2014/09/26

السيدة العذراء في بلدة مغدوشة مغارتها وتمثالها وعيدها في 8 أيلول الأب جورج صغبيني

السيدة العذراء في بلدة مغدوشة مغارتها وتمثالها وعيدها في 8 أيلول

بلدة مغدوشة
تبعد بلدة مغدوشة عن العاصمة بيروت نحو 50 كلم. ويبلغ عدد سكانها المقيمين نحو عشرة آلاف نسمة. تصل إليها من بيروت – فالدامور – فصيدا – فمفرق جنوبي صيدا على جسر سينيق يُعرف “بمفرق مغدوشة” ومنه إلى الشرق وعلى بعد خمسة كيلومترات تُطل مغدوشة متربعة على رابية جميلة ترتفع عن البحر نحو 300م.
دخلت المسيحيّة منطقة مغدوشة وصيدا والجنوب منذ فجر المسيحيّة. فالسيّد المسيح نفسه "زار تخوم صور وصيدا" وفيها أجرى معجزات ذكرتها الأناجيل المقدسة. وفي القرون الأولى للمسيحيّة، وبنيت كنيسة على اسم الكنعانيّة في صيدا تخليدًا لهذه الأعجوبة. وكرز رسل المسيح في مدينة صيدا وجوارها، في طريقهم من القدس إلى أنطاكية، وأسسوا جماعة مسيحيّة فيها.
لم يحفظ لنا التاريخ معلومات مفصّلة عن الحضور المسيحي في صيدا والجوار، لأن السجلات أتلفت مع الزمن، لما أصاب المنطقة من دمار وحريق وزلازل وحروب وغزوات.
أما بلدة مغدوشة فهي عريقة في القدم، سكنها اللبناني منذ تواجده في هذه البقعة من الأرض. ومغدوشة هي مكان طبيعي جميل حيكت حولها الأساطير، إذ يُروى إن عشتروت إلهة الحب والجمال عند الفينيقيين سكنتها بين أشجار الصنوبر والزيتون وكروم العنب... وكان الناس يؤدون لها فرائض العبادة إذ ينتقلون من صيدا باحتفالات دينية حاملين القرابين والذبائح ليقدموها للإلهة عشتروت استرضاءً لها في المكان حيث تقيم والذي أضحى اليوم مقاماً للسيدة العذراء...
ويحكى أن القديسة هيلانة والدة الأمبراطور الروماني “قسطنطين الكبير” طلبت من ابنها سنة 324م. أن يحطم الهياكل والأصنام الوثنية العائدة لعبادة عشتروت ويجعلها “معبداً” مقدساً لعبادة العذراء مريم، في المحلة نفسها المعروفة حتى اليوم “بمحلة البرج” والتي شيد عليها تمثال للسيدة العذراء سنة 1963.
وهناك برج أقامَهُ الصليبيون في المكان الذي يقومُ مكانه اليوم تمثال العذراء. أما الرواية المحلِية فتقولُ بأن كلمة منطرة تعني المكانَ الذي يتمُ فيه الإنتظار، وبأنَه أطلِقَ على المغارة لأنَّ مريمَ العذراء إنتظرت فيه إبنَها يسوع عندما جاء إلى منطقة صور وصيدا.
وإن كلمة “مغدوشة” سريانية الأصل كما يقول أنيس فريحة في كتابه “أسماء المدن والقرى اللبنانية”: إن كلمة مغدوشة مشتقة من السريانية “مكدسون” أي جامعو الغلال في أكداس وعرمات.
ويُرجّح أن إسم مغدوشة محرّف من كلمة “قدش” السريانية، التي تعني قدس، وقدوس ومقدسة فاشتقّ عنها إسم مغدوشة أي المقدّسة.

كنيسة سيدة مغدوشة
في بلدة مغدوشة كنيسة واحدة تجمع أهالي البلدة. وإن بناء كنيسة السيدة في مغدوشة يعود إلى بداية المسيحيين الأوائل... أما البناء الحالي للكنيسة فقد تمّ على يد أبنائها ما بين سنة 1885 وسنة 1895 على أنقاض كنيسة قديمة لا يُعرف زمن بنائها. ويعود الفضل في بناء الكنيسة هذه إلى المطران باسيليوس حجّار 1886- 1916، الذي كانت له اليد الطولى في إنجاز بناء الكنيسة لما قدمه من مساعدة وتشجيع لأهالي مغدوشة.
وفوق الباب الجنوبي للكنيسة لوحة كتب عليها: “بنيت هذه الكنيسة على إسم السيدة المنطرة وقد تم بناؤها في 15 أيلول سنة 1895″. ويبلغ طولها من الباب الغربي إلى الإيقونسطاس تسعة عشر متراً ونصف المتر، وعرضها ثلاثة عشر متراً ونصف المتر من الداخل. أما سماكة الجدران فيتراوح ما بين الخمسة وسبعين سنتمتراً والمتر الواحد.

اكتشاف المغارة
يروي المطران حجار، ويوافق على روايته الأب جوزيف غودار اليسوعي، صاحب كتاب العذراء في لبنان: "على التلة مرعى خصيب. ذهب الراعي المجهول الإسم إلى التلة، وانتشرت الماعز على الهضبة. فاطمأن وجلس على جذع الصنوبرة ينفخ في مزماره، وما أن أوقف النفخ قليلاً حتى تعالى ثغاء جدي من بعيد، فأسرع الراعي ولكن بدون جدوى. فقد سقط الجدي في بئر عميقة، ولا حيلة للوصول إليه. فأخذ قداحة الصوان، وانتزع سكينه من وسطه، وأخذ يقتلع العليق ويحرقه ليفتح طريقاً. ويا لفرحه حين أبصر باباً ضيقاً للولوج إلى البئر. فدخل زحفاً إلى المغارة واقترب خائفاً. وعلى ضوء العليق المشتعل رأى بصيص نور يسطع داخل المغارة، فاقترب مذعوراً، ولكن ما لبث خوفه أن تحول إلى فرحٍ عظيم لما أبصر صورة لوالدة الإله موضوعة على المذبح. فسجد وقبل الصورة، ونهض مسرعاً إلى البلدة ونشر الخبر. فدقت الأجراس، وتجمع أهل البلدة، ونزلوا جميعهم إلى الصورة ليشاهدوا الصورة. فكان الفرح عظيماً جداً، وتعالت الأناشيد لوالدة الإله.
“وأما كاهن الضيعة فأسرع وأخبر سيادة راعي الأبرشية المطران اغناطيوس البيروتي الذي كان السيد البطريرك طاناس في زيارته فأسرعا إلى البلدة وكان ذلك سنة 1726، وأعجبا كثيراً بالكنز الثمين، وأمرا على الفور أن يجدد المركز لعبادة والدة الإله. وبدأت العجائب تظهر بكثرة، و"أخذت قوافل الزائرين تزحف إلى المغارة وأصبحت الوفود تتقاطر إليها من جميع الطوائف ومن مختلف البلدان. وجعل اليوم الثامن من أيلول، يوم ميلاد والدة الإله، عيداً شعبياً ترى فيه وجوهاً مختلفة، وتسمع لغات متباينة لكثرة المحتفين بالعيد المقدس”. (كتاب سيدة المنطرة، المطبعة المخلصية، 1956)
ويقول المطران حجار: “بقيت هذه المغارة على حالتها الأولى يأتيها الزائرون للإستشفاء من أمراضهم إلى أن أمر سالفنا الطيب الذكر المطران تيودوثيوي قيوجي بترميم هذا المعبد وإصلاحه، وذلك على قدر ما سمحت به الحال. فبنى له قناطر أمام بابه، وحجرة لراحة الزوار. ولم يسمح بأن يقع تغيير في هيئة المغارة القديمة، خلا تكليس بعض أماكن منها مما قضت به الحاجة. وقد اشترينا بعض أملاك في جوار المعبد كما عمل سلفاؤنا. والمغارة لم تزل على هيئتها الأصلية للمحافظة على القديم".

تمثال السيدة العذراء
منذ أن تسلم المطران باسيليوس خوري كرسي الأبرشية في صيدا سنة 1947، راودته فكرة تعزيز هذا المقام العجائبي، ليصبح نقطة انطلاق لترسيخ التقوى في القلوب، ولا سيّما في المنطقة الجنوبية من لبنان. وحدّث المطران أبناء الأبرشية عن رغبته في تحقيق حلمه، وهو إقامة مزار فوق رابية المنطرة قرب المغارة المقدسة يعلوه تمثال للعذراء المجيدة حاملة طفلها الإلهي على ذراعيها.
لم يكن سيادته يملك حين باشر بالعمل إلا الثقة بالعذراء مريم وانطلق في مشروعه لا يأبه للمصاعب والعراقيل المادية، واستمر في العمل دون هوادة، معتمداً على مساعدات المحسنين التي تدفقت من كل ناحية وصوب. وبوشر العمل في شهر أيلول عام 1960.
بعد إنجاز المرحلة الأولى من المشروع، حول المطران باسيليوس خوري اهتمامه إلى تمثال العذراء. فسافر إلى إيطاليا وفي شهر نيسان 1962 وتمّ الإتفاق على أن يكون تمثال العذراء حاملة الطفل الإلهي من البرونز. فتم صنعه وبلغ طوله ثمانية أمتار وخمسة عشر سنتيمتراً، وعرضه ثلاثة أمتار ونصف المتر، ووزنه ستة أطنان. وفي ربيع 1963 وصل التمثال إلى مرفأ بيروت، وانتقل إلى ساحة المنطرة وسط هتافات شعبية وصلوات ارتفعت نحو السماء.
وفي 16 أيار 1963 تمّ وضع التمثال على قاعدته، فتعالت الترانيم الدينية وذرفت دموع الإبتهاج. ورسم سيادة راعي الأبرشية أن يقام عيد كبير، كل عام في السادس عشر من شهر أيار أو الأحد الذي يليه، يخلد ذكرى رفع التمثال.

كاتدرائية السيدة
شيّد المطران جورج كويتر (1987-2007) شرقي المغارة كاتدرائية جديدة، مساحتها ألفٌ ومئتا متر، زُينَت واجهة مدخلها بفسيفساءِ تُمَثِّلُ صورة بشارةَ العذراء.

إستلمت مطرانية صيدا ودير القمر للروم الكاثوليك على يد رئيس أساقفتها المطران الياس حداد إدارة ثانوية السيدة مغدوشة عام 2009- 2010.

جعلت الكنيسة يوم مولد السيدة العذراء في الثامن من أيلول عيداً لمزار سيدة مغدوشة.

شفاعة سيدة مغدوشة مع جميع المؤمنين والزائرين مقامها المبارك. آمين.

ليست هناك تعليقات: