2016/05/23

الخوري حنا طنوس في أدبه وشعره القسم الخامس الأب جورج صغبيني

الأب جورج صغبيني

الخوري حنا طنوس
في أدبه وشعره
                                                
لبنان 2014
 
هذا الكتاب:
جمعه الأب جورج عقل اليسوعي
طبعته على الكمبيوتر السيدة شارلوت صغبيني مسلّم
إهتم بطبعه على نفقته السيد جورج نون 
 
   
 


شاعرية الخوري يوحنا طنوس
       أتراه خطيباً، أم مؤلفاً مسرحياً؟
       لست أدري، فقد يكون الأول وقد يكون الثاني، وقد يكون الخوري الثلاثة معاً. في كل الأحوال وفي كل مكان. فالخوري يوحنا طنوس، في شخصياته المتعددة التي تلاحمت فيه، وتلاصقت، وتلاحقت فتكاملت، كانت شخصية الشاعر طاغية على كل سائر الشخصيات. كان شاعراً وهو يخطب، شاعراً في مختلف تصرفاته وحياته اليومية. وقد تميز إنتاجه الشعري بصبغة لبنانية فريدة. لقد تغلغلت في أحاسيسه ومشاعره تلك الروحانية اللبنانية حتى تملكته. فغدا شاعرنا نبضة في قلب لبنان، ودمعة في عينيه، وابتسامة على شفتيه.
       ولبنانه جنة تنساب فيها الأنهار على جداول من مرجان، لبنانه ينابيع وأزهار:
       لبنان يا جنة الفردوس لبنان            يا روضة بسناها الكون يزدان
       من رأوا أنه الفردوس ما غلطوا       كل البدائع فيه وهو بستان
       بستان حسن به الأنهار جارية         وماؤه الشهد والحصباء مرجان
       فيه الينابيع ما أحلى عزوبتها           فيها من الزهر أشكال وألوان
       وخمره قد غدا بين الورى مثلاً         وقول توراتنا للناس برهان
       ينمو الرجال أسوداً في عرائنه         وترشع البأس أبطال وشجعان
       إن قيل أي بلاد الله قد سبقت         في الحسن؟ قلنا على الإطلاق لبنان


الخوري حنا طنوس وأرزة لبنان
الأرزة لها في شعره النصيب الوافر، فهي غرسة الرب وتاج الجنة:
        أرزتي يا ما أحيلى أرزتي             غرسة الرب وتاج الجنة
       غابة في منحنى مكملنا                 طوق حسن زان جيد الجنة
       هذه الأرزة قد قدسها                   دم قوم سال للحرية
       هذه الأرزة قد كرسها                  شرف لبنان بسيف المردة
       تحتها كم مرّ فاز طامع                 حاني الرأس ذليل الجبهة
       يا شباب الأرز كونوا حولها            أسداّ تحمي عرين الملة
       وأرفعوا رأيتكم منصوبة                في ذرى المجد بأعلى قمة
       تهتف الأرزة في آذانكم                 عضدى أنتم وأنتم قوتي

       وشاعرنا أحب ارزته حباً دفعه إلى عبادتها بعد ربه، وتمنى أن يحاك كفنه من أوراقها وأن يدفن في ظلها كي تتغذى من رفاته:
       بعد ربى أرزتي معبودتي              أرزتي عزّي حياتي بهجتي
       فإذا روحي نأت عن بدني                     تحت ظل الأرز واروا جثتي
       ومن الأوراق حيكوا كفني              كي تسلى وحشتي في وحدتي
       فعسى من بعد موتي والفنا              من رفاتي تتغذى أرزتي

       ذلك لأن الخوري يوحنا طنوس يعتقد أنه يبقى حياً إذا دفن في ظلال الأرزة. فإن حملها بيده، وهو في الثمانين من العمر يستعيد شبابه، وإن مات ودفن في ظلها فسيبعثه نسيمها. وقد أبى إلا أن يوجه إلى الشباب اللبناني، وهو في عقده التاسع وقد الوت السنون عوده، هذه الوصية:
يهيب بكم أرز الخلود أنا لكم           لكم وحدكم من دون كل الأجانب
الا فاحفظوا عهدي نظير جدودكم      لتبعد عني كل وثبة واثب
الا واجمعوا حولي الشباب كتائباً              وصونوا ترابي الحر من كل غاضب
الا واجعلوا لبنان في الشرق جنة      تتوق لمرآها ملوك الأعارب
لتخفق في الشرق القصى بنودها       وتحنوا لعلياها ملوك المغارب
الا وليكن لبنان رب قلوبكم             ومرمى أمانيكم ... المذاهب
أيا أرزتي تفديك روحي من الأذى     وتفدى بنيك من مقيم وغائب
الا حمّلوني راية الأرز لحظة          تعيدوا بها عهد الشباب لشائب
وإن متّ يوما فادفنوني بظلها          يهنىء رمسي كل آت وذاهب
إن رفاتي تستلذّ نسيمها                 وأُبعث إن مرّ النسيم بجانبي

       الخوري حنا طنوس ولبنان
لبنان شاعرنا وطن أزلي سرمدي صانه الجدود وبذلوا في سبيله المهج والأرواح، وجعلوه باتحادهم وتعاضدهم معقلاً للحرية والكرامة، وملجأ لكل المضطَهَدين ولكل من قسا عليهم دهرهم أو جار. وهو لا يخاف عليه شرّا ما دام الأحفاد يقتفون خُطى الأجداد وما دام هناك إله يكلاه بعنايته ومخلصون يرعونه ويحافظون عليه.
أجدادنا جعلوا لبناننا جبلاً              حرا إليه يوافي كل فزعان
خطت على ارزه العالي دماؤهم       لبنان إرث لكم يا أهل لبنان
إن لم تصونوا ببذل الروح أرزكم      سمعتم لعن أجداث وأكفان
جدودنا ثمن إستقلالنا دفعوا             دماً ذكياً رفيع القدر والشأن
سيل الدما في ربى لبنان البسه         كالأرجوان لبوس الأحمر القاني
يا خائفين على لبنان في غده           تلك المخاوف من وسواس الشيطان
دعوا الوسواس بل كونوا على ثقة     رئيسكم في صميم القلب لبناني
يا أرز لبنان لا تخشى الردى أبداً      عليك تسهر في الحدثان عينان
عين الرئيس وعين الله تكلؤها         لدى الشدائد من كيد وعدوان

       ولكن من يدري؟ فقد تبذر في حقوله بذور الشر والفتنة. وقد تعصف ريح لتزعزع رواسيه. لكن شاعرنا لا يخاف عليه شراً ما دام الله وطد أركانه ورفع قممه حتى السحاب وما دام وراء لبنان أساد وشجعان:
أما تود كما قد كنت من قدم             أما اموت فدى والقلب جزلان
لقد رعاك إله العرش مرتفعاً           حتى السحاب فلا يعروك خذلان
إن رام خفضك أقوام فقل لهم           وراء لبنان أساد وشجعان

       أدرك الخوري يوحنا طنوس على أن هذا الإستقلال لن يبقى ويستمر إلا بوحدة بنيه جميع بنيه واتفاق طوائفه جميع طوائفه. وهذا الكاهن الورع الملفان في اللاهوت "علمن" الايمان و"انسن" الدين فتدين ولم يتذهب، وأدرك أن الدين الحقيقي ليس تمتمات على شفاه بقدر ما هو شعور في قلب وإحساس في ضمير ووجدان. فكان دائماً داعية إلى الإلفة والمحبة والتعاضد والتآخي لأن الأديان الحقيقية في رأيه، تجمع ولا تفرق:
أجدادنا باتحاد الرأي قد فتحوا          ممالك الأرض من قطب إلى قطب
وأنتم ما فعلتم في تفرقكم؟              هل أنزل الله ذا التفريق في الكتب؟
أوصى المسيح بحب الناس قاطبة      حتى نكون جميعاً أخوة لأب
وسن أحمد دستوراً لأمته               حتى توحد في مجموعها العصبى
إنجيلكم يا نصارى في كنائسكم         وفي الجوامع قرآن لمنتسب
والدين رابطة ما الدين تفرقة           دين يفرق مبنيّ على الكذب

       هذا هو لبنان كما اشتهى الخوري يوحنا طنوس أن يكون. هذا هو لبنان الذي أحبه وما انفك طوال حياته يخدمه باللسان والخيال وأغمض عينيه تموج بين جفنيه صور عنه وألوان. مات وهو يردد هذه الأبيات يخاطب بها وطنه.
لقد عشقتك يا لبنان في صغري        فزاد حبك في قلبي مع الزمن
فكنت عندي عزيزاً لا يعادله           أعز ما يقتني من فاخر الثمن
ولا أزال بنار الحب مستعراً           إني أحبك حتى داخل الكفن
وإن مت فاجلبوا من غربتي جسدي    ولوعظاماً تعرت من عرى البدن
وحركوها تناديكم بقعقة                 هيموا بلبنانكم في السر والعلن
       وإذا أحب الخوري يوحنا طنوس لبنان فلأنه وطن الحرية. ولعل أبرز مميزات شعره وخصائصه تلك النزعة إلى الحرية والإستقلال. ولقد كان في حياته متحرراً من كل القيود، من قيود المادة التي احتقرها، من قيود المال الذي رفسه برجله ولم يجمع منه في حياته ما يمكنه من شروى نقير، فعاش في عالم الروح والجمال زاهداً في الدنيا ومغرياتها، معتزلاً زخارف الحياة ومباهجها. وإذا كانت العزلة داء أو دواء أو غذاء، كما قال فيلسوف الفريكه أمين الريحاني، فقد كانت العزلة للخوري يوحنا طنوس الغذاء كل الغذاء. فهاكه يخاطب العصفور رمز الحرية:
       أعصفور السماء خلقت حراً            تحلق في الفضاء مدى السنينا
       فما أشهى الحياة إذا استقلت            وأشقاها إذا ما قيدونا
       وما أدنى الأنام وهم عبيد               وأعلانا إذا ما حرورنا
       برانا الله أحراراً جميعاً                 فيا قوم الطغاة ظلمتمونا
       برا الأسماك تسبح في بحار            وفي الأفلاك رهطاً سابحينا
       نجوماً ساطعات طالعات               على الدنيا يرحن ويغتدينا
       تطوف الشمس في الأفلاك دهراً       تحيينا صباحاً ما حيينا
       تغني الطير في الأسحار لحناً          بتغريد يلذ السامعينا
       فكل في السماء والأرض حسر         سوى الإنسان عبد السائدينا
       هذا الإنسان الذي يعيش حراً وينعم ببهجة الحرية، عليه أن يحرّر نفسه من شهواته على مختلف أشكالها وألوانها. فبقدر ما يتعلق المرء بالخيرات الترابية ويعشق دنياه تنحط إنسانيته ويسفل، وبقدر ما يترفع عن جاذبية المادة، ويسمو. وقد أوحى البدر للخوري يوحنا طنوس في هذا الموضوع قصيدة رائعة جمع فيها شاعرنا جمال الوصف إلى متانة السبك وجزالة اللفظ إلى سلاسة التعبير وروعة الصور والتشابيه.
       علام علام يا بدر الليالي               أبيت اليوم إن تبى العيونا
       فكم لك طلعة بين الدياجى              تنير العين تحيى الناظرينا
       فلولا النور تبعثه مضيئاً                لبات الليل مكتئباً حزيناً
       فما لك لا تضىء فدتك نفسي           تعزى القلب إذ تنئى الشجونا
       فهل وضعت لك الدنيا قيوداً؟           وهل شادت لك العليا شجوناً
       تمثل عمرنا في كل طور               فتكبر نامياً كالأصفرينا
       وتهرم ثم تفنى في محاق               كذاك المرء تفنيه السنونا
       كأنك عاشق إذ أنت بدر                وما أشقى حياة العاشقينا
       إذا غابت غزالته بغرب                بدا في الشرق مصفراً جبينا
       وبث باثر غادته عيونا                 نجوم الليل. ما أبهى العيونا
       وينفث من تلهفه زفيراً                  نسيماً أو أنيناً أو حنيناً
       وعند الوصل بعد الجد يمسى           هلال الشكل يوشك أن يبينا
       كذا الدنيا فراق وإلتقاء                  وهجر بعد وصل المغرمينا
       إذا عشق الفتى دنياه يشقى                    ويضعف نوره حيناً فحيناً
       ويسعد أن تناءى المرء عنها           ويعظم فضله في العالمينا

الخوري حنا المؤلف المسرحي
       كان الخوري يوحنا طنوس شاعراً وخطيبا ومؤرخاً وأديباً ولاهوتياً، لكن شهرته كمؤلف مسرحي طغت على ما عداها وجعلته أشهر رواد هذا الفن واشرقهم وجها حتى اعتبره بعض عارفيه رائداً للأدب المسرحي في الشرق العربي.
       لم يكن الخوري يوحنا طنوس السباق في التأليف المسرحي إنما كان أخصب من أنتج للمسرح العربي تمثيليات فيها من عناصر الأدب ومقوماته ما قد لا يتوفر في نتاج الكثيرين ممن سبقوه في هذا المضمار.


       نشاط الخوري حنا المسرحي
إن الخوري يوحنا طنوس خلق بما أنتج،  عدداّ ونوعاً، في المسرح من عناصر الأدب ما لم يتوفر في نتاج الكثيرين ممن سبقوه في هذا المضمار. ومن المؤسف حقاً ان الذين درسوا الآثار المسرحية أغفلوا إسم الخوري يوحنا طنوس. ولم يذكروا تآليفه أو أشاروا إليه ولو في تعداد أسماء المؤلفين المسرحيين. ولعل سبب هذا الإغفال عدم إطلاعهما على آثاره المسرحية التي لم يطبع منها إلا أربع تمثيليات من أصل ست وثلاثين.
فمن آثار الخوري يوحنا طنوس المسرحية هناك 36 تمثيلية أربع منها مطبوعة وما تبقى لا تزال مخطوطة.

المسرحيات المخطوطة
رجل الغابة السوداء، الفرد الكبير، أمير لبنان وكسرى، صبي الدهاليز، ملك الدياميس، الحلم الرائع والصحو الفاجع، الحارث، البطل الأخرس، الأعمى البصير، تخليص الوطن، العمران، حرب داحس وغبراء، غرسيا، يوسف بك كرم، المهلهل، العقل اللبناني والدهاء العثماني، عبد المنعم أمير جبيل، داود وشاول، يهوديت، قسطنطين الملك، طوبيا البار، يوسف الحُسْن، ابى شالوم، مار لويس، يوحنا فم الذهب، ليلى العفيفة، شهداء نجران، دانيال النبي، الدنانير الحمر، قايين وهابيل، جريمة وتكفير وغفران، وسيدة لبنان بالإشتراك مع بدوى أبي نادر.

المسرحيات المطبوعة
النعمان الخامس، البطريرك حجولا، أمير الأرز، البطل المجهول ويوسف بك كرم.
إن الخوري يوحنا طنوس بدأ ينتج أدباً مسرحياً منذ عام 1901، فكان له حتى عام 1927، ما لا يقل عن خمس وعشرين مسرحية أشهرها: ملك الدياميس (1901)، شهداء نجران (1903)، النعمان الخامس (1905)، البطل المجهول (1906)، غرسيا (1907)، العمران (1909)، داحس وغبراء (1911)، يوسف بك كرم (1913)، أمير لبنان وكسرى (1914)، العقل اللناني والدهاء العثماني (1919)، رجل الغابة السوداء (1921)، البطريرك حجولا (1923)، أمير الأرز (1927)... وظل ينتج حتى عام 1946 قبيل وفاته فكانت خاتمة نتاجه المسرحي "جريمة وتكفير وغفران".

طريقته في التأليف
كانت غاية الخوري يوحنا طنوس إظهار الفضائل، وتمجيد البطولات والنخوة والمروءة وسائر الشمائل الإنسانية. وكان يؤلف مسرحياته بسرعة مدهشة وقلما أنتج مسرحية إلا بناء على الحاح من طلبها منه وتحت الضغط. فكان يضع لمسرحيته تصميماً ثم يقول: "إن الرواية قد أعددتها وهي جاهزة". وعندما كان يُسأل أين هي، يشير إلى رأسه قائلاً: "هي هنا". ويستقدم إليه عدداً من تلامذته يوزع عليهم الأدوار ثم يملي عليهم الرواية. ويجمع تلامذته ما استكتبهم فإذا بين أيديهم مسرحية. أما الخوري يوحنا فلم يحتفظ بنسخة من كل مسرحياته ولم يكن لديه واحدة منها. لذلك ضاع العديد من آثاره وفقد. ولم يوجد لها أثر. وإذا كان لديه نسخة فكان يحتفظ بها حتى نهاية تمثيل المسرحية وبعد ذلك يرميها ولا يكترث لها مطلقاً. وهذا ما حدث لمسرحيته "عبد المنعم أمير جبيل" المفقودة.
أحد تلامذته عندما سئل عما إذا كان لديه نسخة عن مسرحية "عبد المنعم" روى القصة التالية، "إن هذه المسرحية أثر تمثيلها على مسرح القديس يوسف للآباء اليسوعيين صاح الخوري حنا بصوته الجهوري، نجحت، نجحت. ورفس النسخة التي بين يديه فتطايرت أوراقها في الفضاء وتبعثرت. فأسرع أحد تلامذته النجباء وقد كان أديباً وشاعراً وأصبح فيما بعد نائباً ووزيراً ودبلوماسياً، ومن مشاهير رجال لبنان السياسيين، فلملم هذه الأوراق المبعثرات وجمعها إلى بعضها بعضاً قائلاً : هذه قلادة في جيد الأدب". وهذه النسخة فقدها تلميذه المذكور بعد تنقله في السلك الخارجي طوال سنين عديدة بين عواصم الشرق والغرب.

أسلوبه المسرحي
إن مواهب الخوري حنا الشاعرية والخطابية وإطلاعه العميق على سيكولوجية النفس البشرية مكنته من التفنّن في الأسلوب والوثوب على حواس حاضري مسرحيته وقلوبهم ليستحوز عليها طورا بالترغيب والإرهاب وتارة بالتهويل والإعجاب. وتبقى الأنفاس حبيسة الصدور تتأرجح في يديه بين الرجاء والأمل والجزع والوجل، حائرة بائرة قلقة، حتى تحل العقدة فينبسط القلب وينشرح الصدر، فضلاً عما في المسرحية من تنوع التقلبات والمشاهد والمباغتات والمفاجآت. كل ذلك يجعل من مسرحياته أثراً أدبياً يستسيغه القراء كما يعجب به حاضرو إخراجه على المسرح.
ولطالما صفّقت مسارح بيروت في الربع الأول من القرن العشرين لأبطال الخوري يوحنا يمثلون، على حد تعبير الدكتور فؤاد أفرام البستاني، "مختلف المشاعر الإنسانية في الفواجع، والفواجع الشعبية، يستثيرون العواطف، وينقلون الجمهور، في فترة من الزمن، إلى مجال البطولة السامية حتى التفاني والتضحية والإستشهاد. فمن النعمان، إلى شهداء نجران، إلى البطريرك حجولا، إلى أمير الأرز، إلى البطل المجهول إلى يوسف بك كرم وسواها، سلسلة من المسرحيات تجعل لصاحبها المركز المرموق في تاريخ مسرحنا الناشئ، إذ يبدو على إضطلاع بفنه، وتصرف بلغته، فلا يفوته حس التاريخ ولا تصوير البيئة، ولا خصب الخيال ولا فيض الشعور، كما لا تفوته لهجة الخطابة، ولا سرعة الحوار، ولا أصول الصناعة المسرحية".
وهنا لا بد من أن نطرح على أنفسنا السؤال التالي، إلى أي مدرسة مسرحية ينتمي الخوري حنا طنوس وباي مذهب من المذاهب المسرحية تأثر في نتاجه المسرحي ؟
من الثابت الأكيد أن اليونان هم رواد الأدب التمثيلي الأول وهم الذين وضعوا أصوله وفنونه وسنوا قواعده وقوانينه. وقد نشأ في عبادة إله الخمر والكرم عند اليونان "ديونيزوس" وكان التمثيل عندهم، وهو يجمع بين الرقص والموسيقى والحوار والغناء، متعة لكافة الحواس الإنسانية. وأول مسرحية مأساة كانت لأبى المسرح "تسبيس" THESPIS قدمت في آتينا عام 534 قبل المسيح ثم تتابع بعده "أشيل" الذي آلف تسعين مأساة لم يصلنا منها إلا سبع، و"سوفوكل" الذي ألف ماية وعشرين مأساة لم يعثر منها إلا على سبع، و"اوربيد" الذي ألف ثماني وسبعين مأساة لم يبق منها إلا ثماني عشرة.
وأتت القرون الوسطى فأهملت التراث اليوناني والروماني القديم بعد إنتشار المسيحية في العالم الغربي. إلا أنها عادت بالمسرح إلى كنف الدين تستقى مواضيعه من حياة السيد المسيح ومأساة صلبه ومن حياة القديسين.
وكان لحركة البعث التي تبتدئ به النهضة الأوروبية الحديثة الفضل الكبير على الأدب التمثيلي فأعادت الإنسانية إلى الثقافة والأداب اليونانية والرومانية القديمة تنهل منها مواضيعها وتبعثها من جديد وإذا هذا البعث يتجلى في القرن السابع عشر في المسرح الكلاسيكي الفرنسي وفي ما انتجه أدباء المسرح أمثال كورناي، وراسين وموليار الذين تقيدوا تقيداً شديداً بالأصول التي حددها الفيلسوف اليوناني أرسطو والشاعر الروماني "هوراس".
فالفن التمثيلي هو محاكاة للحياة والمسرحية أمأساة كانت أم ملهاة يجب ألا تتناول حياة الشخصيات ولا فترات طويلة منها بل أزمة من الأزمات أو حادثاً من الأحداث التي تعرض للشخصيات في فترة محدودة من الزمن. "فما تكاد الستارة ترفع عن المسرحية الكلاسيكية إلا والأزمة قد تجمعت عناصرها وتحددت أوضاعها ثم تسير الأزمة بأحداثها حتى تبلغ قمتها ويشتد إشتباكها ثم تأخذ في الإنفراج والحل حتى تنتهي المسرحية" ضمن وحدة الموضوع ووحدة الزمن الذي حدّد بيوم واحد وحدة ثالثة هي وحدة المكان. فجعلوا من هذه الوحدات الثلاث قانوناً للمسرحيات قدسه الكلاسيكيون الفرنسيون وتقيدوا به. وكل مسرحية لا تتوفر فيها الوحدات الثلاث كانت عرضة للنقد.
فعندما نقرأ أو نشاهد مسرحيات الخوري حنا يدفعنا إليه مجرد حبنا في بحثه، وقد عالج رغبتنا في تحديد وضعه الخوري يوحنا طنوس ضمن إطار المسرح العالمي ومفاهيمه المتعددة عبر مدارسه المتفاعلة المتكاملة خلال العصور والأجيال. وعليه فقد جمع الخوري يوحنا طنوس في نتاجه المسرحي المدرسة الكلاسيكية والمدرسة الرومانسية والمدرسة العصرية...


مدرسة الخوري يوحنا طنوس
إن مسرح الخوري يوحنا طنوس والتبسط في تحليله وتفصيله يحتاج إلى درس خاص طويل مستقل يتضمن عرض كافة مسرحياته ونقدها وتشريحها وتبيان ميزاتها وخصائصها، محاسنها ومساوئها، وهذا ما لا مجال له في هذه الدراسة الشاملة. فجل ما يمكننا أن نقوله في هذا الصدد أن مسرح الخوري يوحنا طنوس هو مزيج رائع للمدارس الثلاث.

فيه من المدرسة الكلاسيكية
أ‌)      إستقاء المواضيع من التاريخ
1)  العهد القديم: داود وشاوول، يهوديت، طوبيا البار، يوسف الحسن، أبى شالوم، دانيال النبي، قايين وهابيل.
2)  تاريخ القديسين: مار لويس، يوحنا فم الذهب، ليلى العفيفة.
3)  التاريخ العام: الفرد الكبير، قسطنطين الملك، رجل الغابة السوداء، الأعمى البصير، صبي الدهاليز، البطل الأخرس.
4)  التاريخ العربي: شهداء نجران، داحس والغبراء، النعمان، الحارث، المهلهل، العمران.
5)  التاريخ اللبناني: البطريرك حجولا، البطل المجهول، أمير الأرز، يوسف بك كرم، أمير لبنان وكسرى، عبد المنعم أمير جبيل، تخليص الوطن.
ب‌)            جدية الموضوع، تألق الكلمات، بلاغة التعبير.


وفيه من المدرسة الرومانسية
1)  عدم تقيده تقيداً تاما بقانون الوحدات الثلاث.
2)  عدم احترامه لفصل الأنواع، ففي بعض مسرحياته كان يجمع الفاجع الباكي إلى الضاحك الزاهي ولكن بشكل يسوده التناغم والتناسق والتآلف.
وقبل أن ننتقل إلى ايجاز بعض من مسرحياته لابد لنا من الإشارة إلى أننا في محاولتنا تقييم عبقرية الخوري يوحنا طنوس نعترف بأن نتاجه الأدبي على احترامنا له هو دون نبوغه ومستوى مواهبه ومقدرته وطاقته. فالخوري يوحنا طنوس الذي زخرت شخصيته بمواهب عديدة متنوعة وثروات عقلية لا حد لها ولا حصر، وصحة فكرية يحسده على بعضها غير واحد، من محترفي الأدب كيف لا وقد كان شاعراً وخطيباً، ورياضياً ولاهوتياً، وأديباً، ومؤرخاً وذا ثقافة عميقة وشاملة، كان بإمكانه أن يعطي أكثر مما أعطى وأجود لو توفرت فيه وله العوامل والشروط التالية :

1)  لو كان علمانياً، لكانت اتسعت أمامه آفاق أرحب، وأخصب للعطاء الفكري ومعالجة مواضيع صده عن معالجتها ثوبه الكهنوتي.
2)  لو كان راهباً بدلاً من خوري لكان توفر له استقرار حياتي يسربله المناخ النفساني والأدبي اللازم للعطاء الفكري فانصرف إلى الإنتاج الأدبي بطمأنينة وراحة بال بدلاً من السعى الدائم إلى العمل لتحصيل كفافه اليومي وكفاف من شاء الدهر أن يكونوا على عاتقه.
3)  لو كان أقل إهمالاً وكسلاً لكان أعاد النظر في إنتاجه وهذب فيه وشذب ونقح ما أنتجه بسرعة وعفوية وإرتجال.
4)  لو كان أقل مواهب لكان اعتمد الرويّة والأناة في التأليف فذكاؤه إن أفاده كثيراً فقد جنى عليه أيضاً كثيراً.
5)  لو كان متزوّجا لاهتم أولاده وأحفاده بنتاجه وتآليفه ومسرحياته بدل ضياعها في الشتات والنسيان...
أضواء على مسرحياته

مسرحية النعمان الخامس
تمثل الحادثة التاريخية عندما غضب كسرى على النعمان فلجأ إلى هانئ بن مسعود وقبيلة بنى شيبان وما نتج عن ذلك من حرب "ذى قار" أول معركة انتصر فيها العرب طلاب الحرية على المستعمرين الفرس. ففي المسرحية تمجيد لمأثر العرب من وفاء وإباء، من حرية وشمم ودعوة صريحة إلى التخلص من المستعمر الذي كان جاثماً على صدر الأمة العربية.

الفصل الأول
من المشهد الأول
-                  حنظلة أحد أشراف بنى بكر يستحث البكريين كي يجيروا النعمان ملك الحيرة بعد أن هرب من كسرى أبرويز ملك العجم ولم يجد مأوى له بين بعض قبائل العرب، "حنظلة – شريك – عمرو – أبى، وهم من أشراف بني بكر".
حنظلة       أذمة غير ذمة العرب، أشيمة غير شيمة الآباء، أدين غير دين الوفاء. أيترك الله أمة العرب مفتونة بالباطل مغبونة عن الحق، لا ساقي ولا واقي، لا هادي ولا حادي، ملك العرب يتوعده ملك العجم، فتخذله أمته وتتقاعس عنه عشيرته، يطوف في القبائل ولا يقبله منهم أحد يستنجد العشائر ولا يجد من ينجده، يستجير ببكر بن وائل وليس من يجيره فتلعب به صعاليك العرب وتتخطفه ذئابها، والذي بيده روح حنظلة لأسوينها في الأرض حتى تستقيم القناة الملتوية، لأشدخ يافوخ الشقاق، وأشرم جبهة النفاق، واجدع أنف الفتنة واتفل في وجه الشيطان. هذه أحداث أجدادكم اتنكرونها.
عمرو       سقتها الديم وعدتها النقم ورعتها النعم
حنظلة       كانوا كماة السيف حماة الضيف اباة الحيف. كانوا رجالاً يحمون حوضهم أن يتهدم ويمنعون جارهم أن يضام. منهم جساس بن مره حامى الذمار قتل ابن عمه وسيد قومه كليبا بناب جار وأسمر لدفع العار فتنة أبادت عشيرتين وهو القائل:
إنما جارى لعمري               فاعلموا أدنى عيالي
وأرى للجار حقاً                 كيمينى من شمالي
ان للجار علينا                   دفع ضيم بالعوالي
فأقلي اللوم مهلاً                  دون عرض الجار مالي
سأودي حق جاري              ويدى رهن فعالي
أو أرى الموت فيبقى             لؤمه عند رجالي

المشهد السابع
الأعشى، شاعر أعمى يدخل على أشراف البكريين يستحثهم على إجارة النعمان.
(وهو داخل) وسّعوا المجال للموت. إفسحوا المكان للموت.
الجميع       الموت ؟ (حركة خوف وارتجاف في الجمهور)
شريك       وأي موت فإنا لا نرى جنازة ولا ننظر نعشاً ولا نسمع نوح النوادب فأين الميت ؟
الأعشى     (يسحب علم المناذرة) هوذا الميت علم ىل محرق بنى المذر. بيرق العرب. راية المروءة والوفاء. مات الوفاء فجئت أدفنه بين أصحاب المروءة والوفاء. أحفر الحفرة عميقة يا حفار. وذر عليها التراب كثيفاً ومكن الحصى والجنادل وأكتب على القبر، هذا لحد الوفاء
شريك       آه يا شحاذ
الأعشى     صه.
فما أحسن الأيام في عهد مالك          وعوف ومسعود وقيس وحجدرا
فيا لزمان كان نسل جدودنا            يحلق في جو الفضاء تكبرا
يمر على أحيائهم متنسما               نسيما ذكيا بالوفاء معطرا
فما الشمس في فلك النهار بضوئها     وما البدر يبدو في الليالي منورا
وما الروض في فصل الربيع بزهره  إذا غرد الشحرور والورد أزهرا
بأبهى وأنقى من خصال جدودنا        وأحسن وقعاً في العيون وانضرا
إذا حل جار في فناء ديارهم           تمنع عنه جيش كسرى وقيصراً
فإن لم تجيروا جاركم بدمائكم          فكونوا عبيداً للهوان وأحقرا
فهذا لوائي يا لقومى ممزقاً             وقد كان قدماً في الحروب مظفراً
وهذا لواء العز ذلّ ألا احفروا          حفيراً عميقاً للواء فيقبرا
ألا وادفنوا في التراب مجد جدودكم    فيبقى ذليلاً في التراب معفراً

شريك       كفى كفى نصر الله النعمان
الجمهور     نصر الله النعمان يا خير جار
النعمان      جاركم بينكم
الجمهور     رحبت بك الدار يا خير جار
النعمان      يا بكر وائل، نهجتم منهج أجدادكم فأصبحتم زبدة الأمم وصفوة العرب، أنتم كرام وآباؤكم كرام
هم القوم إن قالوا أصابوا وإن دعوا    أجابوا وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا
هم يمنعون الجار حتى كأنما           لجارهم بين السماكين منزل
فأولهم فوق المجرة قاعد                وآخرهم بين الصناديد أول

الفصل الثاني
المشهد الثاني
أبى عدو النعمان يرمى فتنة بين قيس بن هاني وحسان بن النعمان ليستدل على مخبأ النعمان – ويكون متنكراً بزي عراف.
العراف      (يضع رملا ويخط فيه خطوطاً ويتابع ذلك كل الفصل) الخط الوسط المحدود طالعه مسعود على المولود صاحب معالي وجود
حسان       (وهو داخل إلى قيس الداخل معه) هذا عراف
قيس         بل هذا طارق بالحصى
العراف      (كأنه لم يسمعهما) نصف رسمه تحت وصمه بألف نسمه وألف نعمه دون نقمه والف رحمه دون غمه
حسان       من الرجل ؟
العراف      سطيح بن جنديح يقول الصحيح ويعرف المليح والقبيح
قيس         أتعرف الغيب ؟
العراف      استطلع النجوم واستجي الغيوم وأبدد الهموم عن المغموم
حسان       إقراً طالعي
العراف      حسان بن النعمان فارس الفرسان صريح الزمان بهجة الأنس والجان نائم يقظان كالسرحان
قيس         وأنا ؟
العراف      فيسرين هاني هاني بن مسعود سعد السعود أبو الوفاء والجود كريم الآباء والجدود واف بالعهود منجز للوعود
حسان       ما يحصل لنا في الزمان الآتي ؟
العراف      (يطرق بالحصى ويخط خطوطاً بالرمل) أحدكما يملك العرب وينال الأرب ويعيش بالطرب
حسان       والآخر
العراف      (يتطلع بالإثنين دون أن يتكلم)
حسان       (بحدة) والأخير ؟
العراف      يعيش بلا أم ولا أب
حسان       أحق ما تقول ؟
العراف      نعم والشفق والغسق والقمر إذا اتسق إن ما أخبرتكم به لحق
قيس         أصحيح ما تقول يا سطيح
العراف      أي ورب السماء والأرض وما بينهما من رفع وخفض إن ما أنبأتكم به صدق بحت وحق محض
حسان       ومن ويحك يعيش بلا أم ولا أب ؟
العراف      من بالمنافرة يغلب
قيس         ومن يملك على جميع العرب ؟
العراف      من إذا تفاخرتما غلب
حسان       لسنا بمتفاخرين لا أم لك
العراف      إذا تعيشا طول الحياة ذليلين
قيس         بلى، نتفاخر ولا نرضى الذل، قد علمت العرب أنا بناة بيتها ألذي لا يزول، ومغرس عزها الذي لا يحول، لأنا أردكهم للثأر وامتعهم للجار
إذا قست ابيات الرجال ببيتنا           وجدت لنا فضلاً على من يفاخر
تعالوا فعدوا تعلم الناس أننا             لسنا الفضل فيما أورثته الإكابر
حسان       لقد علمت العرب أنا فرع دعامتها، وقادة زحفها، لأنا ورثنا الملك كابرا عن كابر
السنا اعز الناس قوما وأسرة           وأضربهم للكبش بين القبائل
السنا ملوك الناس في كل بلدة          غذا نزلت بالناس إحدى النوازل
قيس: اروني كمسعود وقيس وهانئ    وعمرو وعبد الله ذى الباع والندى
فكانوا على أفناء بكر بن وائل          ربيعا غذا ما سأل سائلهم جدي
وسرت على آثارهم غير تارك        وصيتهم حتى انتهيت إلى المدى
حسان: لنا العزة القعساء والحسب الذي             بناء للخم في القديم رجالها
فهيهات قد اعى القرون التي مضت    مآثر لخم مجدها وفعالها
وهل أحد إن مد يوماً بكفه              إلى الشمس مجرى النجوم ينالها
قيس: منا الذي سد الثنية غدوة                في يوم قضة يوم تحلاق اللمم
منا لاذي أسر المهلهل خانعا           منا الذي غلب الأعارب والعجم
حسان: يا من جهلت مقام آل محرق          نحن الذين تحكموا بين الأمم
كل الذين ذكرتهم متفاخراً              كانوا لأجدادي عبيداً أو حشم
              أنا أكرم منك حسبا وأثبت منك نسباً واطول منك قصباً

قيس         أنا خير منك ليلاً ونهاراً
العراف      (في سره) الآن حمى الوطيس وذهب التدليس ودخل لسان إبليس
حسان       أنا أنحر منك للقاح وخير منك في الصباح
قيس         أنا خير منك أثراً واحد منك بصراً وأعز منك نفراً
حسان       أنا أنقذ منك لساناً وأمضى منك سناناً
قيس         أنا أقتل منك للكماة وأفك منك للعفاة
حسان       أبى أعظم العرب غناز وأحمدهم لقاء
قيس         ابى أعظم العرب بأساً وأشدهم مراساً
حسان       أنا إبن أعظم ملوك العرب وأكرم ساداتها
قيس         أنا غبن أفرس الفرسان عند الطعان
حسان       إني انتسب إلى عشرين ملكاً ملكوا رقاب بني عدنان وقحطان
قيس         إني أنتسب إلى عشرين فارساً كلهم أسد شرى رجال وفى
حسان       أبي صاحب الخورنق والسدير وذى الشرفان
قيس         أبى صاحب المشهب والأسمر والمشرفيات
حسان       أبى أرفع مناراً وأعمر داراً واغزر مالاً وأقدر رجالاً
قيس         ابى أعز جاراً وأمنع منك ذماراً
حسان       أنا إبن النعمان بن المنذر وحسب
قيس         أنا إبن هاني بين مسعود وكفى
حسان       أبى سيد أبيك والسيد أفضل من المولى
قيس         أبى مجير أبيك والمجير أفضل من المستجير
حسان       تمنن علينا بجوار أبيك فبئس الإجارة تشوبها المنة
قيس         (إلى العراف) تحاكمنا إليك أيها العراف فأحكم بيننا
العراف      والقمر الباهر والكوكب الزاهر والغمام الماطر وما بالجو من طائر وما اهتدى بعلم مسافر من منجد وغاثر لقد سبق قيس حسانا غلى المفاخر 
قيس         بأي شيء ترضى
حسان       بالمبارزة فالغالب يكون الأفخر
قيس         لا أبارز جاري فإني من قوم لا يلحقون بالجار ضيما
حسان       ولقد ملأت وجهي فضيحة أنكم والله لقوم لا يعز لكم جار ولا تنبح الكلاب في منزلكم إلا على جاركم
قيس         (يتهدد) تشتمني وأنت في جواري
حسان       بل أصفعك يا صفعان (يصفعه على وجهه)
قيس         (يرفع يده ليضرب ثم يرجعها ويقول) جاري، جاري لو لم يكن جاري
حسان       (وهو خارج) سبق السيف المذل

من مسرحية يوسف بك كرم
تدور حوادث هذه المسرحية حول جهاد يوسف بك كرم ضد المتصرف داوود باشا تخفيفاً للضرائب التي أثقل بها كاهل اللبنانيين.

المشهد الأول
من الفصل الأول
يوسف كرم – معتمد داود باشا
كرم          قلت لك لو انطبقت هذه السماء على هذه الأرض لا يرضى ابن كرم بما يمس كرامة لبنان
المعتمد      أترفض صداقة الحاكم الأكبر
كرم          إنما أرفض ظلماً يلحق بوطني
المعتمد      إن أذعنت لمشيئة المتصرف الشريفة شاطرته الأحكام فتصبح حاكماً على جميع النصارى من نهر الكلب إلى جبل الضنية
كرم          لا أقبل ملك الدنيا ولبنان مظلوم
المعتمد      وما ذنب المتصرف والدول العظام سنت نظام الجبل الجديد
كرم          لست احتج على النظام الجديد وإن كان فيه مدعاة للإحتجاج، إنما على الأقلام الستة احتجاجي. أما كفاهم الجرح حتى ذروا عليه الملح ؟ أما كفاهم إن نزعوا استقلالنا القديم وخفضوا رأس لبنان الشامخ وخلعوا عنه حلة مجده الباذخ حتى طرحوا عليه قميص الفقر والعار وجلببوه بجلباب المسكنة والشنار. وطالما رفل ببرد العز والفخار ورتع بمروج الخصب والإزدهار.
المعتمد      إن المتصرف يرغب في إعلاء شأن الجبل ورفع مناره وهو يسعى جهده بما يؤول إلى الإصلاح ويزيد البلاد ثروة وحياة.
كرم          إن كان ذفك صحيحاً فماله يضرب ضرائب تنوء تحتها ظهور الناس. إن كان ذلك حقاً فما باله لا يرجع عن عناده ولا يحيد عن تشبثه بالأقلام الستة ؟ فقد أفهمته أنها سم زعاف قتال تجمد حركة الدم في عروق الزراعة وتلاشي موارد الإرتزاق من البلاد وتخنق حياة الثروة في قلب لبنان.
المعتمد      ألا تعرف أن داود مستبد بعزمه متشبث بحزمه وهو لا يعود على عقبه ولو كان تحت قدميه أعماق الهاوية ونيران حامية ؟
المعتمد      بماذا أجيب مولاي ؟
كرم          أمضى وقل للمتصرف، لا يخلع كرم السلاح حتى يخلع الليل النهار أو يرفع داود الأقلام عن عاتق الأنام. وإن بقي مصراً على عناده فليتأهب لملاقاة الأبطال وتكبد الأهوال بحرب تشيب ذوائب الأطفال.
المعتمد      تربص للأمر يا كرم وترو بالعواقب فإني لك من الأصدقاء المخلصين والأولياء الناصحين فلا طاقة لك قبل المتصرف. فإن جيوشاً تنصره وأنت لا ناصر لك إلا بعض الرجال.
كرم          الرب يعضدني فلا أرهب ربوات الشعوب أني عن الحق أدافع وللمظلوم أنتصر وما خذل الله المنتصرين للمظلومين. فأنا واثق بالله ورجالي واللبنانيين.
المعتمد      ثق بالله ورجالك ما استطعت لكن على اللبنانيين لا تعتمد فهم أحزاب متشعبون بكلمتهم، متقلبون برأيهم، متزعزعون بعزمهم. وحياتك يعز على أن أراك وأنت وحيد البلاد وفخر العباد هدفاً لسهام أصحاب الأغراض وذوي الغايات.
كرم          لا سبيل لأصحاب الأغراض أن تستهدفني ولا طاقة لذوي الغايات أن تستخدمني فما أنا إلا رجل رأى المظالم تضني بني وطنه فوقف في وجه الظالمين وهو يصيح، ردوا المظالم عنا وإلا...
المعتمد      إن لم تذعن يصبح مالك وحياتك وشرفك في خطر.
كرم          مالي وحياتي غبطتي وهنائي عزي وشرفي فدى عنك يا لبنان. أن أذل وتعز أنت وإن أشقى أنا وتسعد أنت أن أموت أنا وتحيا أنت هذا كل مناي.
المعتمد      أفتحب مقابلة المتصرف فلعل بالمقابلة يزول سوء التفاهم.
كرم          أرضى بمقابلته شرط ألا تمس كرامتي بحضرته.
المعتمد      لا يمس أحد كرامتك يا أكرم الناس. فها إني أنصرف لأفاوض المتصرف بالمقابلة فلعل الله يلطف بلبنان.

المشهد الثاني
كرم (وحده)
لبنان يا جنة الفردوس لبنان            يا روضة بسناها الكون يزدان
بستان حسن به الأنهار جارية         وماؤه الشهد والحصباء مرجان
فيه الينابيع ما أشهى عذوبتها           فيه من الزهر أشكال وألوان
نسيمه ينعش المدفون في جدث         تحيا به عند لفظ الروح أبدان
سماؤه في ليالي الصيف صافية        وبدرها حارس في الليل سهران
يرعى النجوم يطوف الليل مرتقباً      شمس النهار كما يشتاق ولهان
ما أجمل الشمس في لبنان طالعة              فوق الجبال بها الأفلاك تزدان
لبنان يا مهجتي لبنان يا وطني         تفديك لبنان أرواح وأبدان
حالي ومالي حياتي كلها شرفي        فداك، تفديك أقران وخلان
ما أسعد الحظ لو سفكت دمى           حبا بمن حبه في القلب نيران
إما تسود كما قد كنت من قدم           إما أموت فدى والقلب جذلان
لقد دحاك إله العرش مرتفعاً            حتى السحاب فلا يعروك خذلان
إن رام خفضك أقوام فقل لهم           وراء لبنان أساد وشبان

المشهد السابع
من الفصل الرابع
يوسف كرم يودع للبنان قبل إبعاده عنه
قضى الزمان بهجر الأهل والوطن     وبدد الشمل والأصحاب واحزني
قضيت بالعز عمري والهنا فرحاً       فجاءني الدهر بعد العز بالمحن
وهكذا الدهر لا يبقى على أحد         حتى يجرعه من حنظل الأصن
فإن بكيت فلا خوفاً ولا جزعاً          لكن لحزني على الأصحاب والوطن
حزني على وطن فديته بدمي           حزني على بلد بالحب جنني
قربت عنه حياتي كي أحرره           وما رضيت ذوي الشحناء والفتن
لقد عشقتك يا لبنان في صغري        فزاد حبك في قلبي مع الزمن
فكنت عندي عزيزاً لا يعادله           أعز ما يقتني من فاخر الثمن
فلا أزال بنار الحب مستعراً            إني أحبك حتى ساعة الوهن
فلست أنساك طول العمر يا وطني     ولست أسلو ولو أدرجت في كفني
فإن رجعت تعد للأرز رفعته           وإن أمت فاجعلوا لبنان مدفني
وإن أمت فاجلبوا من غربتي جسدي   ولو عظاماً تعرت من عرى البدن
وحركوها تناديكم بقعقعة                هيموا بلبنانكم بالسر والعلن
أحباب قلبي قضى دهري بفرقتنا              يا ويح دهر بغدر الناس مفتتن
إن غبت عنكم بجسم مضه اسف              تبقوا بقلب بمحض الحب مرتهن
الا اذكروني إذا ما شمسكم طلعت      عند الصباح بأعلى قمة القنن
الا اذكروني إذا ما شمسكم أفلت        عند المغيب بمرأى باهر حسن
الا اذكروني اذا أسيافكم لمعت          يوم الوفى فوق هام الصانعي الفتن
قولوا السلام على من عاش منشغفاً    في حب لبنان طول العمر والزمن
منى السلام على لبنان في وجعي      منى السلام على لبنان في كفني

من مسرحية البطل المجهول
       خلال الفتوحات الإسلامية حاول القائد خالد الإستيلاء على لبنان كما احتلّ سائر البلدان، فلم يتيسر له ذلك لأن اللبنانيين وعلى رأسهم القائد مالك أبو الغيث وقفوا في وجهه كالأسود، وحدث بعد ذلك أن مات أمير لبنان وكبير المقدمين فاستعد الأمير مالك لخلافته لكنما المقدمون فضلوا عليه البطريرك وانتخبوه أميراً أكبر. عندئذ تغلغل الحسد في قلب الأمير مالك أبي الغيث من جهة، وتملكته شهوة الحكم من جهة أخرى، فواطأ القائد خالد على تسليم لبنان لقاء تنصيبه أميراً عليه.
       وكان من عادة اللبنانيين يوم يقدم عليه غاز أو يزحف إليه مستعمر إشعال النار على رؤوس الجبال إشارة للخطر الداهم فيهب اللبنانيون إلى السلاح ليصدوا العدو.
       وعرف بهذه المؤامرة قسطنطين إبن مالك، فصعد نصف الليل إلى محرقة إهدن حيث وجد أباه يقوم تلك الليلة بمهام الرقيب قصد عدم إشعال النار لدى زحف العدو إلى لبنان فلا يلقى عنئذ أية مقاومة. ويحتدم الجدل بين الوالد وابنه قسطنطين يريد إشعال النار ومالك يريد أن يمنعه عن ذلك. وأخيراً يقتل الإبن والده ويشعل النار وبعد مقتل مالك تسلم قسطنطين قيادة الجيش لكنه لم ينتصر في القتال. فقام عليه الجنود واتهموه بالخيانة وحكم عليه بأن يربط على عمود يعلوه تمثال والده الأمير مالك حتى يكون عرضة لإهانات الجميع.
       وفيما قسطنطين مكبل بالسلاسل على العمود يكيل له الجميع التوبيخ والتأنيب تصلهم أنباء انقلاب العطيات الحربية رأساً على عقب بفضل فارس ملثم مجهول ظهر في ميدان القتال وقاد المعركة وانتصر.
       وفجأة يقدم إليهم هذا البطل الملثم الذي ما كان الا مالك أبا الغيث عينه الذي بعد طعنه ابنه له ضمد جراحه وأسرع إلى المعركة يخوضها باستبسال وبطولة تكفيراً عن ذنبه وتخليصاً للبنان.
       سأعتئذ أدرك الجميع فضل قسطنطين وتضحياته المكتومة وبطولته المجهولة:
       وما أنا إلا أن أقطب حاجبي فتنفذ مشيئتي، وأومئ بجفني فأنال منيتي، فأعلم أنه قد حسن عندي أن أبقى وحدي هذا المساء في هذا المركز واما أنت فتعود من حيث أتيت، وترجع إلى مركزك بأقرب الطرق واسرع الحركات، فأنصرف.
       وما حسن في عيني اضرام النار أضرمها فإبن الخمسين أدرى بصالح الوطن من إبن عشرين... لقد أمرتك فابتعد.
قسطنطين   لقد صدقت أذني، ولم تخدعني عيني، ولست غدا واهما – فهنا محل الخديعة – والساعة ساعة أنجازها، فلن أتزحزح من مكاني.
مالك         وماذا تريد ؟
قسطنطين   إن تستشط غيظاً فإني أزدري   بالغيظ، إذ قلبي بحبك يستعر
              لولا المحبة، ما أتيت بخاطراً   حتى أصدك عن مرامك، فأعتبر
مالك         لا والله، لا يكون هذا أبداً.
قسطنطين   فكر بأمرك يا ابي،              واحذر وخيم العاقبه
              فالله ينظر حالنا                  والنجم فوقك راقبه
              اذ بان سرك يا أبي              صوبت عينا ثاقبه
              فكرت فيما يقتضي               حكم الفروض الواجبه
              ...
              لكن رأيت فظائعاً                في حقنا متعاقبه
              عار وموت مؤلم                 وابن يخون أقاربه
              مجد عظيم يمحى                ونجوم فضل غائبه
              والناس تلعن ذكركم              من فوق لحدك ذاهبه
              وتحوم فوق رقادكم              غربان شؤم ناعبه
              فابيت أن أشكو أبى              فيرى الجميع معائبه
              أترك بحقك ما مضى            وأظهر بنفس تائبه
              دعني أضرم نارنا               وأرى المشاعل لأهبه
مالك         لقد جئت آجلاً فتأسف الآن لأنك خلصت حياتين فقد كان عليك أيها الإبن الفاضل أن تشفي غليلك وتظهر أسرار أبيك وتشهره كيهوذا الخائن فيذبح نصب عينيك، فبئس ما فعلت فقلبك ضعيف يتساءل ويتردد، أما قلبي فذو عزم وحزم فلا ينوي عملاً إلا أنجزه. فمن لا يتلاقى الأمر عند أوله لا يمنعه عند آخره. لا أسمح لك أن تمس المحرقة.
قسطنطين   أتغدر لبنان ؟ أتخون الوطن ؟
مالك         كان الوطن ناكراً جميلي متناسياً فعائلي.
قسطنطين   وربك، ألا تخاف صواعق غضبه ؟
مالك         وحق حسامى، إني لأحصلن الملك شاءت الدنيا أم أبت.
قسطنطين   لربما. لكنما التاج عريض على جبين الخائن، فخف يا ملك لبنان أن يسقط عن رأسك فيصبح طوق حديد في عنقك.
مالك         أبلغب بك القحة إلى شتمي – فقد توغلت في الفه والجنون.
قسطنطين   آه – لقد أخطأت فسامحني، وأسأت إليك فأصفح عن إساءتي، لا أدري ما أقول ...
              فمن أدعو وبمن ألوذ ؟ فإليّ يا ذكرى الحروب السابقة، يا ليالي الإنتصارات السعيدة ويا رايات النصر العديدة – إليّ يا يوم خلصت به أبي من براثن المنية – إليّ يا قبلاته الأبوية، إليّ يا هتاف جنوده المظفرة ويا أكاليله المضفرة – يا مجده القديم، يا عزه السابق، ويا فخره العالي – ويا كل عظائمه الماضية، انتصبي أمام عينيه وبيّني له فظاعة ما هو مقدم عليه، قولي له، إن رايات النصر المنصوبة على شرفات لبنان تود اليوم لو تمزقت ضرباً على وجهه.
                     قولي له، إن جنوده التي ماتت في ساحة القتال تقشعر عظامها تحت التراب وتهتف من بطون الأرض بصوت هائل، الويل للخائن. لا. لا يا أبي فإنك لا تصل إلى هذا الحد من الذل والدناءة، فلا تجعل اسمك المبارك ملعوناً ومجدك السامي في العار مدفوناً (يركع).
                     بحقّك يا أبي، لا ترتكب هذا الشر الفظيع، إرثِ لحال ولد على قدميك، ارفق بدموعي المنهملة، أنبذ وراءك هذا الفكر الفظيع، وأطرحه في نار المشاعل، فتحرقه وتنشره مع لهيبها، فتذرّ به رياح الليل لهبا.
مالك        كفى فانهض. حلفت بحق الشمس والأرض والسما   ورب الملا طرا وكل الأبالس.
             إني أطلب التاج والصولجان، لأثأر من ذلك الشعب العقوق، فغيظك لا يجديك نفعاً، من ينشل فريسة الأسد من مخالبه – لا توسل ولا تنهد – لا تحسر ولا تهدد، فقد قضي الأمر – وأعلم في غضبك يا صبيّ، لا يمكن إشعال النار وأنا حيّ.
قسطنطين   حيّ، فيا لكلمة لفظتها، حيّ، فيا لفكر فظيع دار في خلدي.
مالك        إني لا أدري ما تقول. أفتحب أن تراني ميتاً ؟
قسطنطين   أقول، لولا سكوتي لمت شر ميتة، وأنك بإصرارك الآن تستحق موت الخائنين
مالك        ماذا تقول ؟
قسطنطين   لقد ضاع الوقت سدى، وكاد يصل جيش العدو، وما أتممت واجبي.
مالك        وأي واجب ؟
قسطنطين   إن تشبثت بعنادك تضر بلادك. فلا يبقى لي حيلة إلا في حسامي.
مالك        حسامك...
قسطنطين   هذا الحسام الذي رد عن جبينك الموت – هذا الحسام الذي لا يعرف غير المجد والإنتصار – رآك اليوم المخادع الغدار، تخون الوطن ولا تبالي، فرقص في غمده وقد أمرني بأن أكون لك قاضياً وجلاداً (يستل سيفه).
مالك        (يستل سيفه) هوذا حسامى فلا يهاب حسامك.
قسطنطين   إني ألوذ عن حوض الوطن والدين، وأدافع عن شرف أجدادي. وأنت تقتل ولدك لتخون بلدك. ليحكم الله بيننا ويفصل، فالموت للخائن... (يثب قسطنطين على أبيه فيشتبك السيفان برهة ويطعن قسطنطين أباه فيسقط...)
قسطنطين   آه. وا رباه ماذا صنعت.
مالك        حلت عليك اللعنات يا قاتل أبيك.
قسطنطين   إلى العلامة إلى النار قبل كل شئ (يأخذ المشعل ويرميه بالمحرقة فتشتعل ويسمع للحال دق الأجراس وترى الأضواء وتقرع الطبول)
يا عين ربي في الظلام المرجق        أنت الشهود أيا نجوم فأنصفي
فأمام جثة والدي ومشاعلي             ألقي إليك اللحظ دون تخوف
واربك نفسي يا نجوم نقية              من كل تدنيس بهذا الموقف
قد كاد يهلكنا أبى فقتلته                 أنت الشهود أيا نجوم فانصفي

من الفصل الرابع
المشهد الثاني
(قسطنطين وحده يتقدم بتراخ ووجهه مصفر وهو غائص في تخيل محزن)
أنا موقن من أمري – فلقد أحسنت في عملي إذ لم يكن بد من الفتك بأبي وكان قتله حتما عليّ، فمن أي إثم أزكّي نفسي ؟ أمن صنيعي ما ينبغي ؟ من يؤثمني ؟ لا أحد. فليس من الصواب أن أصفرّ، وليس من الحق أن أرتعش... فكان من حقي المحاكمة ومن حقي كان الإقتصاص من الخائن.
غير أن ذكر هذا الفعل يرجفني، فإن لم أكن جانياً جناية فلم يتصبب العرق البارد على جبيني المصفر ؟ وعلام لا أجسر أن أنظر إلى يمناي ولماذا أحسب الماء نجيعا والخمر دماً ؟
إثم فظيع أمامي كان مرتكباً،           ففرّ من غمده سيفي، وما احتملا
أنقذت ديني وأوطاني، وفي عملي      أزحت بالسيف عن لبناننا الخجلا
قادت يميني ذراع الرب إذ ضربت    شهدت نجم السما، فاستصوب العملا
يحل قتل الضواري في شريعتنا        قتلت وحشاً ولكن والدي انقتلا
أبي قتلت ولكن كي أخلصه             من وصمة العار بينا أنقذ الجبلا
إن كان يعلو جواد العز منتصراً       وتضرب الناس في أعماله المثلا
ما ذاك إلا لأني قد فتكت به            قبل المعاصي، وقد أخفيت ما فعلا
أنا بري، وقلبي لا يؤثمني                     لكن قتيلي أمامي شخصه مثلا
إني أرى دمه المسفوك يهتف بي       في كل حين فيلقى في الحشا الوجلا
يدوي صداه مدى الأيام في أذني       يا من أباه بنصف الليل قد قتلا
أنا بري ولكن لم يعد أمل               لي في الحياة، فعيش المر قد ثقلا
أسعى وراء المنايا في معاركنا         ولست أدرك يوماً للردى سبلاً
والإنتحار حرام في شريعتنا           ربي، أمتني، فحزني في الحشا اشتعلا

المشهد الخامس
قسطنطين – واصاف
واصاف     (على الباب على حدة) كفاني تردداً، فلا بد من اقناع الفتى، ونيل مأربي.
قسطنطين   ماذا تريد مني ؟
واصاف     أراك يا قسطنطين مصراً على بغض، فلا حزني ولا معاندة الدهر لك، ولا شيء أثّر بقلبك، فإنك منذ وفاة أبيك تتحاشى مشاهدتي، وأنا مستغرق بسوء ظنك وقلبك ينفر منّي لتوهمك بأن البغض بيننا متبادل، وانا آتيك الآن لأبدد غيوم الأوهام عن سماء خاطرك.
قسطنطين   أنت، ...
واصاف     فيتبين لك أني أذود عنك طاقتي وأحميك ما استطعت ؟
قسطنطين   وكيف ذلك ؟
واصاف     بتخليصي إياك.
قسطنطين   ومن أي الورطات تخلصني.
واصاف     (على حدة) الآن وقت التدرع بدرع الحزم والإقدام (بالعالي) ألا تدري بأي الأخطار أنت فإن تهورك في المهالك، وانكسارك في المعارك، أثار عليك سخط الجنود، وقد بلغ بهم أن رموك بالخيانة.
قسطنطين   خائن ... أنا، ...
واصاف     وكأن الحوادث تثبت هذه التهمة الباطلة، فقد فتح العدو لبنان، واحتل الشرفات.
قسطنطين   (بصوت عظيم) آه.
واصاف     وقد طار الخبر إلى كل الأنحاء. فيا للأمر الفظيع فلا تمر خمسة أيام حتى يصير لبنان في حوزتهم، وتحل الويلات على أهليه.
قسطنطين   لا و حق حسامى، لبنان في خطر وأنا متقاعد، إلى بالسلاح، إلى يا جنود.
واصاف     لا يجديك الهتاف والصياح فجنودك عصاة لا يطيعون.
قسطنطين   أو يتجرأون (تسمع جلبة وضوضاء في الخارج وتستمر إلى آخر المشهد)
واصاف     اسمع هذا الضوضاء المختلط، فهذا صوت الجيوش يصيح عليك، فلا يطأ أميرهم هذه الأماكن حتى يرتفع في الجو صوتهم الهائل، الموت للخائن.
قسطنطين   يا للفظاعة.
واصاف     فنفسي الكريمة وحبي لك مع بغضك لي دفعاني إليك حاملاً وسائل النجاة لك ولبلادك.
قسطنطين   أنت تحمل إليّ وسائل الخلاص ؟... فما ينبغي عليّ إذن فعله ؟
واصاف     أن تنجز العمل الذي فكر به أبوك.
قسطنطين   ... أنا ؟...
واصاف     أعلم أنه كان بجانب نار المشاعل ينتظر قائد الأعداء للمعاهدة.
قسطنطين   ماذا تقول ؟
واصاف     فلو لم يتزعزع عزمه لكان صار ملكاً قوياً مقتدراً بدلاً من تمثال أعمى لا ينظر وأصم لا يسمع.
قسطنطين   (على حدة) يا للذكر الهائل
واصاف     فاصغ يا قسطنطين فإني أعرض عليك نفس الأمر.
قسطنطين   إسمعي يا أرض وانصتي يا سماء (على حدة)
واصاف     فإن الصك لا يزال معي وقد شاهدت ليلة البارحة الجاسوس وحرضني أن أعرض عليك نفس الأمر... فلا يغير في الصك حرفاً فهو موقّع باسمك واسم أبيك
              (يسحب الصك من جيبه ويضعه أما قسطنطين)
قسطنطين   ختم أسرة أبي الغيث، (يزداد الضوضاء. من الخارج)
واصاف     اسمع هتاف الثائرين وتأكد أنك إن لم ترضَ يحلّ عليك عقاب الخائنين، فكن أعقل من أبيك وأثبت وأفتح طريقاً للأعداء، وصالحهم فتصير ملكاً، وأنا لا أطلب منك شيئاً إلا أن أكون المقرب إليك، قل أترضى ؟
قسطنطين   يا للدناءة. ويا لسفاهة تفوق العقل. أتجسر يا سفيه أن تعرض عليّ نفس الخيانة. فعليّ الآن أن أشفي غليلي وأبوح لك بسري.
واصاف     ماذا تقول ؟
قسطنطين   وأنا أيضاً كنت عند نار المشاعل، أمام أبي وحدي وسيفي بيدي.
واصاف     أنت ؟ ..
قسطنطين   كنت عارفاً بدسيستك يا خائن، وكان أبي على وشك ارتكاب الخيانة الهائلة، فقتلته بيدي هذه.
واصاف     أنت ولده..
قسطنطين   تعم انا قاتل أبي، وأنت وحدك سبب هذا القتل وذاك الفعل الهائل، وما يميتني هو أني لا استطيع أن أشهّرك يا خائن وأسوّد عرضك أمام الأرض والسماء، لأني إن أعلنت سري الرهيب دنست عرض والدي،  لكني أقدر أن أقول لك بفرح ممزوج بمرارة، إني بددت غيوم أوهامك، وقطعت حبال أمالك، وأود أن يخترق نفسك الشنعاء سهم سيف جهنمي أوجع وأمر من الخنجر – وإني آخذٌ بثأر الطبيعة المهانة والشرائع المتعداة أرفع فوق رأسك يدي المدماة...
واصاف     حذار. حذار.
قسطنطين   آه... أحببت العظمة والصولجان، فأنزلتك يدي إلى أحط دركات الهوان. قد خاب سعيك فأصرف حياتك بالأحزان والندم (يثب إلى الخارج) أما الآن فهيا للقتال.
واصاف     توقّع شرّ انتقامي.

ليست هناك تعليقات: