2013/08/09

القديسة ريتا شفيعة الأمور المستحيلة و المستعصية 22 أيار الأب جورج صغبيني



القديسة ريتا شفيعة الأمور المستحيلة و المستعصية


صورة: ‏القديسة ريتا شفيعة الأمور المستحيلة و المستعصية

عيدها في 22 ايار  

      ولادة القدّيسة ريتا
       وُلدت القديسة ريتا  في روكابورينا (إيطاليا) سنة 1381، لوالدين فاضلين تقيّين هما: "أنطونيو منشيني" و"أماتا فاري".
توفّيت في كاسيا في 22 أيّار سنة 1457. 
في عام 1628، أعلنها قداسة "البابا أوربان الثامن" طوباويّة
وفي عام 1900، أعلنها قداسة البابا "لاون الثالث عشر" قدّيسة.
       وُلدت القدّيسة ريتا في "روكابورينا" من مقاطعة "أومبريا" في إيطاليا والدها تقيّان فاضلان، تسامت فيهما قداسة الأخلاق السخيّة وحرارة التقوى والمحبّة الكريمة ومضى زمن طويل على زواجهما وطعنا في أيّامهما دون أن يرزقا ولدًا... وفيما كانت "اماتا" يومًا غارقة في تأمّلها رأت ملاكًا أكّد لها وصول صلاتها إلى عرش الله وسوف يرزقها ابنة تكون عظيمة أمام الربّ. وظهر لها الملاك ثانية وطلب منها أن تدعو الابنة "مرغريتا" فاختصرت باسم "ريتا".
       أبصرت ريتا النور في 22 أيار 1381 وقبلت سرّ العماد في النهار ذاته. ولم تمضِ أيّام قلائل على عمادها، حتّى أخذ والداها يحملانها في قفّة من الغزار، وينقلانها معهما إلى الحقل ويضعانها في ظلّ الأشجار. وفي ذات يوم انحدر خشرم نحل كبير وأحاط بها، وكانت نحلات كثيرة تدخل فمها وتقطّر فيه العسل دون أن تنخرها أبدًا كأنّه لم يكن لها إبر وأشواك. ولم تُصعد الطفلة صراخًا بل كانت تصدر أصوات التهليل. وفي تلك البرهة جرح أحد الحصّادين يده اليمنى جرحًا بليغًا بمنجله. فأسرع يطلب طبيبًا. وإذ مرّ بجانب الطفلة ورأى جماعة النحل تدندن حول رأسها، توقّف وحاول أن يطردها بيديه حتّى يخلّص الطفلة، وللحال انقطع نزيف الدم من يده واندمل جرحه. فصاح مندهشًا وأسرع إليه والدا الطفلة وعاينا ما كان. واعتبرا أنّ النحل الأبيض هذا كان أعجوبة سماويّة منحها الله لإيمانهما وصلواتهما، فقد جدّا في تربيتها على مبادئ الديانة فانطبعت في نفسها كما في قرص الشمع. وما كادت تبلغ سن التمييز حتّى بانت عليها أشعّة الفضيلة. وقد امتازت بخضوعها وطاعتها السريعة وبعاطفة حشمة رقيقة وبعطش لا يروى إلى معرفة الله وسيّدنا يسوع المسيح. وما كان يطبع في مخيّلتها منذ نعومة أظافرها صارت تحاول أن تعرفه وتحبّه. وقد درجت على معرفة  الأشياء الإلهيّة حسب إمكانيّات عمرها.
       سمعت ريتا ما حدث للقدّيس فرنسيس الأسيزي الذي عاش في تلك الأرض التي تعيش هي فيها، وتمنّت لو صلبت مع يسوع أو على الأقلّ لو شاطرته أوجاعه...
زواجها
       بينما كانت ريتا لا تفتكر إلاّ بالله وبأبويها الشيخين اللذين ما كانا يفهمان أسرار نفسها البتول، وكانا يفتكران بزواجها. وكانت في الثانية عشرة من عمرها. ومن جهة أخرى لم تتعوّد أن تخالف أمر أبويها الشيخين ولو بأصغر الأشياء. 
       عندما فاتحها أبواها بالزواج. لم ترفض طلبهما لأنّها تعوّدت إطاعتهما طاعة عمياء ولم تكن تريد أن تحزنهما فتزوجت "بول فرديناندوس" طالب يد ريتا، لم يكن شابًّا دمث الأخلاق أو محبّ السلام بل كان قاسيًا اشترك أحيانًا بالمبارزة. إذن كان بإمكانه أن يسبّب شرًّا جسيمًا إذا لم ترضى ريتا وأهلها بهذا الزواج...
       لكنّه تعالى مقابل هذا العذاب منحها نعمًا أخرى خاصّة نعمة اهتداء زوجها وخلاص نفسه وقد حذت بذلك حذو القدّيسة "مونيكا" والدة القدّيس "أغسطينوس"، فاقتدت بمثالها لكي يجعلها مثل الصبر البطولي عند دخولها بيت زوجها الجديد. ولا بدّ أنّها صلّت كثيرًا لاهتداء زوجها وتحمّلت بصبر جميل وسكوت حدّة طبعه وإهاناته وشراسة أخلاقه واعتنت بتدبير وأناقة بيتها ليرى فيه زوجها كلّ ما يرضيه...
       كان لزوج ريتا أعداءٌ كثيرون بسبب ميوله للمقاتلة. وعندما كان يهان كان يترقّب فرص الانتقام وإذا لم يتمكّن من شفاء غليله كانت صاعقة غضبه تنقضّ على زوجته المسكينة بالتجاديف والكلام الفظّ والضرب القاسي، وقد كادت يومًا ان لا تفلت من الموت لو لم تدبّر العناية الإلهيّة ويحضر أبواها قبل حلول الكارثة. ومع كلّ هذا كانت كالحمل الوديع تتحمّل بصبر ودون أن تفتح فاهًا إلى أن أتى اليوم الذي انتصر فيه الحمل على الذئب وأعادت نفس زوجها إلى الله.
       أولادها
 من هذا الزواج رزقها الله ولدين فقبلتهما ككنـز ثمين يجب أن تحافظ عليه بكلّ اعتناء. فكانت تنظر فيهما النفس قبل الجسد ولا ريب أنّها كرّستهما لله وصلّت لأجلهما كثيرًا وخوفًا من أن يرث طفلاها ميول والدهما كانت تزيد في الأصوام والتقشّفات وتعمل على زرع بذور الفضائل في قلبيهما. وبينما كانت ريتا تعتني بتربية طفليها مات أبواها الفاضلان. حزنت ولا شكّ ولكنّها ضاعفت مساعدتهما بصلواتها الحارّة. وهكذا تتميم واجباتها كابنة وزوجة وأمّ، كانت ريتا تزداد استحقاقًا للسماء. والذي كان يعزّيها على فقد أبويها هو أنّها لم تكدّرهما في الحياة ثمّ لأنّ حياتهما الطويلة كانت حياة مسيحيّة فاضلة.
       منذ أن رجع زوجها إلى الله وأصبح يعيش عيشة عائليّة مسيحيّة وأصبحت عائلة ريتا كاملة السعادة لكن الورود لا تنمو ولا تتفتّح إلاّ بين أشواك عديدة فقدّيستنا التي تمرّنت على الاقتداء بالمسيح المصلوب لم يطل الوقت عليها حتّى طعنت برمح الألم الحادّ فإذ كان زوجها راجعًا ذات مساء من "كاسيا" هاجمه أعداؤه السابقون وقتلوه دون عناء فانفطر قلب ريتا لدى سماعها هذا الخبر المفجع وكان يهولها مفعول هذه الفاجعة على قلب ولديها، فحثّتهما ليصفحا عن قاتليه كما غفرت هي لهم من كلّ قلبها واهتمّت بدفن زوجها دفنة مسيحيّة وشرعت تضاعف الصلوات والإماتات لراحة نفسه.
       بعد هدوء انفعالها الأوّل على فقد زوجها حصرت اهتمامها بتربية ولديها اللذين كان لمثلها الطيّب وأقوالها الصالحة التأثير الكبير على قلبيهما لكن قوّة الشرّ تخنق أحيانًا قوّة الخير فكانا يسمعان غير كلام الأم ويشاهدان غير أمثالها وقد دفعهما البعض إلى الأخذ بثأر أبيهما فأصبحا يخالفان إرادتها ولا يصغيان إلى كلامها كما من ذي قبل وأنّ غريزة الدم سوف تقودهما يومًا إلى الشرّ. وبما أنّها كانت تفضّل خلاصهما الأبديّ على حياتهما الزمنيّة اتّخذت جانب البطولة وطلبت من يسوع المصلوب أن يأخذ ولديها بريئين من أن ينقادا يومًا إلى الشرّ. فندما على خطيئتهما وتصالحا مع الله ومات الشابان الواحد تلو الآخر بعد سنة واحدة من موت أبيهما. 
        دخولها الرهبانية
        انقطعت الرباطات التي كانت تعلّقها في الأرض فبقيت وحدها في العالم متّحدة بربّها، وحينئذٍ ودّعت ريتا هذا العالم متّكلة على معونة الله وذهبت تقرع باب راهبات القدّيسة مريم المجدلية الأوغوسطينيّات وبيّنت رغبتها الحارّة في الدخول في رهبنتهنّ فرُفض طلبها، فعادت دون أن تيأس من رحمة الله بل داومت صلواتها وإماتاتها، وذهبت مرّتين من جديد تقرع باب الدير المذكور وفي المرّتين لم تنل قبولاً فاستسلمت لإرادة الله القدّوسة ووكّلت أمرها إلى القدّيسين شفعائها وكانت قد ناهزت الأربعين، ورغم وجودها في العالم كانت تحيا حياة رهبانيّة محضة ممارسة بأمانة المشورات الإنجيليّة. وإذ رأى الله خضوعها التامّ لإرادته القدّوسة وثقتها الكبيرة برحمته الأزليّة تحنّن عليها. وبينما كانت في إحدى الليالي غارقة في التأمّل سمعت صوتًا يردّد: ريتا، ريتا!
       فاقتربت من النافذة لترى من يناديها وماذا يريد منها لكنّها لم تشاهد أحدًا. ففكّرت أنّها خدعت وعادت حالاً إلى التأمّل. لكن لم يمضِ وقت قليل حتّى عاد الصوت ينادي: ريتا، ريتا! فنهضت وفتحت الباب وسارت في الشارع فرأت شيخًا مع شخصين آخرين فعرفت بإلهام إلهيّ أنّهم شفعاؤها القدّيسون: يوحنّا المعمدان، أغوسطينوس ونقولا. فطلبوا منها أن تتبعهم فتبعتهم متحفّظة كأنّها في حلم وبقليل من الوقت وصلوا إلى كنيسة دير القدّيسة مريم المجدليّة ورغم أنّ الأبواب كانت مغلقة ومقفلة والراهبات غارقات في نومهنّ فقد أدخلها الدير القدّيسون الذين أرسلهم الله ليرافقوها، وتواروا.
       لـمّا نزلت الراهبات صباحًا إلى تلاوة الفرض دهشن لوجود هذه المرأة القدّيسة التي كانت طردت مرّات عديدة من بينهنّ وكيف تمكّنت من الدخول إلى الدير ليلاً والأبواب مقفلة فأخبرتهنّ ريتا ببساطة أعجوبة السماء وهنّ خضعن لصحّة قولها وقبِلنها في الرهبنة بين المبتدئات. ولم يطل الأمر حتّى زهت فضائلها وتألّق بدر كمالها الرهبانيّ. وقد كانت المواهب الخاصّة التي أنعم الله عليها بها والفضائل الجليلة التي زيّنها بها هدفًا لسوء الفهم وللإهانات والآلام التي تكمّل النفوس. ولأنّ قدّيستنا كانت قد تهذّبت في مدرسة المصلوب فقد قاومت أشدّ الصعوبات وتمرّنت على الفضائل الصعبة ومارست بنوع عجيب التواضع والصبر الجميل وخنقت حبّ الذات فيها وتعاطت أحقر الأشغال في الدير وأتعبها. وتجلّت بالمحبّة التي بواسطتها كانت كلاًّ للكلّ لتخفّف بقدر إمكانها تعاسات القريب الماديّة والجسديّة والأدبيّة. وهكذا كانت هذه النفس الجميلة تتقدّم في الفضيلة وتتهيأ لقبول أجزل النِّعَم الإلهيّة.
       إنّ الشيطان يجرّب النفوس حبيبة الله وقد نصب شراكه لقدّيستنا وسوّل لها إنّ الحياة الرهبانيّة ليست لمثلها فالأفضل أن ترجع إلى العالم.
       لكن هذه المرأة القويّة كانت تجيبه أنّها تكرّست لله مدى الأبديّة وستبقى أمينة في عهودها مهما كلّفها الأمر. جرّبها ضدّ الطهارة فأسرعت إلى المجلدة وأجبرته على أن يهرب مخجولاً وكانت تجلد جسدها ثلاث مرّات في النهار وكانت دائمًا تلبس مسحًا من الشَعر وثيابًا فيها أشواك تمزّق جسدها.
       قصدت الرئيسة أن تمتحن طاعتها فأمرتها أن تسقي عودًا يابسًا كلّ صبح ومساءً، وكان غصن كرمة معدًّا للنار. فامتثلت لأمر الرئيسة وجعلت تسقيه صبحًا ومساءً ببساطة مدهشة وظلّت على هذه الحالة سنة كاملة والراهبات ينظرن إليها مبتسمات وقد يكون ذلك تخشّعًا أو تهكّمًا.
       وفي أحد الأيّام نظرت الراهبات باندهاش وحيرة عندما رأين الحياة تدبّ في العود اليابس الذي نما كرمة عجيبة أعطت في حينها عناقيد يانعة لذيذة ولا تزال إلى الآن في بستان دير كاسيا شاهدًا على طاعة الأخت ريتا. فيبارك الكهنة أوراقها وعيدانها المطحونة ويستعملها المؤمنون مع الصلاة إكرامًا للقدّيسة فينالون نعمًا كبيرة وخصوصًا شفاءات عجيبة.
       إنّ ريتا كانت منذ نعومة أظفارها تشعر بميل قوى إلى آلام المخلّص بل كانت الآلام دائمًا موضوع تأملاتها. وكاسيا ليست بعيدة عن "أسيز". وكانت ريتا تعلم أنّ القدّيس فرنسيس الأسيزي قد قَبِل في جسمه سمات يسوع المصلوب ورُسمت جراحات يسوع في يديه ورجليه وجنبه وهكذا شاركه في آلامه الفدائيّة. فأصبحت هي أيضًا تحبّ أن تختم بصليب المخلّص لكنها لم تعتبر ذاتها أهلاً لهذه النعمة الفريدة فاكتفت أن تتأمّلها تأمّلاً كان يفقدها الشعور وكانت الراهبات يحسبن أنّها ماتت. وإذ كانت مرّة جاثية أمام صورة المصلوب توسّلت بحرارة إلى المعلّم الإلهيّ لكي يُشركها في أوجاعه وللحال انتـزعت شوكة من إكليل المصلوب وأتت وانغرست عميقًا في جبينها وأذاقتها ألمًا شديدًا حتّى أغمي عليها وكادت تموت. تحوّل جرح ريتا إلى قائح منتن، ولكي لا تزعج الراهبات برائحتها الكريهة التزمت أن تنـزوي في غرفة بعيدة حيث كانت راهبة تأتيها بالطعام الضروري. وحملت القديسة ريتا هذا الجرح الشديد الألم مدّة خمس عشرة سنة ولم تشعر بخفّة الوجع حتّى في نومها، فقاست كلّ ذلك ليس بصبر فقط بل بالشكر الجزيل للذي أهّلها لأن تشاركه في آلامه الفدائيّة. 
وبعد أن نذرت ريتا نذورها الاحتفاليّة شاهدت وهي غارقة في التأمّل، سلمًا يصعد من الأرض إلى السماء وفي أعلاه سيّدنا يسوع المسيح وهو يدعوها لتصعد السلّم بكرامة. وهكذا أصعد الله عبدته الأمينة على درجات السلّم السرّي. فحاولت بتواضعها أن تخفي مواهب السماء لكن لم يطل الزمن حتّى فاح عرف قداستها في الدير وفي كاسيا وانتشرت أخبار وساطتها لدى الله ومقدرتها على قلبه تعالى فأسرع إليها القاصي والداني وكانت بصلواتها تنال عجائب الاهتداءات والشفاءات العجيبة. وكانت تعزيتها الكبرى لـمّا سمحت لها الرئيسة بالذهاب إلى روما لزيارات يوبيل السنة المقدّسة عام 1450، ولتزيد نفسها تطهيرًا وتنال البركة البابويّة وخصوصًا لتكرّم ذخائر آلام المسيح الحنون. وقد طلبت من يسوع بإيمان أن يخفي جرح جبينها إلى أن تعود من روما دون أن يزيل ألمه عنها. فاختفى الجرح وبقي الوجع. ولـمّا عادت إلى كاسيا سمح يسوع بأن ينفتح جرح جبينها من جديد. على أنّ ثقل السنين وكثرة الأوجاع والتقشّفات انهكت قوى المرأة القدّيسة وأرغمتها على أن تسمّر على سريرها الفقير القاسي ولم تعد معدتها قادرة على احتمال الطعام حتّى القليل منه فأصبح قوتها الوحيد القربانة المقدّسة.
       وفاتها
        استمرّت القديسة ريتا على هذه الحالة طيلة أربع سنوات قاست في أثنائها آلاما لا توصف. وقبل وفاتها بثلاثة أيّام ظهر لها يسوع تصحبه أمّه القدّيسة العذراء مريم، وقال لها أنّها بعد ثلاثة أيّام تكون معه في السماء. فطلبت وقبلت الزاد الأخير والمسحة المقدّسة، وفي 22 أيّار سنة 1457 فاضت روحها الزكية الجميلة وتركت هذا العالم المغرور وحلّقت نحو السماء.
       وما كادت القدّيسة تلفظ نفسها الأخير حتّى مجدها الله بكثير من العجائب. وقد قرعت الملائكة جرس الدير فأسرعت الراهبات إلى غرفتها وهنّ يفكّرن برائحة الجرح المنتن الكريهة لكن ما كان أشدّ اندهاشهنّ لـمّا اقتربن من الجثّة الهامدة فوجدن الجرح مندملاً تفوح منه رائحة زكيّة ووجه ريتا جميلاً يطفح فرحاً وابتسامًا وقد تقدّمت إحدى الراهبات المشلولة اليد لتعانق القدّيسة وما أن عانقتها حتّى شعرت بشفاء يدها الكامل.
       نقل جثمانها الطاهر إلى كنيسة المعبد حيث عرض أيّامًا عديدة نزولاً عند طلب الجماهير التي تألّبت للتبرّك منه. وشعّ نور برّاق في غرفتها وانتشرت في أرجاء الدير رائحة عطر سماويّ وتحوّل جرح جبينها إلى ياقوتة وهّاجة كالألماس ونظرًا للحشد الكبير الذي تجمّع في يوم دفنها التزمت الراهبات بنقل جسدها إلى الكنيسة الخارجيّة بحفلة انتصار اشتركت فيها السلطات الدينيّة والمدنيّة.
       ونظرًا لكثرة العجائب التي أفاضها الله على طالبي شفاعتها نادى بها الشعب قدّيسة قبل أن تثبّت الكنيسة قداستها. ولـمّا تكاثرت الخوارق التي جرت بعد موتها قرّرت السلطة الكنسيّة والمدنيّة معًا وضع جثمانها في محلّ لائق معروضًا في تابوت من السرو مكشوفًا وكان الله قد حفظه من كلّ فساد وينضح رائحة لذيذة، وهكذا وضع في الـمُصلّى داخل الدير تحت مذبح العذراء وبقي مكرّمًا على هذه الحالة حتّى سنة 1595، حيث نقلوه إلى الكنيسة. وبعد سنوات احترق هذا التابوت بسبب شمعة مضاءة وقعت عليه ولكن جسم القدّيسة لم تمسّه النار بأي أذى فهيّأوا لها تابوتًا آخر أجمل وألْيق ولا يزال هذا الجسد سالـمًا حتّى يومنا هذا بلون أبيض لا فساد في أيّ جزء من أجزائه، والأعجب في هذا الجسم هو أنّه من حين إلى آخر يتحرّك بأنواع مختلفة. إنّ دعوى التطويب وتثبيت القداسة تبرهن عن هذا بإثباتات راهنة وشواهد مثبتة من 1626 إلى 1900. 
في سنة 1628، منح قداسة البابا "أوربانوس الثامن"، القديسة ريتا شرف لقب طوباويّة. وفي عام 1900، منحها قداسة البابا "لاون الثالث عشر لقب قدّيسة. وبعد أن فحصت العجائب فحصًا غاية في التدقيق، ونظّم لها قدّاس خاص وصلوات عديدة لإكرامها وتمّ تعيّن اليةم الثاني والعشرون من شهر أيّار في كلّ سنة عيدًا لها.
      انتشر إكرام القدّيسة ريتا في العالم كلّه ولا يزال المؤمنون يغتنمون معونتها خصوصًا في الأمور العسيرة المستحيلة. وشُيّدت على اسمها كنائس كثيرة في الغرب والشرق...



وكل عيد وريتا إبنة عساف صغبيني وزوجة مايكل فرنسيس بالف خير‏  عيدها في 22 ايار


ولادة القدّيسة ريتا

وُلدت القديسة ريتا في روكابورينا (إيطاليا) سنة 1381، لوالدين فاضلين تقيّين هما: "أنطونيو منشيني" و"أماتا فاري".

توفّيت في كاسيا في 22 أيّار سنة 1457.

في عام 1628، أعلنها قداسة "البابا أوربان الثامن" طوباويّة

وفي عام 1900، أعلنها قداسة البابا "لاون الثالث عشر" قدّيسة.

وُلدت القدّيسة ريتا في "روكابورينا" من مقاطعة "أومبريا" في إيطاليا والدها تقيّان فاضلان، تسامت فيهما قداسة الأخلاق السخيّة وحرارة التقوى والمحبّة الكريمة ومضى زمن طويل على زواجهما وطعنا في أيّامهما دون أن يرزقا ولدًا... وفيما كانت "اماتا" يومًا غارقة في تأمّلها رأت ملاكًا أكّد لها وصول صلاتها إلى عرش الله وسوف يرزقها ابنة تكون عظيمة أمام الربّ. وظهر لها الملاك ثانية وطلب منها أن تدعو الابنة "مرغريتا" فاختصرت باسم "ريتا".

أبصرت ريتا النور في 22 أيار 1381 وقبلت سرّ العماد في النهار ذاته. ولم تمضِ أيّام قلائل على عمادها، حتّى أخذ والداها يحملانها في قفّة من الغزار، وينقلانها معهما إلى الحقل ويضعانها في ظلّ الأشجار. وفي ذات يوم انحدر خشرم نحل كبير وأحاط بها، وكانت نحلات كثيرة تدخل فمها وتقطّر فيه العسل دون أن تنخرها أبدًا كأنّه لم يكن لها إبر وأشواك. ولم تُصعد الطفلة صراخًا بل كانت تصدر أصوات التهليل. وفي تلك البرهة جرح أحد الحصّادين يده اليمنى جرحًا بليغًا بمنجله. فأسرع يطلب طبيبًا. وإذ مرّ بجانب الطفلة ورأى جماعة النحل تدندن حول رأسها، توقّف وحاول أن يطردها بيديه حتّى يخلّص الطفلة، وللحال انقطع نزيف الدم من يده واندمل جرحه. فصاح مندهشًا وأسرع إليه والدا الطفلة وعاينا ما كان. واعتبرا أنّ النحل الأبيض هذا كان أعجوبة سماويّة منحها الله لإيمانهما وصلواتهما، فقد جدّا في تربيتها على مبادئ الديانة فانطبعت في نفسها كما في قرص الشمع. وما كادت تبلغ سن التمييز حتّى بانت عليها أشعّة الفضيلة. وقد امتازت بخضوعها وطاعتها السريعة وبعاطفة حشمة رقيقة وبعطش لا يروى إلى معرفة الله وسيّدنا يسوع المسيح. وما كان يطبع في مخيّلتها منذ نعومة أظافرها صارت تحاول أن تعرفه وتحبّه. وقد درجت على معرفة الأشياء الإلهيّة حسب إمكانيّات عمرها.

سمعت ريتا ما حدث للقدّيس فرنسيس الأسيزي الذي عاش في تلك الأرض التي تعيش هي فيها، وتمنّت لو صلبت مع يسوع أو على الأقلّ لو شاطرته أوجاعه...

زواجها

بينما كانت ريتا لا تفتكر إلاّ بالله وبأبويها الشيخين اللذين ما كانا يفهمان أسرار نفسها البتول، وكانا يفتكران بزواجها. وكانت في الثانية عشرة من عمرها. ومن جهة أخرى لم تتعوّد أن تخالف أمر أبويها الشيخين ولو بأصغر الأشياء.

عندما فاتحها أبواها بالزواج. لم ترفض طلبهما لأنّها تعوّدت إطاعتهما طاعة عمياء ولم تكن تريد أن تحزنهما فتزوجت "بول فرديناندوس" طالب يد ريتا، لم يكن شابًّا دمث الأخلاق أو محبّ السلام بل كان قاسيًا اشترك أحيانًا بالمبارزة. إذن كان بإمكانه أن يسبّب شرًّا جسيمًا إذا لم ترضى ريتا وأهلها بهذا الزواج...

لكنّه تعالى مقابل هذا العذاب منحها نعمًا أخرى خاصّة نعمة اهتداء زوجها وخلاص نفسه وقد حذت بذلك حذو القدّيسة "مونيكا" والدة القدّيس "أغسطينوس"، فاقتدت بمثالها لكي يجعلها مثل الصبر البطولي عند دخولها بيت زوجها الجديد. ولا بدّ أنّها صلّت كثيرًا لاهتداء زوجها وتحمّلت بصبر جميل وسكوت حدّة طبعه وإهاناته وشراسة أخلاقه واعتنت بتدبير وأناقة بيتها ليرى فيه زوجها كلّ ما يرضيه...

كان لزوج ريتا أعداءٌ كثيرون بسبب ميوله للمقاتلة. وعندما كان يهان كان يترقّب فرص الانتقام وإذا لم يتمكّن من شفاء غليله كانت صاعقة غضبه تنقضّ على زوجته المسكينة بالتجاديف والكلام الفظّ والضرب القاسي، وقد كادت يومًا ان لا تفلت من الموت لو لم تدبّر العناية الإلهيّة ويحضر أبواها قبل حلول الكارثة. ومع كلّ هذا كانت كالحمل الوديع تتحمّل بصبر ودون أن تفتح فاهًا إلى أن أتى اليوم الذي انتصر فيه الحمل على الذئب وأعادت نفس زوجها إلى الله.

أولادها

من هذا الزواج رزقها الله ولدين فقبلتهما ككنـز ثمين يجب أن تحافظ عليه بكلّ اعتناء. فكانت تنظر فيهما النفس قبل الجسد ولا ريب أنّها كرّستهما لله وصلّت لأجلهما كثيرًا وخوفًا من أن يرث طفلاها ميول والدهما كانت تزيد في الأصوام والتقشّفات وتعمل على زرع بذور الفضائل في قلبيهما. وبينما كانت ريتا تعتني بتربية طفليها مات أبواها الفاضلان. حزنت ولا شكّ ولكنّها ضاعفت مساعدتهما بصلواتها الحارّة. وهكذا تتميم واجباتها كابنة وزوجة وأمّ، كانت ريتا تزداد استحقاقًا للسماء. والذي كان يعزّيها على فقد أبويها هو أنّها لم تكدّرهما في الحياة ثمّ لأنّ حياتهما الطويلة كانت حياة مسيحيّة فاضلة.

منذ أن رجع زوجها إلى الله وأصبح يعيش عيشة عائليّة مسيحيّة وأصبحت عائلة ريتا كاملة السعادة لكن الورود لا تنمو ولا تتفتّح إلاّ بين أشواك عديدة فقدّيستنا التي تمرّنت على الاقتداء بالمسيح المصلوب لم يطل الوقت عليها حتّى طعنت برمح الألم الحادّ فإذ كان زوجها راجعًا ذات مساء من "كاسيا" هاجمه أعداؤه السابقون وقتلوه دون عناء فانفطر قلب ريتا لدى سماعها هذا الخبر المفجع وكان يهولها مفعول هذه الفاجعة على قلب ولديها، فحثّتهما ليصفحا عن قاتليه كما غفرت هي لهم من كلّ قلبها واهتمّت بدفن زوجها دفنة مسيحيّة وشرعت تضاعف الصلوات والإماتات لراحة نفسه.

بعد هدوء انفعالها الأوّل على فقد زوجها حصرت اهتمامها بتربية ولديها اللذين كان لمثلها الطيّب وأقوالها الصالحة التأثير الكبير على قلبيهما لكن قوّة الشرّ تخنق أحيانًا قوّة الخير فكانا يسمعان غير كلام الأم ويشاهدان غير أمثالها وقد دفعهما البعض إلى الأخذ بثأر أبيهما فأصبحا يخالفان إرادتها ولا يصغيان إلى كلامها كما من ذي قبل وأنّ غريزة الدم سوف تقودهما يومًا إلى الشرّ. وبما أنّها كانت تفضّل خلاصهما الأبديّ على حياتهما الزمنيّة اتّخذت جانب البطولة وطلبت من يسوع المصلوب أن يأخذ ولديها بريئين من أن ينقادا يومًا إلى الشرّ. فندما على خطيئتهما وتصالحا مع الله ومات الشابان الواحد تلو الآخر بعد سنة واحدة من موت أبيهما.

دخولها الرهبانية

انقطعت الرباطات التي كانت تعلّقها في الأرض فبقيت وحدها في العالم متّحدة بربّها، وحينئذٍ ودّعت ريتا هذا العالم متّكلة على معونة الله وذهبت تقرع باب راهبات القدّيسة مريم المجدلية الأوغوسطينيّات وبيّنت رغبتها الحارّة في الدخول في رهبنتهنّ فرُفض طلبها، فعادت دون أن تيأس من رحمة الله بل داومت صلواتها وإماتاتها، وذهبت مرّتين من جديد تقرع باب الدير المذكور وفي المرّتين لم تنل قبولاً فاستسلمت لإرادة الله القدّوسة ووكّلت أمرها إلى القدّيسين شفعائها وكانت قد ناهزت الأربعين، ورغم وجودها في العالم كانت تحيا حياة رهبانيّة محضة ممارسة بأمانة المشورات الإنجيليّة. وإذ رأى الله خضوعها التامّ لإرادته القدّوسة وثقتها الكبيرة برحمته الأزليّة تحنّن عليها. وبينما كانت في إحدى الليالي غارقة في التأمّل سمعت صوتًا يردّد: ريتا، ريتا!

فاقتربت من النافذة لترى من يناديها وماذا يريد منها لكنّها لم تشاهد أحدًا. ففكّرت أنّها خدعت وعادت حالاً إلى التأمّل. لكن لم يمضِ وقت قليل حتّى عاد الصوت ينادي: ريتا، ريتا! فنهضت وفتحت الباب وسارت في الشارع فرأت شيخًا مع شخصين آخرين فعرفت بإلهام إلهيّ أنّهم شفعاؤها القدّيسون: يوحنّا المعمدان، أغوسطينوس ونقولا. فطلبوا منها أن تتبعهم فتبعتهم متحفّظة كأنّها في حلم وبقليل من الوقت وصلوا إلى كنيسة دير القدّيسة مريم المجدليّة ورغم أنّ الأبواب كانت مغلقة ومقفلة والراهبات غارقات في نومهنّ فقد أدخلها الدير القدّيسون الذين أرسلهم الله ليرافقوها، وتواروا.

لـمّا نزلت الراهبات صباحًا إلى تلاوة الفرض دهشن لوجود هذه المرأة القدّيسة التي كانت طردت مرّات عديدة من بينهنّ وكيف تمكّنت من الدخول إلى الدير ليلاً والأبواب مقفلة فأخبرتهنّ ريتا ببساطة أعجوبة السماء وهنّ خضعن لصحّة قولها وقبِلنها في الرهبنة بين المبتدئات. ولم يطل الأمر حتّى زهت فضائلها وتألّق بدر كمالها الرهبانيّ. وقد كانت المواهب الخاصّة التي أنعم الله عليها بها والفضائل الجليلة التي زيّنها بها هدفًا لسوء الفهم وللإهانات والآلام التي تكمّل النفوس. ولأنّ قدّيستنا كانت قد تهذّبت في مدرسة المصلوب فقد قاومت أشدّ الصعوبات وتمرّنت على الفضائل الصعبة ومارست بنوع عجيب التواضع والصبر الجميل وخنقت حبّ الذات فيها وتعاطت أحقر الأشغال في الدير وأتعبها. وتجلّت بالمحبّة التي بواسطتها كانت كلاًّ للكلّ لتخفّف بقدر إمكانها تعاسات القريب الماديّة والجسديّة والأدبيّة. وهكذا كانت هذه النفس الجميلة تتقدّم في الفضيلة وتتهيأ لقبول أجزل النِّعَم الإلهيّة.

إنّ الشيطان يجرّب النفوس حبيبة الله وقد نصب شراكه لقدّيستنا وسوّل لها إنّ الحياة الرهبانيّة ليست لمثلها فالأفضل أن ترجع إلى العالم.

لكن هذه المرأة القويّة كانت تجيبه أنّها تكرّست لله مدى الأبديّة وستبقى أمينة في عهودها مهما كلّفها الأمر. جرّبها ضدّ الطهارة فأسرعت إلى المجلدة وأجبرته على أن يهرب مخجولاً وكانت تجلد جسدها ثلاث مرّات في النهار وكانت دائمًا تلبس مسحًا من الشَعر وثيابًا فيها أشواك تمزّق جسدها.

قصدت الرئيسة أن تمتحن طاعتها فأمرتها أن تسقي عودًا يابسًا كلّ صبح ومساءً، وكان غصن كرمة معدًّا للنار. فامتثلت لأمر الرئيسة وجعلت تسقيه صبحًا ومساءً ببساطة مدهشة وظلّت على هذه الحالة سنة كاملة والراهبات ينظرن إليها مبتسمات وقد يكون ذلك تخشّعًا أو تهكّمًا.

وفي أحد الأيّام نظرت الراهبات باندهاش وحيرة عندما رأين الحياة تدبّ في العود اليابس الذي نما كرمة عجيبة أعطت في حينها عناقيد يانعة لذيذة ولا تزال إلى الآن في بستان دير كاسيا شاهدًا على طاعة الأخت ريتا. فيبارك الكهنة أوراقها وعيدانها المطحونة ويستعملها المؤمنون مع الصلاة إكرامًا للقدّيسة فينالون نعمًا كبيرة وخصوصًا شفاءات عجيبة.

إنّ ريتا كانت منذ نعومة أظفارها تشعر بميل قوى إلى آلام المخلّص بل كانت الآلام دائمًا موضوع تأملاتها. وكاسيا ليست بعيدة عن "أسيز". وكانت ريتا تعلم أنّ القدّيس فرنسيس الأسيزي قد قَبِل في جسمه سمات يسوع المصلوب ورُسمت جراحات يسوع في يديه ورجليه وجنبه وهكذا شاركه في آلامه الفدائيّة. فأصبحت هي أيضًا تحبّ أن تختم بصليب المخلّص لكنها لم تعتبر ذاتها أهلاً لهذه النعمة الفريدة فاكتفت أن تتأمّلها تأمّلاً كان يفقدها الشعور وكانت الراهبات يحسبن أنّها ماتت. وإذ كانت مرّة جاثية أمام صورة المصلوب توسّلت بحرارة إلى المعلّم الإلهيّ لكي يُشركها في أوجاعه وللحال انتـزعت شوكة من إكليل المصلوب وأتت وانغرست عميقًا في جبينها وأذاقتها ألمًا شديدًا حتّى أغمي عليها وكادت تموت. تحوّل جرح ريتا إلى قائح منتن، ولكي لا تزعج الراهبات برائحتها الكريهة التزمت أن تنـزوي في غرفة بعيدة حيث كانت راهبة تأتيها بالطعام الضروري. وحملت القديسة ريتا هذا الجرح الشديد الألم مدّة خمس عشرة سنة ولم تشعر بخفّة الوجع حتّى في نومها، فقاست كلّ ذلك ليس بصبر فقط بل بالشكر الجزيل للذي أهّلها لأن تشاركه في آلامه الفدائيّة.

وبعد أن نذرت ريتا نذورها الاحتفاليّة شاهدت وهي غارقة في التأمّل، سلمًا يصعد من الأرض إلى السماء وفي أعلاه سيّدنا يسوع المسيح وهو يدعوها لتصعد السلّم بكرامة. وهكذا أصعد الله عبدته الأمينة على درجات السلّم السرّي. فحاولت بتواضعها أن تخفي مواهب السماء لكن لم يطل الزمن حتّى فاح عرف قداستها في الدير وفي كاسيا وانتشرت أخبار وساطتها لدى الله ومقدرتها على قلبه تعالى فأسرع إليها القاصي والداني وكانت بصلواتها تنال عجائب الاهتداءات والشفاءات العجيبة. وكانت تعزيتها الكبرى لـمّا سمحت لها الرئيسة بالذهاب إلى روما لزيارات يوبيل السنة المقدّسة عام 1450، ولتزيد نفسها تطهيرًا وتنال البركة البابويّة وخصوصًا لتكرّم ذخائر آلام المسيح الحنون. وقد طلبت من يسوع بإيمان أن يخفي جرح جبينها إلى أن تعود من روما دون أن يزيل ألمه عنها. فاختفى الجرح وبقي الوجع. ولـمّا عادت إلى كاسيا سمح يسوع بأن ينفتح جرح جبينها من جديد. على أنّ ثقل السنين وكثرة الأوجاع والتقشّفات انهكت قوى المرأة القدّيسة وأرغمتها على أن تسمّر على سريرها الفقير القاسي ولم تعد معدتها قادرة على احتمال الطعام حتّى القليل منه فأصبح قوتها الوحيد القربانة المقدّسة.

وفاتها

استمرّت القديسة ريتا على هذه الحالة طيلة أربع سنوات قاست في أثنائها آلاما لا توصف. وقبل وفاتها بثلاثة أيّام ظهر لها يسوع تصحبه أمّه القدّيسة العذراء مريم، وقال لها أنّها بعد ثلاثة أيّام تكون معه في السماء. فطلبت وقبلت الزاد الأخير والمسحة المقدّسة، وفي 22 أيّار سنة 1457 فاضت روحها الزكية الجميلة وتركت هذا العالم المغرور وحلّقت نحو السماء.

وما كادت القدّيسة تلفظ نفسها الأخير حتّى مجدها الله بكثير من العجائب. وقد قرعت الملائكة جرس الدير فأسرعت الراهبات إلى غرفتها وهنّ يفكّرن برائحة الجرح المنتن الكريهة لكن ما كان أشدّ اندهاشهنّ لـمّا اقتربن من الجثّة الهامدة فوجدن الجرح مندملاً تفوح منه رائحة زكيّة ووجه ريتا جميلاً يطفح فرحاً وابتسامًا وقد تقدّمت إحدى الراهبات المشلولة اليد لتعانق القدّيسة وما أن عانقتها حتّى شعرت بشفاء يدها الكامل.

نقل جثمانها الطاهر إلى كنيسة المعبد حيث عرض أيّامًا عديدة نزولاً عند طلب الجماهير التي تألّبت للتبرّك منه. وشعّ نور برّاق في غرفتها وانتشرت في أرجاء الدير رائحة عطر سماويّ وتحوّل جرح جبينها إلى ياقوتة وهّاجة كالألماس ونظرًا للحشد الكبير الذي تجمّع في يوم دفنها التزمت الراهبات بنقل جسدها إلى الكنيسة الخارجيّة بحفلة انتصار اشتركت فيها السلطات الدينيّة والمدنيّة.

ونظرًا لكثرة العجائب التي أفاضها الله على طالبي شفاعتها نادى بها الشعب قدّيسة قبل أن تثبّت الكنيسة قداستها. ولـمّا تكاثرت الخوارق التي جرت بعد موتها قرّرت السلطة الكنسيّة والمدنيّة معًا وضع جثمانها في محلّ لائق معروضًا في تابوت من السرو مكشوفًا وكان الله قد حفظه من كلّ فساد وينضح رائحة لذيذة، وهكذا وضع في الـمُصلّى داخل الدير تحت مذبح العذراء وبقي مكرّمًا على هذه الحالة حتّى سنة 1595، حيث نقلوه إلى الكنيسة. وبعد سنوات احترق هذا التابوت بسبب شمعة مضاءة وقعت عليه ولكن جسم القدّيسة لم تمسّه النار بأي أذى فهيّأوا لها تابوتًا آخر أجمل وألْيق ولا يزال هذا الجسد سالـمًا حتّى يومنا هذا بلون أبيض لا فساد في أيّ جزء من أجزائه، والأعجب في هذا الجسم هو أنّه من حين إلى آخر يتحرّك بأنواع مختلفة. إنّ دعوى التطويب وتثبيت القداسة تبرهن عن هذا بإثباتات راهنة وشواهد مثبتة من 1626 إلى 1900.

في سنة 1628، منح قداسة البابا "أوربانوس الثامن"، القديسة ريتا شرف لقب طوباويّة. وفي عام 1900، منحها قداسة البابا "لاون الثالث عشر لقب قدّيسة. وبعد أن فحصت العجائب فحصًا غاية في التدقيق، ونظّم لها قدّاس خاص وصلوات عديدة لإكرامها وتمّ تعيّن اليةم الثاني والعشرون من شهر أيّار في كلّ سنة عيدًا لها.

انتشر إكرام القدّيسة ريتا في العالم كلّه ولا يزال المؤمنون يغتنمون معونتها خصوصًا في الأمور العسيرة المستحيلة. وشُيّدت على اسمها كنائس كثيرة في الغرب والشرق...


ليست هناك تعليقات: