد لم أيأس ولم تنثنِ عزيمتي عن ملاحقة المسؤولين لحسّهم على المساهمة في طبع روايات الخوري حنا طنوس وإحياء ذكره. وفي الخامس من أيار عام 1950 وجهت كتاباً مفتوحاً إلى وزير التربية الوطنية المير رئيف أبي اللمع نشر في صحيفة "العمل" في العدد رقم 1258 اقتطف منه ما يلي:
       سيدي الوزير
       في الساعة السادسة من مساء أول أمس الأربعاء مثلت في قاعة جامعة القديس يوسف للآباء اليسوعيين رواية "شهداء نجران" لمؤلفها العلامة الخوري حنا طنوس.
       رأيناك مترئساً الحفلة، وتفرسنا في ملامحك فقرأنا فيها إمارات الإعجاب والتأثر، وشهدناك تصفق، تصفق من كل قلبك، لمشاهدها الرائعة.
       ولكن الإعجاب يا سيدي الوزير، لا يكفي والتصفيق لا يجدى.
       رأيناك أمام الروكس تخطب في الطلاب، وسمعناك في المكتبة الوطنية تحدث عن مشاريعك التربوية والتثقيفية، وأصغينا إليك تلقى كلمتك في حفلة إحياء ذكرى المرحوم الخوري يوسف الحداد، فالفيناك في هذه المواقف وسواها، أديباً اديباً تغار على الأدب والأدباء وتود أن تساعدهم جهد المستطاع.
       فصاحب رواية "شهداء نجران" هو من أولى الناس باهتمامك ومساعدتك. مثلك من هو بغنى عن نقول له من هو الخوري حنا طنوس.
       هو أحد نوابغنا المجهولين، نذر حياته لتعليم النشء، وتثقيفه، فلم يبد من النشىء الذي علم ما يشير إلى أنه وفيّ له، حافظ ذكره.
       وأحبّ لبنانه حتى العبادة ولا أغالي وتغنى بجماله وروائعه في منظومه ومنثوره، فإذا لبنانه لا يكرمه ويتجاهله ويتناساه بعد مماته، في الوقت الذي يكرم ويمجد – عفوك يا قلم – اصحاب الأقلام المرضوضة، والمتطفلين على الأدب من قارعي الطبول وضاربي الصنوج وساكبي العطور.
       رجل فذ، خدم دينه ودنياه، وضحى وجاهد بتجرد وأي تجرد، وإخلاص لم يعرف حداً، فأدى رسالتيه على أكمل وجه.
       خمسين سنة قضى بين التدريس والتأليف، معلماً واعظاً خطيباً، فنفح لبنانه والمكتبة العربية بالرائع الرائع من القصائد والخالد من الروايات المسرحية.
       عرفته وشمسه تدلف للمغيب فتعرفت فيه إلى القلب الذي لم يشب والهمة التي لم تشخ.
       قال لي قبل وفاته بيومين وهو يتقلب على فراش الموت ويحمل على كاهليه وطء الثمانين، وفي صدره ثقل قلبه الكبير، "لم أستفد من كل حياتي إلا التصفيق".
       سيدي الوزير
       ماذا عملت وتعمل وزارة التربية الوطنية لتشجيع الأدب والأدباء ؟ إن تأليف الخوري حنا طنوس، ولا سيما مسرحياته منها، يأكلها العث، ويرعاها العفن. وكتابي هذا ليس الأول من نوعه – ولا الأخير إن شاء الله ودعت الحاجة – فقد سبق لي أن رفعت بتاريخ 2 كانون الثاني 1947 كتاباً بهذا الصدد إلى فخامة رئيس الجمهورية وبتاريخ 23 آب 1947 كتاباً آخر إلى وزير التربية الوطنية آنذاك الأستاذ حميد فرنجية وما زلت أنتظر النتائج.
       فهل لكم وأنتم على رأس وزارة التربية الوطنية أن تسعوا لمكافأة هذا العلامة ولو بعد مماته بطبعكم مسرحياته أو بعضها، وإطلاق اسمه على أحد شوارع العاصمة التي خدم بنيها وربى شبيبتها ؟
       فإن فعلتم أديتم له، وللنشء اللبناني، وللمكتبة العربية المفتقرة إلى مسرحيات خدمات تذكر فتشكر.
       وإلا فاعذرني، يا سيدي الوزير، على سذاجتي وحسن نيتي
       وهذا الكتاب أيضاً بقي دون جواب ولا نتيجة ففهمت عندئذ أني ساذج حسن النية، فاستيقظت من وهمي وعدت إلى رشدي وأدركت أن كل محاولاتي ستبوء بالفشل فتوقفت عن كل نشاط ومسعى في هذا السبيل.
       ليعذرني القارئ إذا استرسلت في هذه التفاصيل التي دفعني إلى بسطها رغبتي في إعطاء القارئ فكرة عما لحق الخوري حنا طنوس من إجحاف في حياته وبعد مماته. وإذا كان أطلق على نفسه لقب "حنا دون فلس ولا طرس" فإنه لا يستحق أن يلزمه أيضاً لقب "المُهْمَل أو المنسيّ في حياته وبعد مماته".




[1][7] - السيد خليل ديب
[2][8] - المحامي شكري ديب
[3][9] - السيد ضاهر ديب
[4][10] - المحامي شكري ديب (بانياس-سوريا)
[5][11] L’ALBATROS قصيدة

ليست هناك تعليقات: