2016/05/22

الخوري حنا طنوس في أدبه وشعره القسم الثالث الأب جورج صغبيني


الأب جورج صغبيني

الخوري حنا طنوس
في أدبه وشعره
                                                
لبنان 2014
 
هذا الكتاب:
جمعه الأب جورج عقل اليسوعي
طبعته على الكمبيوتر السيدة شارلوت صغبيني مسلّم
إهتم بطبعه على نفقته السيد جورج نون 
 
   
 
 
 

تكريم الخوري حنا طنوس [1][6]
صورة مجلة الورود لصاحبها بديع شبلي الذي درس الخطابة وأوزان الشعر على الخوري حنا طنّوس، تُصدر عددا خاصّاً عن فقيد الأدب والشعر والمسرح الخوري حنا طنوس عن مهرجان التكريم بتاريخ يوم الأحد 7 حزيران 1970 في قاعة الأونسكو بمناسبة مرور 25 سنة على وفاته.

صورة الحضور المشارك في التكريم برعاية رئيس الجمهورية شارل حلو وفي مقدمة الحضور المطران يوسف الخوري، والرابع من اليمين الأديب مخايل نعيمه وبجانبه النائبة نهاد سعيد...

بعض الأقاصيص التي رواها عنه تلاميذه وعارفوه

مشى تحت الأمطار والشمسية تحت إبطه
كانت الأمطار تتساقط بغزارة والخوري حنا سائر على الطريق والمياه قد بللت ثيابه. فانتهره أحد الذين شاهدوه على هذه الحال قائلاً:
-      ما الذي يوجب عليك السير تحت هذه الأمطار ؟
+ كي لا أتأخر عن الصف
-      أي صف هذا نهار الخميس وبعد الظهر تعطيل ؟
+ راح عن بالي ذلك ففي اعتقادي أننا في نهار الجمعة
-      طيب ولماذا لا تمشي تحت الشمسية فتقيك الأمطار
+ لعن الله الشيطان فقد نسيتها في غرفتي يوم أنا بأشد الحاجة إليها.
وأطلق الحاضرون ضحكات مدوّية حتى كادوا يستلقون على ظهورهم. لأن الشمسية التي نسيها الخوري حنا في غرفته، إنما كانت معه تحت إبطه وهو غير دارٍ بها، فاضطر إلى السير تحت الأمطار.

يغفو وعيناه مفتوحتان
       ومن غرائب ما يروي عنه تلاميذه انه كان يغفو وعينهاه مفتوحتان. وقد قص الأب الياس شاهين مدير الدروس العربية في جامعة القديس يوسف للآباء اليسوعيين في بيروت النادرة التالية:
       يروي الأب شاهين: كنت في مدرسة مار يوحنا مارون في كفرحيّ من قضاء البترون، تلميذاً في الصف الذي يعلمه الخوري يوحنا طنوس. إلا أن معلمنا ما كان يحضر مطلقاً إلى الصف إلا متأخراً مدعياً أنه لا يسمع قرع الجرس الذي ينبه إلى بدء الصفوف. فكان التلاميذ أثناء غياب المعلم، يتشيطنون ويضجون ويلعبون مما لفت انتباه رئيس المدرسة وعاتب معلمنا على تأخره وعهد إلبّ أمر تنبيهه ساعة يدق الجرس تلافياً لكل تأخير. فكنت ساعة يدق الجرس أصعد إلى غرفة الخوري حنا وأقول له، لقد دق الجرس يا معلمنا. بهذه الطريقة أصبح الخوري حنا لا يتأخر بل يحضر إلى الصف عند ابتدائه.
       وقد حدث لي أن صعدت أحد الأيام إلى غرفة الخوري يوحنا ورأيته مستلقياً على سريره، فحييته وقلت له، لقد دق الجرس يا معلمي فالتفت إلي وهزّ رأسه دلالة على أنه سمعني.
       نزلت إلى الصف، وانتظرت مع رفاقي خمس دقائق ثم عشرة والخوري حنا لم يحضر. ومرت ربع ساعة ومعلمنا غائب. فقامت قيامة التلاميذ وشرعنا نتراشق بقطع الطبشور ونقفز على الطاولات ونضج ونصيح حتى بلغت ضجتنا مسامع الأب الرئيس فهرول إلى الصف ولما لم يجد فيه معلمنا سألني عما إذا كنت نبهته كالعادة إلى أن الجرس قد دق فأجبته بالإيجاب. فاوفدني إليه لإستدعائه إلى الصف ففعلت. ولما سأله الأب الرئيس معاتباً عن سبب تأخره أجاب أنه لم يسمع دق الجرس وأني أنا لم أنبهه كالعادة المألوفة. فقلت له أني صعدت إلى غرفته ونبهته. فأجاب بغضب: كلا إنه لم يرني ولم يسمعني لأنه كان نائماً. فقلت له: إنك لم تكن غافياً يا معلمي فعيناك كانتا مفتوحتين وقد أشرت برأسك برهاناً على أنك رأيتني وسمعتني.
       أجاب وقد بلغ به الغضب أشدّه: ألا تعرف أني اغفو وعيناي مفتوحتان؟
       فابتسم الأب الرئيس لهذه النكتة وضحك جميع التلاميذ. فهدأ الجوّ وَصَفا خاطر الخوري حنا، وقال: طيب طيب خذوا فرضاً لهذا المساء. أعدوا أقلامكم ودفاتركم. وشرع يزرع الغرفة خطى ذهاباً وإياباً وأملى علينا شعراً تعريب قصيدة واترلو "فكتور هيجو".
       ويعلق الأب شاهين على هذه الحادثة فيقول: عندما كبرت نسيت مما كنت أعرف ومن القصص والنوادر المدرسية الشيء الكثير إنما بقيت حيّة في ذاكرتي قصة الخوري حنا الذي يغفو وعيناه مفتوحتان. وما كنت أشك في صدقه ولا في كونه لم يرني ويسمعني على الرغم من عينيه المفتوحتين وإشارة رأسه. إلا أنني ما كنت أعرف كيف أعلل وأحلل وأفسر وضعه في ذلك الحين. ومع تقدم السن واستكمالي دروسي واتساع إطلاعي على الشؤون النفسانية إنحلت العقدة وفهمت أن الخوري حنا كان ساعة كلمته غائباً عن المرئيات والحسيات. منهمكاً في تعريب قصيدة واترلو شعراً. فعيناه مفتوحتان لكنه لا يرى بهما أو لا يدرك الصورة التي ترتسم فيهما. فكانت صورتي فيه لكنها أم تكن له لأنه كان في حالة لاوعي.
       وللخوري يوحنا طنوس، على ذمة الأب الياس شاهين، تعريب عدة قصائد شعراً، أمثال: المصلوب والحيوانات المصابة بالطاعون والغراب والثعلب وأوغست ومجد الرومان وانحطاطهم...

من ذكريات الأستاذ يوسف السودا
سُئل الأستاذ يوسف السودا أحد تلامذته في معهد القديس يوسف للآباء اليسوعيين عن ذكرياته عن الخوري حنا فقال:
       كان الخوري حنا من أفضل الكهنة وتقي السيرة ومن أطيبهم سريرة وأحلاهم معشراً، وكان بين الشعراء أسهلهم نظماً وأغزرهم مادة وأسرعهم خاطراً. أذكر فيما أذكر أنه كان في مسرحياته ينتقي من يمثّل أدوارها من الطلاب ويدخل في الأدوار قصائد تتلاءم ومزاج الممثل وطباعه وأخلاقه. وحدث مرة أنه كان قد عهد إلىّ بتمثيل دور في مسرحية "شهداء نجران" فترددت في قبول ذلك الدور لخلوه من قصيدة ولما أطلعته على ذلك استغرق في الضحك وقال: "ما دام هذا هو سبب عدم رغبتك في تمثيل هذا الدور فالحل بسيط أكتب هذه القصيدة". وأملى عليّ قصيدة أدخل إسمي فيها أذكر منها ما يلي:
إني استعرت بنار الحقد واحتبكت             في الصدر حيات سم كلها سودا
ويل العداة وويل الكل من غضبي         فلست عن كيد خصمي اليوم مردودا      
لا يطفئ النار في صدري متى اندلعت        إلا اللهيب على الأعداء موقودا
وليس يروي غليلي من لظى حنقي           غير الدماء تغطي السهل والبيدا
وليس يغلبني في كيده أحد                            انس وجنّي وما استثنيت صنديدا
إن كان يعبد غيري بعض الهة               فلست أعرف غير البغض معبودا
يا حارث السوء كن منّي على وجل         جردت سيف انتقامي اليوم تجريدا
يا ال نجران قصدي اليوم اسحقكم            قتلاً وذبحاً وتشنيعاً وتنكيداً
هذا وعيدي فلا ربّ يخلصكم                 إني مبددكم يا قوم تبديداً

       الخوري حنا يراهن ويربح ثلاثة أرطال من المشمش اللوزي
       ومن ذكريات أحد تلامذته الشاعر أنور إمام الذي درس لديه في بانياس فكان على حد تعبيره ألصق طلابه به، وأكثرهم إفادة منه.
       "ماذا أقول في الخوري حنا طنوس ؟
       أرئيساً روحياً كان أم واعظاً إجتماعياً يتقاطر لسماع عظاته وإرشاداته المسلمون قبل المسيحيين أم أديبا فذّا دان له الحرف وطاوعته الكلمة، يذكرنا بفحول الأدب العباسي...
أعالماً كان من علماء اللغة أم شاعراً ملهماً يصيد بكر المعاني ليكسوها درر الألفاظ ويجلوها عرائس لا أبهى ولا أجمل، أم أستاذاً كبيراً عشق الأدب العربي فأولاه عنايته تدريباً وتأليفاً، أم عالماً رياضياً يحل مسائل الجبر العويصة، كما تحل مسائل الحساب الذهني، أم رائداً للمسرح العربي القومي وضع من المسرحيات المستقاة من التاريخ العربي ما بلغ حد الإبداع، أم خطيباً دانت له أعواد المنابر يتلاعب بأفئدة السامعين وتتدفق الفصاحة والبلاغة على لسانه تدفق السيل، أم رائداً من رواد القومية العربية غناها شعره وأبرزها في مسرحياته وبثها في طلابه ليتمّوا رسالته فكانوا من بعده مشعل كفاح ونضال.
       إنه كان كل هؤلاء جميعاً.
       كان يدرسنا الأدب العربي من العصر الجاهلي إلى صدر الإسلام والعصر الأموي إلى العصر العباسي فإلي عصر النهضة يملي علينا الدروس على شكل محاضرات ولم نره مرة استعان بكتاب. يملي ونكتب ودخان اللفائف يتصاعد حلقات حلقات ونظراته تشرد في البعيد البعيد وبين حين وآخر تومض في عينيه لمحة خاطفة تدلنا على أنه تصيد فكرة جديدة. وكانت طريقته تعتمد على البحث والتحليل لنفسية الشاعر ولما تأثر به، مظهراً حسناته وعيوبه وذلك ببحث دقيق ممتع تقتصر عنه حتى كتب الأدب الأجنبية. وكثيراً ما كنا نقارن بين ما يمليه علينا وبين دروس الأدب الفرنسي "ديغرانج" فنجد أن دروس أستاذنا أكمل وأجمل وامتن وأعمق.
       حين تنظر إليه تشعر بالطمأنينة والثقة تملأان نفسك وروحك. كان محبة خالصة وحناناً جماً، طلابه أبناؤه.
       وأثناء فترة الصيام عند المسيحيين كان يعظ في الكنيسة فكانت دارها تغص بالمستمعين المسلمين لأن وعظه كان شاملاً إنسانياً رائده المحبة والخير لبني البشر أجمع.
       ومما أذكره عنه هذه النادرة التي تدل على ثقة الخوري حنا بطلابه حين دعاني إليه في نهاية عام 1932 وقال لي أمام جمع من الأساتذة: يا أنور لقد تراهنت مع الأستاذ وديع حداد، استاذنا في اللغة الإنكليزية، على أنك تحفظ فيها ستين بيتاً من الشعر الجاهلي في ساعة واحدة، وله أمر انتقاء القصيدة فلا تجعلني في الرهان خاسراً وتخيب أملي. أجبته: على الله الإتكال. فاختار لي الأستاذ حداد لامية العرب للشنفري. وما كادت تمرّ الساعة حتى عدت إليه وقد حفظت القصيدة بكاملها فربح أستاذي الرهان وكان ثلاثة أرطال من المشمش اللوزي نلت منها نصيبي كباقي الأساتذة.
       لم أكن أدري عهد ذاك أنه، رحمه الله، وقد لمس لدي ذاكرة قوية يريد أن ينميها ويبثّ فيّ الثقة بالنفس. وقد جنيت من ذلك أطيب الثمار حتى أني كنت الشاعر الوحيد الذي ألقى قصيدته غيباً في مهرجان الشعر الرابع في ذكرى أبي فراس الحمداني في حلب وقد أربت القصيدة على السبعين بيتاً.

شخصية ومواهب الخوري حنا
       من يصدّق أن هذا الشخص المهمل الذري المظهر والشكل كان غني العقل، وغني القلب بالأخلاق، فقلما توفرت في شخص من الثروات العقلية والروحية والأخلاقية، ما توفر في شخصية الخوري يوحنا طنوس، كان كريم الخلق، نديّ الكف، مترفعاً عن المادة، محتقراً للخيرات الترابية سميح الأخلاق، متواضعاً. كان حكيماً إذا استشرته، وشاباً إذا هوسته، وفتى إذا داعبته، وطفلاً إذا لاعبته وحجة إذا ناقشته.
       كاهن ورع تقيّ، ترك الدنيا وتخلّى عن خيراتها الترابية وزهد في المغريات الزمنية، فرفض المال والشهرة والمجد وكل ما يتكالب في سبيل الحصول عليه إنسان، واستظل لواء الكهنوت جندياً في خدمة جوهر الدين ومُثله وأهدافه السامية. عاش فقيراً ومات فقيراً لا يملك حتى ثمار قلمه ونتاج عقله.

الخوري حنا يُلَقـِّب نفسه
سألته مرة، لماذا أنت على هذه الحال يا أبانا ؟
       أجاب بالفرنسية، les deux bouts se touchent أي طرفا الحبل يلتقيان، ثم فكر قليلاً وأضاف، إسمي حنا ولكل إسم حنا لقب.
       فهناك يوحنا المعمدان ويوحنا الإنجيلي ويوحنا فم الذهب ويوحنا الدمشقي ويوحنا الحبيب ويوحنا الصليب Jean de la Croix  ويوحنا الشجاع Jean sans Peur ويوحنا بدون أرض Jean sans Terre  وفي حوارنا يوحنا الكذاب ويوحنا البكاء... وصمت.
فقلت له: وبعد فأي لقب يلازمك أنت. أجاب بضحكة لا أعذب ولا أحلى وقال بالفرنسية متعمداً التورية في اللفظة: Jean sans Livre  أي حنا لا كتاب له ولا له مال. ثم قال مرتجلاً:
لكل حنا بهذا الكون شهرته             وحنا طنوس لا طرس ولا فلس
       وفعلاً لم يكن لديه من كل تأليفه وآثاره كتاب واحد أو مخطوطة واحدة، كما أنه كان لا يملك فلساً. وعندما كان يصله شيء من المال كان يبذره ويوزعه دون حساب. كان يؤلف ويرمي، وتآليفه جمعها سواه، وهنالك قسم كبير منها لا نعرف له مقرّاً.
       اعتزل الدنيا، والعزلة كما قال أمين الريحاني: داء أو دواء أو غذاء. فكانت للخوري حنا الغذاء كل الغذاء. كانت غذاءه الروحي استمد منها تأملاته الروحية، وكانت غذاءه الفكري ينهل منها تفكيره، وكانت غذاءه الخيالي والأدبي استوحاها بأشعاره وروائعه الأدبية.
       وكان واسع الآفاق، عميق الثقافة، شامل الإطلاع، يجمع في شخصيته إلى خصب الخيال عقلاً رياضياً مدهشاً حتى أنه كان وهو في عقده الثامن يناظر طلاب الهندسة في حل عمليات حسابية و"حزازير" يقتضي حلها معرفة تامة بالعلوم الهندسية والجبرية وإلمام بالعلوم الفيزيائية والكيميائية.

ورثت النقيضين، الشاعريّة من والدي والعقل الرياضي من خالي
       كنا نستغرب من هذه المواهب المتناقضة المتآلفة فيه، مواهب الرياضيات والحسابات ومواهب الشعر والخيال. فسألناه مرة عن سر اجتماعها فيه، فقال: والدي كان شاعراً عامياً فورثت عنه الخيال والشاعرية، وخالي "فنيانوس" كان ذا عقل حسابي مدهش مع أنه كان أميّاً، فورثت عنه العقل الرياضي.
       ومما يروي عن خاله فنيانوس أنه حصل مرة قحط ومحل في المواسم فكان أبناء منطقة البترون يقصدون شخصاً ثرياً عرف "بطوبيا عمشيت"  في بلدة عمشيت من منطقة جبيل يشترون من محاصيل أراضيه وأملاكه من الحنطة ومختلف الحبوب ما يقتاتون به.
       وكان طوبيا المذكور قد وصلت إليه الأخبار المدهشة عن فنيانوس. فلما قصده فنيانوس ليبتاع من عنده ما يحتاج إليه من مواد غذائية أحب أن يمتحن ذكاءه ويتثبت شخصياً من موهبته الرياضية ومقدرته الحسابية. فقال له أنا مستعد أن البى طلبك إذا استطعت أن تقوم بالعمليات الحسابية التي سأطرحها عليك وإن أخطأت في حساباتك رددتك خائباً دون أن أبيعك شيئاً ولو دفعت أضعاف أضعاف ثمن ما تود شراءه.
       واستقدم طوبيا حاسبه وشرع يبسط على فنيانوس العملية الحسابية والكاتب يدون ذلك فقال له: إذا اشتريت خمسة قناطير قمح لقاء كذا بشالك الرطل، وأربعة قناطير ونصف شعير لقاء كذا نحاسة الإقة، وقنطارين وربع حمص لقاء كذا... الإقة، وتعددت الأصناف وتعددت الأسعار. فكم يكون ثمن كل ذلك ؟
       وبعد فترة قليلة من الوقت أجابه فنيانوس، وقد كان أميا لا يحسن الكتابة ولا القراءة، يكون ثمن كل ذلك مبلغ كذا...
       وعندما انتهى الحاسب من عمليات الضرب والجمع أعطى النتيجة وكان الفارق بين جوابه وجواب فنيانوس بضعة بشالك. فقال طوبيا لفنيانوس، لن أبيعك شيئاً اذن، لأنك أخطأت في الجواب. فأجابه فنيانوس، محاسبك أخطأ وجوابي هو الصحيح وراجع الكاتب قيوده فثبت أن الحق إلى جانب فنيانوس وأن الجواب الذي أعطاه كان الجواب الصحيح. عندئذ تأكد لطوبيا العمشيتي صدق ما يروى عن فنيانوس وعن قوة موهبته الحسابية فوهبه مجاناً ضعف ما جاء يشتري من حنطة وحبوب.
       وكان الخوري حنا يتمتع بحافظة غريبة، حتى أنه كان راوية لكل قصائده ومختلف رواياته يستعيدها ساعة يُطلب منه ذلك. وإذا ضاع الكثير من آثاره الشعرية ونتاجه الأدبي فلأنه كان لا يكتب شيئاً. وما بقي من آثاره الأدبية فهو ما دونه سواه أو ما استكتبه لأصدقائه. ويروى عنه في هذا الصدد الأعاجيب والمدهشات، أروي منها على سبيل المثال ما كنت فيه شاهد عيان وسامع لها.

النادرة الأولى "أبي قد خان"
كنت ورفاقاً لي في عهد التلمذة والدراسة، نتمرن على تمثيل رواية البطل المجهول. وبعد أن حفظنا أدوارنا وإتقاننا أداءها، إرتأينا ان ندعو الخوري حنا لإبداء رأيه فينا قبل تمثيل الرواية أمام الجمهور فلبى الدعوة.
       وكنت أنا أمثل دور قسطنطين. وما كدت أصل، في إحدى القصائد التي يخاطب فيها قسطنطين والده مالك أبي الغيث، إلى البيتين التاليين:
ادري بأن العدى في الليل زاحفة              تزيد تحتل ظلماً قمة الجبل
ادري بأن الرقيب اليوم يقدرنا         ادري بأن أبي قد خان واخجلي!
       وما كدت ألفظ "أبي قد خان" حتى انتفض الخوري حنا بقامته المديدة الفارعة وصاح غاضباً والشرر يتطاير من عينيه، من أجاز لكم أن تحرفوا قصائدي وتصلحوها. أنا لم أقل "أبي قد خان" بل أبي الغدّار". أجبته باننا نسخنا هذا المشهد من المنتخبات الأدبية لجامعها الأب بشير أجيا اليسوعي. واريته النص المثبت في الكتاب المذكور. فقال: لا لا، أنا لم أقل ذلك أروني المخطوطة الأصلية، هنالك تحريف.
       وذهبنا إلى بيت الأب يوسف وفتشنا في الصناديق عن المخطوطة الأصلية فعثرنا عليها مهلهلة ممزقة وأتينا بها الخوري حنا فإذا البيت هو كما يلي:
ادرى بأن الرقيب اليوم يقدرنا         ادرى بان ابى الغدار واخجلى
       عندئذ ضرب الخوري حنا كفه على جبهته وقال: أنا الخوري حنا لا أنسى شيئاً لا أنسى شيئاً. كل حرف من آثاري مطبوع هنا وأشار إلى رأسه.
       وشرع يلقي علينا درساً في الفرق بين "قد خان" وكلمة "غدار". فالدال المشددة التي تليها الف وراء تجعل الكلمة أحسن أداء وأقوى تأثيراً في الجماهير وأوفى للمعنى المقصود، فضلاً عن أنها تفسح للممثّل مجال القيام، بالإشارة اللازمة التي تكمل معنى اللفظة.
       أما عبارة "قد خان" السلسلة الناعمة فاينها من كلمة "غدار" التي إن لفظها الممثل على المسرح كما يجب أن تلفظ فأشبع الدال تشديداً، وأطال نَفَسَه مع الألف، تهدر بين الجماهير هديراً يصل إلى أقصى القاعة.

النادرة الثانية قصيدة في حزب الكتائب اللبنانية
       اما النادرة الثانية فقد حدثت في صيف عام 1946. كان حزب الكتائب اللبنانية قد أعدّ حفلة خطابية في قرية كفيفان من قضاء البترون، دعا إلى حضورها جميع أهالي المنطقة. وطبعت إعلانات ووزعت مناشير تحمل أسماء الخطباء واسم الخوري يوحنا طنوس في مقدمتهم. إلا أن المرحوم والدي الذي كان يعرف الخوري حنا حق المعرفة كان ينبهني قائلاً: لا تنسى الخوري حنا. لاحقه كي لا يسهو عن باله نظم قصيدته. فكنت أذهب إليه صباحاً طالباً منه أن يملي عليّ قصيدته لأتثبّت من أنه قد أعدّها فيقول: عد في المساء. وأعود في المساء فيقول: لم انظمها بعد، عد صباح غد باكراً. وتمضي الأيام والخوري حنا لا ينفذ وعده.
       وأتى نهار السبت وشاعرنا يؤرجحني بين يوم وآخر وبين صباح ومساء وموعد الحفلة في النهار التالي أي نهار الأحد.
       وصعد المرحوم والدي إلى القرية وسألني عما فعل الخوري حنا فأجبته، لا شيء. فأوفدني إليه داعياً إياه إلى قضاء العشية معاً، ففعلت ولبّى الخوري حنا الدعوة حالاً وهرول مسرعاً وهو يجهل سبب الدعوة.
       ولما فهم المرحوم والدي أن الخوري حنا لم ينظم قصيدته بعد، تأبط ذراعه وسار معه إلى إحدى غرف البيت، وأجلسه على المعقد بعد أن وضع أمامه طبقين من العنب والتين وكميات من اللفائف وقال له: "لن تخرج من هنا إلا بعد نظمك القصيدة. وهوذا ولدي معك فاستكتبه ما تجود به قريحتك". وأغلق الباب علينا. فقام الخوري حنا غاضباً حانقاً مزمجراً يضرب على الباب بقبضتي يديه صارخاً، ما هذا العمل؟ ما هذه الحيلة؟ هل أنا ولد يزربني؟ ولما ثبت له أن لا مجال للخروج قال: لا حول ولا قوة إلا بالله العظيم. والتفت إلى طبقي العنب والتين فطفت على وجهه إبتسامة لا أحلى ولا أعذب، فأشعل لفافة من التبغ وارتد إلى الطبقين يلتهم العنب والتين وقام يتمشى وقال، أكتب. ولم تمضي علينا ثلاثة أرباع الساعة حتى كان الخوري حنا قد أملى علي ستين بيتاً من الشعر.
وأطل صباح اليوم التالي فقصدت شاعرنا أعرض عليه قصيدته بعد أن نسختها بخط جليّ لعله يعيد النظر فيها فيصحح وينقح ويضبط بعض عباراتها وقوافيها إذا وجد ما يحتاج إلى ذلك. فقطب ما بين حاجبيه وصاح بي غاضباً، عد إلى بيتك، أنت غبي جاهل. ألا تعرف أن الخوري حنا قد اصبحت قصيدته مطبوعة هنا وأشار إلى رأسه.
       وابتدا المهرجان الخطابي الساعة الثالثة بعد الظهر. وكانت قاعة مدرسة النصر في كفيفان وساحاتها غاصة بالجماهير. أما الخوري حنا فلم يحضر. أسرعت إليه في غوما لأرى ما أصابه ودهاه. فإذا هو يلعب بالورق مع ثلاثة من أبناء القرية. ولما سألته عن سبب عدم حضوره المهرجان ضرب كعادته بكفه على جبهته وقال: نسيت نسيت.
       وانتقلنا إلى كفيفان إلى حيث يقام المهرجان، فصعد شاعرنا توّا إلى المنبر والقى قصيدته دون أن يحمل ورقة فإذا معظمها يختلف عن القصيدة التي أملاها عليّ عشية اليوم السابق وكان يحمل على كتفيه عبء الثمانين عاماً من العمر.
أما قصيدته التي يربى عدد ابياتها على الستين فاقتطف منها ما يلي:
لئن يفتخر في الناس يوماً مفاخر              فكل فخار خص بابن الكتائب
فلله من جمعية عز شأنها               فكانت لنا أعجوبة في العجائب
على صخرة المبدأ القويم اساسها             فليست تبالي عند عصب النوائب
فخمسون الفا عدهم كل واحد           بألف غذا عدت رجال التحارب
ثعالب تعوي كي تهد حصونها          وهل يرهبن أسداً عواء الثعالب
نسور الفلا في الجو حلق سربها       وماكولها لحم القطا والأرانب
يهيب بكم أرز الخلود، أنا لكم          لكم وحدكم من دون كل الأجانب
الا واحفظوا عهدي نظير جدودكم      لتبعد عني كل وثبة واثب
الا واجمعوا حولي الشباب كتائبا              وصونوا ترابي الحرمن كل غاصب
الا واجعلوا لبنان رب قلوبكم           ومرمى امانيكم ومبدا المذاهب
الا واجعلوا لبنان في الشرق جنة      تتوق لمىها ملوك الأعارب
لتخفق في الشرق القصى بنوده         وتحنو لعلياه عروش المغارب
إلى أن يقول وقد تناول العَلَمَ من أحد الواقفين إلى جنبه
أيا أرزتي تفديك روحي من الأذى     وتفدي بنيك من مقيم وغائب
وقّاك اله العرش من كل نكبة           ورقاك في الأفلاك فوق الكواكب
الا حمّلوني راية الأرز لحظة          تُعيدوا بها عهد الشباب لشائب
وإن مات يوماً فادفنوني بظلها          يهنئ رمسي كل آت وذاهب
لان رفاتي تستلذ نسيمها                وابعث أن مرّ النسيم بجانبي
وداعاً يا أهل المروءة والوفا           الا فاذكروني يا شباب الكتائب

وعام 1948 تذكرت الكتائب اللبنانية وصيّة الخوري حنا فأقامت له في غوما مهرجاناً حافلاً إحياءاً لذكراه نهار الأحد الواقع في 18 نيسان 1948 ووضع رئيس الكتائب بلاطة رخامية على قبره. وقد كان لبادرة الكتائب أطيب الأثر في نفوس جميع عارفي الخوري حنا مقدرين فضله، فعقدت الصحف في لبنان عامة والشمال خاصة عن هذا المهرجان المقالات الطوال، أورد في ما يلي مقتطفات منها:
كتبت صحيفة المستقبل الطرابلسية في عددها رقم 414 الصادر في 22/4/1648: في غوما حيث يرقد فقيد الأدب والفصاحة والبلاغة المغفور له الخوري يوحنا طنوس، في هذه القرية اللبنانية الجميلة احتفل اقليم الشمال في الكتائب اللبنانية بمهرجان لم يشهد الشمال أروع منه فحضره رئيس الكتائب الأعلى الشيخ بيار الجميل واركان الحزب في بيروت والشمال ودخل موكبهم غوما بين اقواس النصر ومعالم الزينة فاستقبلهم الأهالي بالهتاف والتصفيق والحوربة والزغردة. وافتتحت الحفلة الخطابية بالنشيد اللبناني ثم تعاقب على المنبر فطاحل الأدباء والشعراء. وفي النهاية وضعت الكتائب لوحة رخامية على ضريح الأب يوحنا طنوس وغادر الرئيس الأعلى وأركان حزبه قرية غوما فشيعتهم الجماهير بالهتافات العالية.
       ومما كتبته صحيفة الأفكار الطرابلسية في عدد رقم 415 الصادر في 24/4/1948: "منذ عامين تقريباً توارى عن دنيا الأدب والشعر أبو الأدباء والشعراء في لبنان نعني المرحوم الخوري يوحنا طنوس أول من حمل شهادة دكتوراه في الفلسفة وصاحب عشرات المسرحيات الخالدة والمؤلفات التي لم تُطبع بسبب قصر ذات يده، توفاه الله عن عمر حافل بالجهاد في حقل الأدب والعلم وتناساه اللبنانيون كما تناسوا الكثيرين ممن طواهم الموت على عبقرية بائسة... غير أن الكتائب اللبنانية التي قطعت على نفسها عهد القيام بالواجب تجاه الذين خدموا ويخدمون لبنان أينما وجدوا لم تنس واجب تكريم هذا العبقريّ المنسيّ فأحيت نهار الأحد حفلة كبرى في مسقط رأسه "غوما" تكلم فيها عدد من الخطباء، فمجدوا ذكرى الخوري يوحنا طنوس وغرسوا على قبره زهرة لن تذبل إلى الأبد.

       وكتبت الرقيب في 24/4/1948: كان المهرجان رائعاً جداً في جو "غوما" هذه البلدة التي أنجبت فقيد المعاهد، والأداب، واللاهوت، والفلسفة والشعر، الخوري يوحنا طنوس.

وجاء في الزمان بتاريخ 19/4/1948: الطيب الذكر والواسع الرحمة الأب يوحنا طنوس كان علما من أعلام العربية وإماماً من أئمة اللغة وأحد المساهمين القلائل في وضع حجر الأساس لفن الرواية المسرحية في لغة الضاد، حيث لا تزال مسرحياته الخالدة تمثل حتى اليوم في المعاهد الكبرى. لقد مرت فترة من الزمن على وفاته، وشاءت الكتائب اللبنانية ذات المكرمات الطيبة في هذا المضمار أن تقيم للمرحوم حفلة تذكارية في مسقط راسه "غوما" فكان لها يوم أمس حفلة موفقة كل التوفيق. وفيها وفّى خطباء المهرجان حقّ الراحل الكريم من الإشادة بنبوغه وأعماله.
       هاتان النادرتان اللتان جرّني سردهما لإيراد مقتطفات مما كتبته الصحف بشأن الخوري يوحنا طنوس، قد رويتهما رغبة في إعطاء فكرة خاطفة عن قوة ذاكرته التي تدعمها وتعززها سرعة خاطر مدهشة.

سرعة خاطره
       إن سرعة خاطر الخوري حنا في قرض الشعر والارتجال حدّث عنها ولا حرج. فهناك عدّة مسرحيات أملاها على تلامذته ارتجالاً، إذ كان يدعو إليه عدداً من الأشخاص فيوزع عليهم الأدوار ثم يملي عليهم وهم يكتبون. وتجمع هذه الأدوار المتفرقة فإذا هي مسرحيات.
       وبصدد التحدث عن سرعة خاطره أذكر هذه النوادر: محبتي لعليّكم سرّية.
       كان الخوري يوحنا كما روى الدكتور بطرس ديب يدرّس عام 1930 في بانياس في محافظة اللاذقية في الكلية الوطنية لصاحبها الأستاذ يوسف الخوري الباني. وفي نهاية العام الدراسي نظمت المدرسة حفلة وطلب من الخوري حنا نظم قصيدة يلقيها في هذه المناسبة. الا ان شاعرنا كعادته تهامل وتكاسل ولم ينظم قصيدته الا أثناء قدومه إلى الحفلة. فألقاها متطرقاً إلى الأخوة القومية التي تجمع الإسلام والمسيحية على صعيد واحد، مادحاً كافة الطوائف مثنياً على جميع رؤساء الأديان والمذاهب إلا الطائفة العلوية التي سها عن باله ذكرها ومدح مشايخها.
       أما القصيدة فقد ذكر الأستاذ أنور إمام، بيتين من مطلعها لا يزالان عالقين في ذاكرته وهما:
بالعلم تحيا الأمة العربية                وبه تشع حياتها القومية
وبفضل أنوار المعارف تنجلي         حجب الظلام وتسطع الحرية
       ولما انتهى الخوري حنا من إلقاء قصيدته أعطيت الكلمة لإحدى الانسات الأدبيات فاعتلت المنبر شاكرة الخوري حنا مثنية على بلاغته وفصاحته، معاتبة إياه لعدم إشارته إلى الطائفة العلوية ومشايخها، وفيما هي تلقى كلمتها والعبارات تتدفق على لسانها، اشرأب الخوري حنا على المنبر، فاستوقفها مجيبها فوراً ببيتين جامعين مانعين دامغين على نفس وزن قصيدته وقافيتها ورويها. ماذا عساه يقول في هذا الموقف الحرج ؟ وكيف يتخلّص من هذا المأزق ؟ إليكم ما أجابها به:
قامت تخاطبني فتاة عليّهم              لِمَ قد نسيت مشايخ العلوية ؟
فاجبتها، لا تعجلي بملامتي             فمحبتي لعليكم سرّية.
       فصفق له الجمهور طويلاً وأكبر الجميع ذكاءه وفطنته وسرعة خاطره وحسن تخلصه.

وأفاك حوت يبلع الحيتانا
عام 1933 كان سيادة المطران الياس شديد يقوم بزيارة إلى اللاذقية نيابة عن غبطة البطريرك الماروني مار أنطون عريضه. وكان برفقة المطران الخوري يوحنا طنوس وشقيق المطران الأستاذ نسيب شديد من اده في قضاء البترون.
       ودعاهم فائمقام اللاذقية عبد الله الياس إلى تناول طعام الغداء في بيته فلبوا الدعوة. وفيما هم على المائدة قدم طبق الدجاج للمطران أولاً ثم للخوري حنا ثانياً  ونسيب شديد الذي كان خفيف الروح يحب المداعبة والفكاهات حضرته النكتة لما رأى الخوري حنا يغرف من طبق الدجاج النصيب الوافر فقال: هذا "الواوي" لن يترك شيئاً من الدجاج.
       فأجابه الخوري حنا: احفظ لسانك يا نسيب وإلا... ثم حضرته النكتة فضحك وارتجل بضعة أبيات من الشعر أثبت البيت الذي لا يزال عالقاً في ذاكرة الرواة وهو يخاطب في صدره اللاذقية ويشير في عجزه إلى الأستاذ نسيب شديد:
"ان كان حوتك بالعا يونانه            وافاك حوت يبلع الحيتان"

الخوري حنا طنوس والخوري يوسف الحداد
       كان بين الخوري حنا طنوس والخوري يوسف الحداد صداقة شدت أواصرها حرفة الأدب وعززتها زمالة في الكهنوت وفي التدريس. وفيما كانا مرة يتناولان طعام الغداء على مائدة البطريركية المارونية في بكركي أديرت أطباق الدجاج مع الأرز على المدعويين الجالسين على المائدة ومرّ الطبق على الخوري يوسف الحداد فأحب ان يختار منه فخذ الدجاج دون الأرز ويزيله من تحت الفخد حتى سقط اخيراً في صحنه.
       وكان الخوري حنا يراقبه فضحك، فانتفض الخوري يوسف الحداد من ضحكة الخوري يوحنا التي لفت بها انتباه الجالسين حول المائدة إلى تصرفه فاستاء وارتبك وكان حلو المعشر حاضر الذهن سريع الخاطر، فتغطية لارتباكه وقف وقال: "الخير يعرف أهله فتقدما". فأجابه الخوري حنا فوراً مكملاً البيت" من كثر نكشك في الأساس تهدما".
       فاستملح الحاضرون حسن تخلص الأب حداد وسرعة خاطر الخوري حنا وصفقوا طويلاً لبادرة الاثنين التي أضفت على المأدبة جوا من المرح المستحب.

الخوري حنا والشيخ رشيد الخازن
       كان الخوري يوحنا طنوس وقد سيم كاهناً منذ مدة وجيزة، في زيارة للمطران يوسف صقر في بكركي عام 1866. وحضر إلى بكركي الشيخ رشيد الخازن قائمقام كسروان فدخل على المطران ولما وقع بصره على الخوري حنا ورآه ذريّ المظهر وأشعث الشعر وطويل الأذنين ساله بلهجته الكسروانية الشهيرة: من أين أنت يا شماس؟
       أجابه الخوري حنا: أنا بدون استحقاق كاهن.
الشيخ رشيد: كان على أبيك ان يجلب لك قطيعاً من الماعز ترعاه بدلاً من أن يجعل منك كاهناً
المطران صقر: الخوري حنا يا شيخنا رشيد من الأشخاص الذين نفتخر وتعتز بهم فهو أديب وشاعر وخطيب.
الشيخ رشيد: ولكن لماذا اذناك كبيرتان مثل اذنى الحمار ؟
الخوري حنا: (وقف ورفع يديه وقال) سبحانك يا رب كل شيء خلقته بحكمة ما عدا أذنيّ اللتين كان يجب أن تضعهما في رأس هذا الشيخ السفيه.
       فضحك عندئذ الشيخ رشيد واستملح النكتة وأحبّ أن يمتحن ذكاء الخوري حنا فقال له، هل تستطيع أن تبرهن على أني سفيه، أجابه الخوري حنا: قال الحكماء: المرء باصغرية قلبه ولسانه. وقال السيد المسيح: اللسان ينضح بما في القلب. ولما كان لسانك سفيهاً، فقلبك سفيه وإذا كان لسانك وقلبك سفيهين فكلّك إذن سفيه.
       فضحك الشيخ رشيد ضحكة مدوية وطلب من الخوري حنا ان يعيد هذا البرهان على مسمع من غبطة البطريرك الحويك.


إن الرهابين أنجاس مناكيد
       عام 1940 كان الخوري حنا في المطرانية المارونية في طرابلس عند سيادة المطران عبد. وكان في المطرانية راهب قسّ ضخم الجثة، مستدير البطن، أكول، يدخن اللفائف بكثرة، لا يغادر المطبخ إلا نادراً. وكلما طلبه المطران لمرافقته في زياراته الرعائية اعتذر وقال أنه مدعو عند أحد أنسبائه لتناول الطعام وقد أعد له دجاجة. وكان هكذا يختلق دائماً الحجج كي يعفيه المطران من مرافقته وتقييد حريته بملازمته ومراعاة أصول البروتوكول في زياراته.
       وكان في المطرانية كاهن ذكي فهيم لبيب يترقب الفرصة ليوقع الشر بين الخوري حنا والقس المذكور للتفكهة والتسلية. ففي مساء أحد الأيام كان المطران في قاعة المطرانية يحيط به عدد كبير من الكهنة وأفراد المطرانية وفي عدادهم القسّ الراهب والخوري حنا، يتسامرون ويتبادلون الأحاديث والقصص والنوادر.
       وكان القسّ المذكور جالساً إلى جانب الكاهن الذي أشرت إليه يصغيان إلى الأحاديث أما الخوري حنا طنوس فكان متنحياً جانباً من القاعة شارد الفكر حاضراً غائباً. ورأى كاهننا أن الفرصة مؤاتية للإيقاع بين الخوري حنا والقس فيخلق بذلك فصلاً من الهزل والمرح يسلّي الحاضرين ذلك المساء. فدنا فمه من أذن القس وقال له: "غريب طباع الخوري حنا أنظر كيف هو شارد الفكر لا يجارينا في أحاديثنا. وأنه يكرهك كثيراً ويقول أنك تعيش لبطنك. فهل يمكنك أن توجه إليه كلمة تلفت بها انتباه سيادة المطران إليه فيراه في وضعه المضحك".
       فوقف القس وصاح موجهاً كلامه للخوري حنا:
       يا خوري حنا طنوس                   يا تعتيرك شو منحوس
       قضيت عمرك تجد وتكد                وما عرفت تجمع فلوس
       فانتفض الخوري حنا وقال: إسمح لي يا سيادة المطران أن أجيبه، فالدفاع عن النفس حق مقدس. وارتجل هذه الأبيات:
يا ايها القس هلا كنت معتبراً           إن الرهابين أنجاس مناكيد
لا تلتهي اليوم في أكل الدجاج فما      بطن الرهابين للذات مرصود
وليس يجمل بالرهبان قاطبة           أن يعبدوا بطنهم والله موجود
أكل الدجاج ليوم العيد مدخر           وكل يوم لكم يا صاحبي عيد
فقام القس متأهباً لمغادرة القاعة فأجلسه الحاضرون بأمر من المطران وأكمل الخوري حنا
أسلافكم بالتقى كانوا أئمتنا              ودأبكم في سبيل البطن تبديد
أين العقائد والأخلاق، قد طمست       في مرجل قد غلت فيه المقاديد
كان بطنكم للخمر خابية                ملآنة عصرت فيها العناقيد
وقام القس وهرب من القاعة فلحق به الحاضرون وأعادوه. فأكمل الخوري حنا:
لا تدخلون بيوت الله عن ورع         وفي المطابخ أبطال صناديد
أما اللفائف فالمعروف عندكم           قبل القداديس للشيطان تمجيد
أضحت صوامعكم بالهجر خاوية       كأنها في ربى لبناننا بيد
عندئذ لم يعد القس يحتمل مزيداً على ما احتمل فنهض وغادر القاعة راكضاً ولم يعد إليها مطلقاً. وبعد سنين قلائل انتقل إلى رحمته تعالى إثر وعكة سببها عسر في الهضم.


مدح الرهبان
       غنيّ عن القول أن الأبيات السابقة التي ارتجلها الخوري حنا طنوس في مناسبة استثنائية وظرف خاص ساده حب التفكهة والتسلية لا تعبّر مطلقاً عن رأيه في الرهبان الذين عايشهم القسم الأكبر من حياته فكان له بينهم عدد كبير من التلاميذ والأصدقاء والرفاق ربطته بهم صلات وثيقة من المودة والإحترام.
       وخشية أن تحمل هذه الأبيات على غير محملها فيساء تأويلها أو يشك في الروح الذي أملاها لا نرى بدّاً، ولو لم نكن في معرض بسط أراء شاعرنا وتحليل تفكيره، من إثبات بعض أبيات من قصيدة نظمها عام 1924 في الرهبانية اللبنانية وما أسدته من خدمات وذلك جلاء لكل التباس ودفعاً لكل شك.
سبحان رب البرايا في بني البشر         كم حار في حكمه السامي ذوو الفكر
لله رهبنة لبنان منشاها في                    روضة ازدهرت أبهى من القمر
فيها الحياء لمن يبغي الكمال وفي             جنينة النسك منجاة من الضرر
يا راغباً في حياة لا يلامسها                  ضرّ ولا يعتربها باعث الكدر
لذ في حماها تجد فيها ملائكة                 حياتهم كلها صفو بلا كدر
...
قُل للذي عابهم في الناس عن سفه            ماذا يضرّ عوا الذئب بالقمر
إن كان يؤذي رعاع القوم فضلهم             فكم تأفف من نور ذوو الضر
هم ناشرو الدين والتمدين دون مرا-          هم رافعون لوا العلم في العصر
تلك المعاهد والطلاب تملأها                  تلك الملاجئ برهان مدى العمر
أسمى التصانيف في اللاهوت دبجها          يراع قس بعقر الدير مستتر
هم مدنوا الغرب في أيام ظلمته               هم هذبوا الشرق بالأمثال والعبر
لبنان لولاهم لاندكّ منهدماً                           ولم ير الدين فيه غير مندثر
في كل مزرعة قد كان مدرسة                يديرها راهب للعلم في الصغر
قد علموا الناس حرث الأرض فانقلبت        ترب إلى التبر احجار إلى درر
كم قام للدين والدنيا مطارنة                   أضحى دثارهم مسحاً من الشعر
حوّا وفرحات عبد الله عمدتهم                 كانت عزيمتهم كالقادم الذكر
وفي كفيفان قديس عجائبه                     تترى بها الناس في السحر
وشربل بسناء الطهر زنبقة                    فواحة العرف في لبنان منتشر
لا تنس لبنان رهبانا بفضلهم                  اعلوا منارك فوق الانجم الزهر
ان كنت تبغي فخاراً في مفاخرة              في فضل ابائك الرهبان فافتخر

فوراً يراق من العروق دِماء
       كان ذلك نهار الأحد في السادس والعشرين من أيلول عام 1943 يوم تنادى بعض شبان قرية "غوما" وأدباء جوارها لإحياء حفلة تكريمية للخوري حنا بعد أن قضى خمسة وأربعين عاماً يعلم ويرشد ويهذب ويهدي ولم يفكر أحد في تكريمه. وحرص أولئك الشبان على ألا يطلعوا الخوري حنا على هذه الحفلة خوفاً من أن يتهرب ويتغيب عن القرية فيحرمهم بذلك فرصة تكريمه بحضوره.
       وعندما اتخذت كافة الترتيبات اللازمة وازفّ موعد الحفلة واجتمعت الجماهير أرسل إلى الخوري حنا من يدعوه ويصحبه إلى الحفلة. وحضر الخوري فألقيتْ خطب وأنشدتْ قصائد. وأتى دور شاعرنا لإلقاء كلمة الختام فصعد إلى المنبر والدموع تنهال من عينيه لشدة تأثره وأرتجل قصيدة وهو يجهش بالبكاء فما بقي شخص بين الجمهور لم يبك. وفي ما يلي بعض أبيات منها:
غوما الفتية بلدتي الحسناء                    هي في سما النابغين سماء
وبعد تغزله بقريته والتغني بها يقول:
كل المنى في أن أرى لبناننا            فردوس عدن ساد فيه رخاء
في أن أراه دولة وشعارها                    حرّية وعدالة وإخاء
قولوا لمن يعتز في أمواله              شرف الشباب ثقافة وذكاء
وشهامة وحمية ومروءة                ومحبة لبلاده ووفاء
إن الفتاة جمالها بجلالها                حسن الفتاة طهارة ونقاء
وفتاة غوما كل حسن قد حوت         خلقا وخلقا فالثناء سواء
كحل بعينيها بدون تكحل               سحر الشباب المقلة الكحلاء
كم من فتى فتنت بهم لحاظها           إن لمفتنون العيون دواء
وطني عشقته في الصباح ولم أحد     عن حبّه لمّا أطلّ مساء
ويزيد حبى ساعة عن ساعة           حتّى تدق الساعة الخرساء
لو اعوزت وطني الدماء ليرتوي
       وهنا تعسر عليه إنجاز البيت. فردد الشطر الأول مرة وثانية وثلاثا ولم يفتح الله عليه بالعجز. عندئذ سحب أحد الحاضرين مسدسه وأفرغ رصاصاته في الفضاء فما كان من الخوري حنا وقد التهب حماسة وبلغ به الهوس أشد حدوده، فأمسك بالطاولة الصغيرة التي أمامه وبحركة عصبية رماها وراءه فاتحاً ذراعيه صائحاً:
                                                فوراً يراق من العروق دماء
       فإذا البيت بعد إكمال عجزه يصبح هكذا:    
لو اعوزت وطني الدماء ليرتوي              فوراً يراق من العروق دماء

خلصني الصليبي من صليبي
       كان أحد أنسبائه خليل الخوري من قرية مراح الزيات في قضاء البترون قد ألم به وجع في عينيه. فقصد الطبيب الدكتور شاهين الصليبي المتخصص في أمراض العيون يستشفيه. ولما شفي من مرضه عاده الخوري يوحنا وراح يرتجل الشعر مهنئاً إياه بشفائه. فقال له خليل الخوري: أنا لولا الدكتور صليبي لكنت في حالة يرثى لها. لو تنظم لي بيتين أو ثلاثة لأرسلها إلى الطبيب أشكره بها على الخدمة التي أسداها إليّ لكنت لك من الشاكرين. فقال له الخوري حنا لبيك. إذن أرسل له هذه البيات:
سألت الناس عن طب لعيني           فدلوني على أدهى طبيب
طبيب ما له في الأرض ثان           هو المشهور شاهين الصليبي
صليبي كان من وجع بعيني            فخلصني الصليبي من صليبي

دين يُفرّق مبنيّ على الكذب
       كان الخوري يوحنا عام 1933 يدرّس في الكلية الوطنية، ببانياس في اللاذقية- سوريا، لصاحبها الأستاذ يوسف الخوري الباني، الأدب العربي واللغة والترجمة. ففي أواخر السنة الدراسية كان طلابه قد تمرنوا على تمثيل مسرحية للخوري حنا عنوانها "العمران" وهي شعلة حماس وإباء" ودعوة إلى التحرر. معظم أشعارها على وزن وقافية معلقة بن كلثوم تمجد الحرية والشمائل العربية.
       فعلى لسان ابن عمرو بن كلثوم يقول الخوري حنا:
هزار الايك كن حراً وغرد            ولا تعلق بفخ الناصبينا
فما أشهى الحياة إذا استقلت            وأشقاها إذا ما قيدونا
برانا الله أحراراً كراماً                 فيا قوم الطغاة ظلمتمونا
       وعلى لسان عمرو بن كلثوم:
"حرام على المستعمرين الطغاة               يستعبدون أسود الصحراء
ونسور الفلاة، خلوا الفضاء لفارس الزرقاء، ودعوا الوفاء لأمة عرباء"
وعندما يقول الملك للحارث الذي كان يحذره من غضبة الشعب: "الشعب جِمال، بأنفها خطام، يقودها،
"يجيبه الحارث: "وإذا هاجمت الجمال فيا ويح الأطفال والرجال".
       فقد حدث قبل موعد تمثيل المسرحية وبعدها ما هو جدير بالذكر انقله كما رواه أحد تلامذة الخوري حنا في تلك المدرسة الأستاذ أنور إمام.
       روى الأستاذ أنور إمام ما أورده حرفياً: "قبل موعد الحفلة ببضعة أيام أتيت إلى الخوري حنا في غرفته وكان كعادته مستلقياً على سريره ينفث دخان لفافته في حلقات متصلة وقلت له: الا تريد أن تلقي كلمة أو قصيدة في الحفلة.
أجاب: إني أتكلم من أول المسرحية حتى آخرها فقل أنت أنك أصبحت لذلك أهلاً.
أجبته: أنا سأكون في لباس التمثيل فكيف يتسنى لي ذلك ؟ عندئذ سرح الخوري حنا بصره في المجهول وغارت عيناه منتقلاً إلى عالم آخر وبدا يدندن بنغمة يصل إليّ وقعها ولا أتبين كلماتها. ثم أشعل لفافة من أخرى وقال: إن شئت أن تكتب فافعل أما أنا فلا أكتب خشية أن أنسى. وبدا ينظم وقد انعزل عما حوله وسبح في مسارح الخيال وبدأت أكتب ما يمليه ارتجالاً فإذا بين يدي القصيدة الشهيرة التي مطلعها:
يا روح يعرب جد العنصر العربي           طال الثواء بلحد مظلم خرب
       وجاء يوم الإحتفال – والكلام لأنور إمام – وغصّت باحة المدرسة على رحبها بالمدعويين من سوريا ولبنان يتصدر صفوفهم حاكم دولة العلويين الفرنسي "شوفلد" وبين الفصلين الثاني والثالث اعتلى الخوري حنا المسرح فاستقبل بعاصفة من التصفيق وبدأ يلقى قصيدته بصوته القوي النبرات وإلقائه التعبيري وكل بيت منها يستعاد مرات ومرات.
يا روح يعرب جد العنصر العربي           طال الثواء بلحد مظلم خرب
هبّي من الرمس حومي فوق أمتنا             صُبّي عليها حَصْياً نخوة العرب
تلك الحميا إذا جاشت مراجلها  في          الصدر لاشت حميا خمرة العنب
يا ابن الوليد وسيف الله منصلتا               ماذا الرقاد بحمص طيلة الحقب
انفض غبار الردى واستل صارمك
الصافي الفرند مصوغا من ضيا الشهب
واقطع به رأس شيطان الخمول فقد    ساد الخمول وبات العرب في كرب
يا خاملين اتقوا شر الخمول فما        من خامل يرتقى في سلم الرتب
بنى أمية سودوا إنّ عهدكم             قد كان بالفتح عهد الأمة الذهبي
في الهند في السند في الأفغان سطوتكم      
في الشرق في الغرب عن بعد وعن كثب
. . .
يا طارق، الفاتح البلدان منتضياً        سيف الخطابة ما أمضى ظُبا الخطب
يا فاتح الغرب بعد الشرق منتصراً     وفاتح البحر قبل البر بالقَضَبِ
سلبت من بطل الاغريق شهرته        فيا لها شهرة تغنى عن الحسب
هرقل عاموده لقبته جبلا               لطارق خالد في ذلك اللقب
قم مع زياد خطيب العرب مستعرا     لظى أشد اضطراما من لظى اللهب
وأظهر لهذا الملا طرا وقل لهم         إن التعصب مدعاة إلى العطب
جدودكم باتحاد الراي قد فتحوا         ممالك الأرض من قطب إلى قطب
وأنتم ما فعلتم في تفرقكم                هل أنزل الله ذا التفريق في الكتب
أوصى المسيح بحب الناس قاطبة      حتى نكون جميعاً أخوة لأب
وسن أحمد دستورا لأمته               حتى توحد في مجموعها العصبى
اشد رابطة للناس عنصرهم            أما اللسان فقد يغنى عن النسب
والدين رابطة ما الدين تفرقة           دين يفرق مبنى على الكذب
انجيلكم يا نصارى في كنائسكم         وفي الجوامع قرآن لمنتسب
تفقهوا يا رجال الدين واتعظوا          ولا تشوهوا وجه الحق بالريب
       وتعالت هتافات الجماهير تغمرها نشوة الحماس، وقد استخفتها الحمية، مكبرة مهللة مترنحة والتهبت الأكف مصفقة، وارتفعت الأصوات مستعيدة هذه الأبيات وبإشارة باليدين يوقف الخوري حنا التصفيق والهتافات فتهدأ العاصفة وتستكين وتنحبس الأنفاس في صدور الجماهير، وقد تسلط عليها رهن نبرة من نبرات صوته ولهثة من لهاثه. ويستأنف قصيدته:
لكل قوم من الأقوام مذهبه              ومذهب الكل
       ويتوقف شاعرنا يجيل في الحضور عينيه النارية النظرات فتقع على الشاعر والأستاذ نوفل الياس فيكمل البيت موجها إليه الكلام "إحذر يا أخا العرب".
ويجيبه نوفل الياس حالا "حبّ الشرق والعرب" ويشير الخوري حنا برأسه وبكفه معبراً عن عدم رضاه عن الجواب قائلاً: لا. وتشرئب الأعناق وترهف الأسماع فإذا الخوري يوحنا يعيد البيت فيكمله على هذا الشكل:
لكل قوم من الأقوام مذهبه              ومذهب الكل حبّ العنصر العربي
يا عنصرا طبق الدنيا بشهرته          تفديك نفسي من الاكدار والكرب
يا فرع عدنان سدت الكون ممتطيا     متن السماكين فوق النجم والسحب
أبناء يعرب نفسي رهين عنصركم     إن مت يوماً فداكم صحت واطربى
ما رأيكم بانحطاط العرب من أفق     العليا إلى مسكن الأموات بالترب
لقد جرى في دمائهم غير عنصرهم    بعدى المخالط سوء الخلق كالجرب
ساد الأعاجم في الإعراب واحتكروا   أمر الجيوش فضاعت نعرة العصب
...
من دهاة العرب رائدهم                روح العروبة قامت دولة العرب
من بنى الأحرار قائدهم                روح الجدود أعيد المجد للعقب
لا تعزلوا الشيخ إن فارت حميته              فشب ينشد في أبائه النجب
لا تعجبوا يا بنى الإسلام من هوسي   أنا أنا من صميم العنصر العربي

       انتهت الحفلة، والكلام للأستاذ أنور إمام، بنجاح منقطع النظير. أما الحاكم الفرنسي "شوفلد" وسائر المدراء الفرنسيين وكبار موظفيهم فكان الإنفعال ظاهراً على وجوههم والغضب بادياً على قسماتهم بعد ترجمة قصيدة الخوري حنا لهم وإطلاعهم على معانيها ومراميها.
       وكانت لهاتين المسرحية والقصيدة ذيول ونتائج منها:
1-  أزكت روح الإباء العربي والقومية العربية وبعثتا روح التحرر من قيود الإستعمار. والقصيدة ظلت سنين عديدة على كل شفة ولسان.
2-  وضع الخوري يوحنا بمسرحية "العمران" ومسرحية "النعمان الخامس" التي مثلت في السنة السابقة، الأساس للمسرح القومي في اللاذقية وبقيت بانياس لمدة طويلة مركز الإشعاع بالنسبة لهذا الفن.
3-  ثارت خفيظة الفرنسيين على الكلية الوطنية فقطعوا عنها المعونة السنوية التي كانت تنالها من المفوضية الفرنسية كما حرموها الأساتذة الفرنسيين العسكريين خريجي الجامعات الفرنسية الذين كانوا أثناء خدمتهم العسكرية الإلزامية في سوريا يكلفون التدريس في المعاهد لقاء رواتب زهيدة رمزية.
4-  أصبحنا نحن تلامذة الخوري حنا في نظر الفرنسيين من العناصر الخطرة التي يُنْظَرُ إليها بريبة وشك.
5-  قام الفرنسيون بضغط كبير لإبعاد الخوري حنا طنوس عن سوريا ولجأوا إلى البطريركية المارونية في لبنان، فاستدعته إليها وغادر بانياس في صيف 1933 ولم يعد إليها فكان آخر عهدنا به. إنتهى ما رواه الأستاذ أنور إمام.



القصيدة التي شفعت به وخلّصته من الإبعاد عن لبنان
       لبّى الخوري حنا طنوس دعوة البطريركية المارونية إليها وغادر بانياس. وكان الفرنسيون ينوون إبعاده عن لبنان لولا وساطة غبطة البطريرك الماروني الذي تذرع بقصيدة للخوري حنا في الفرنسيين فشفعت به لديهم وخلصته من التدابير التي كانوا ينوون اتخاذها بحقه.
       أما القصيدة فقد ألقاها في احتفال أقيم بطرابلس لضباط الجيش الفرنسي ومطلعها:
حيّوا الجنود وحيّوا صاحب العلم              حيّوا الأسود سباع الحرب لا الأجم
وقد جرى له في هذه الحفلة نادرة يجدر بنا أن نذكرها:
       كانت الساحة المعدة لحفلة المهرجان غاصة بعشرات الألوف من الناس الذين تقاطروا من كل حدب وصوب لحضور الحفلة الخطابية ومشاهدة الضباط الفرنسيين بعد تلك الحرب الطاحنة التي انتصر فيها الحلفاء وفي مقدمتهم فرنسا.
       وكانت منصة الخطابة في آخر الساحة وقد اتخذت التدابير اللازمة لمنع أي كان من الوصول إليها أو إلى الصفوف الأمامية التي كانت مقاعدها مخصصة لكبار الضباط الفرنسيين والرجال الرسميين. وإلى جانب منصة الخطابة المقاعد المعدة لخطباء الحفلة. ابتدأت الحفلة وتوالى على المنبر بعض الخطباء والخوري حنا طنوس لم يحضر بعد. وإذا به يأتي متأخراً كعادته مهرولاً متعثراً بجبته ويجتاز الصفوف قاصداً مقعده بين الخطباء. فما كان من المكلفين بالنظام إلا أن اعترضوه وقال له أحدهم: "إلى أين يا محترم، عد إلى الوراء".
أجابه الخوري: "أريد أن أجلس في مقعدي".
قال له: لا مكان لك في الأمام.
قال الخوري: بلا أرى مقعداً شاغراً.
وإذا بمخاطبه يقول له بهزء وسخرية وبلهجة هي إلى الغضب أقرب منها إلى اللطف: "قلت لك عد إلى الوراء. المكان الشاغر ليس لك ولا لأمثالك. إنه للخوري حنا طنوس".
وتنبه أحد الحضور إلى الحوار بين الإثنين فهبّ من مقعده موفّراً على الخوري حنا عناء التعريف عن نفسه قائلاً : "أهلاً بالخوري حنا أهلا".
       ففهم عندئذ المكلف بالنظام والتشريفات أن الكاهن الرث الثياب الذريّ الشكل إنما هو الخوري حنا طنوس عينه الذي يحتفظ له بمقعده بين الخطباء فأفسح له المجال وقاده إلى مقعده معتذراً له عما بدر منه لعدم معرفته إياه.
أما القصيدة فنقتطف منها الأبيات التالية:
حيّوا الجنود وحيّوا صاحب العلم              حيّوا الأسود سباع الحرب لا الأجم
حيّوا فرنسا بصوت هاتف طرباً       تحيا فرنسا ليحيا سائر الأمم
إنّا مُحيّوك فوق الكل يا علما           قد بتّ أشهر من نار على علم
يا راية الحب في الآفاق ما خفقت      إلا لها خفق القلب البطى الهم
مثلثُ اللونِ تسبى الخلقَ طلعتُه         رمز المحبة والإحيان والكرم
فإن حمرته باتت تحدثنا                إني فديت الملا طرّا بسفك دمي
قلب البرايا فرنسا فائراً دمها           وهل حياة بلا قلب لذى نسَم
لولا فرنسا لبات الجور منتشراً        تسطو الذئاب على الحملان والغنم
وإن زرقته تسمو باعيننا               نحو السما مصدر الأنوار والنعم
ففي فرنسا أضاء العلم فانتشرت       أنواره في بلاد العرب والعجم
نور الحضارة منها كان منبعثاً         نور أنار الورى في حالك الظلم
رجالها سابقوا الأنام قاطبة             بكل فن فحازوا السبق من قدم
واليوم فوش غدا في الحرب ليث ثرى        فوق القوارس والأبطال كلهم
في الراين في العرن في الالزاس سطوتهم   في البحر في الجو في الأدغال في القمم
رأيت في زرقة الألوان عزتهم         أما البياض فرمز عن طباعهم
طبع الفرنسيين ما أسماك في نظري   طبع الفرنسيين كنه اللطف والكرم
الحزم والعزم والإقدام شيمتهم          والعدل والنبل والايناس في عظم
انصر إلهي فرنسا وانصر الحلفا              ووطد السلم عربونا لنصرهم
       فلولا هذه القصيدة التي تذرّع بها غبطة البطريرك الماروني فشفعت به لدى الفرنسيين، لكانوا اصرّوا على إبعاده عن لبنان كما أبعدوه عن بانياس عقب قصيدته عام 1933 "في العنصر العربي"، والأثر الذي تركته في نفوس أهالي اللاذقية عامة وبانياس خاصة.



[1][6] - مجلة الورود لصاحبها بديع شبلي الذي درس الخطابة وأوزان الشعر على يد الخوري حنا طنّوس، تُصدر عددا خاصّاً عن فقيد الأدب والشعر والمسرح عن مهرجان التكريم له بتاريخ يوم الأحد 7 حزيران 1970 في قاعة الأونسكو بمناسبة مرور 25 سنة على وفاته.

ليست هناك تعليقات: