2012/06/01

رؤساء الجمهورية اللبنانية 2 المارونية التوافقية الأب جورج صغبيني






المارونية التوافقية

مع بداية القرن الرابع الميلادي نشأت المارونية على قمّة جبال قورش في ظلّ الإمبراطورية الرومانية الوثنية التي أصبحت مسيحية مع الإمبراطور قسطنطين، والذي أعطى المسيحيين حريتهم الدينية عام 313 بإعلانه بيان ميلان، مقابل استمالتهم إليه ضدّ أعدائه وكانوا السند الرئيسي في إنتصاراته وتثبيت إمبراطوريته.
تحصن الموارنة في مثلث استراتيجي بين جبل اللكام والعاصي والقدس على طول إمتداد الشاطئ الفينيقي جاعلين حدودهم الطبيعية بين منابع نهري العاصي والليطاني مع امتداد مجراهما حتى مصبّهما كقاعدة تنظيمهم الاجتماعي والضامن لأمنهم وكرامتهم وحريتهم الدينية رغم ما دفعوه من ضريبة الدم والإضطهاد طيلة قرون متعاقبة...
وقد دفعتهم كثرة الخبرة التي اكتسبوها في زمن وجيز من نشأتهم، إلى عقد تحالفات مع القادمين الجدد مع بداية التوسع الإسلامي في سوريا وفلسطين وفي سهل البقاع وعلى الساحل اللبناني، محتفظين ببعض من الحرية في بيئتهم الجبلية. وبدأ الموارنة في إرساء أسس توافقية لبناء وطن تعددي يضمن الحريات للجميع، وكانت الكنيسة إلام والمعلمة، الحاضنة والموجهة لكل هذه الانجازات الأساسية المهمة. [1]
فالنظام الذي انتهجه الموارنة لحماية مجتمعهم كان وليد نضال الكنيسة المارونية التي يرأسها البطريرك يوحنا مارون والشعب الذي عرف بالمردة كمقاومة عسكرية  حتى لا يخضعا لنظام الذميّة من جهة ولا لنظام بيزنطية المستبد من جهة ثانية، فعاش الموارنة إيمانهم ومعتقداتهم بحرية بعيدا عن سياسة الأمبراطورية البيزنطية المنحسرة وبعيدا عن الأمبراطورية الإسلامية الناشئة.
ومع مرور الزمن وانطلاقا من القرن العاشر عقد الموارنة التحالفات الداخلية مع الطوائف المنشقّة عن سيطرة المركزية الإسلامية والتي كانت بدورها بحاجة لمثل هذه التحالفات لحماية مجتمعها ومعتقدها من الإضطهاد المركزي الإسلامي لهذه الفرق الدينية في ذلك الزمن. مما كرّس مبدأ الدولة التعددية ليتمكنوا من حماية وممارسة عقيدتهم وحريتهم مع سائر الأقليات المتعايشة معهم في مجتمعهم الضيّق في جبل لبنان.
إن هذه المهمة التاريخية التي كرّس لها الموارنة ذواتهم يوم تأمنت قاعدتهم الجغرافية، برهنت على جدواها وثباتها حتى يومنا على مستوى لبنان الوطن النهائي لأبنائه. وهذا ما تثبته، على نحو لا يخطئ، قراءة متأنية لتوزّع الجماعات الطائفية، حيث المسيحي عامة والماروني خاصة يخالطان الطوائف الإسلامية ويشاركانها، دونما حذر،العيش المشترك في بلدة واحدة. رغم ما تعرّضوا له من الإضطهاد والظلم أحيانا بسبب تداخلات خارجية غالبا.
فالماروني يحمل في ذاته كل عوامل التقارب والنزوع نحو الآخرين. ولا ريب في أن الماروني فتّش عبر تحالفاته عن مصالح مشتركة. وهذا أمر طبيعي بالنسبة إلى الجماعات البشرية في المعادلات السياسية خاصة الضامنة لها البقاء.
لقد تحولت الجماعة الرهبانية في  قورش إلى كنيسة أصبحت أمّة ومجتمعا تحقّق في لبنان، منذ مار يوحنا مارون أول بطريرك ماروني المؤسس للأمّة  المارونية المنتشرة من جبل اللكام إلى حدود القدس مع جيوش الجراجمة والمردة الموارنة، منفتحة بذلك على مشروع وطن يتحرك ضمن دائرتها وملازما لها.
ومرورا بالبطاركة الموارنة الذين رعوا الأمة المارونية في لبنان وطنها البديل عن الوطن الأصيل في أنطاكية الذي فقدته بسسبب ظلم الحكام وجور السلطان والزمان.
وعام 1099 كان عام الحملات الصليبية ـ والأسباب عديدة وأكثر من أن تحصى ـ لاستعادة واقع البلاد على ما كانت عليه قبل الحروب الهلالية. ولم يطل الزمن حتى كان القرن الثالث عشر حين قام المماليك في مصر بحملات لإخراج الصليبيين من مملكتهم اللاتينية في الشرق وبدأوا بالاستيلاء على القدس وبيروت وأصبح لبنان منذ عام 1280 تحت حكم المماليك فلحق الظلم بالمسيحيين كما بالموحدين الدروز والشيعة وبكل جبل لبنان دون تمييز.
وعام 1516، هزم العثمانيون المماليك، وخضع أمراء لبنان للحكم العثماني الجديد، ودام حكمهم ما يناهز الـ 400 سنة.
في هذه الفترة توالى الحكم المعني والشهابي على لبنان مع بعض من الإستقلالية عن السلطنة العثمانية لفترات متقطّعة من الهدوء الذي لم يخلُ من التدخل المباشر من الولاة العثمانيين لتبديل حكام لبنان بحسب توافق مصالحهم حتى قيام نظام الدولتين القائمقاميتين الدرزية والمسيحية ومن بعدهما نظام دولة المتصرفة المسيحية.
وبسعي من البطريرك الحويك الذي حمل قضية لبنان الكبير إلى المحافل الدولية بعد الحرب العالمية الأولى. وإصراره على منع اجتزاء لبنان وتصغيره، أكد انه يفضل التعايش مع المجموعات الطوائفية  على أن يكون منعزلا في وطن مسيحي، كان حينها سهل التحقيق في ظلّ انحسار الخلافة الإسلامية أمام لجنة أطباء الدول المتقاسمة تركة الرجل التركي المدنف في غرفة العناية الفائقة للدول المستعمرة للشرق.
إن ذاكرة الماروني قصيرة وواهنة. ويقبل في بلواه نسيان الظلم الذي لحق به، ليعيد ثقته بنفسه ويواصل مسيرته في بيئة يسعى دوما للإنصهار بها وعدم الذوبان فيها. 
في ضوء هذه المعطيات من خلال هذه المقدمة المختصرة نفهم كيف أن تطور الدولة اللبنانية هو حصيلة نمو المصير الماروني الذي يشكل الخميرة التي لا بديل عنها لأية صيغة تآلف أو تسوية تاريخية في أي وطن من أوطان العالم فكيف إذا كان فريدا من نوعه مثل لبنان.
إن تهجير واضطهاد أو عزل الموارنة خاصة والمسيحيين عموما وجعلهم ذمّيين، هو انهيار لبنان كمجتمع توافقي إذ تفقد بالتالي الأقليات المتواجدة فيه إلى جانب الموارنة وجودها. وان تقلص الوجود الماروني الجغرافي والسياسي هو انعدام قيام الدولة اللبنانية ليصير لبنان وطن الحزب الواحد أو الدين الواحد أو وطنا بديلا لشعب آخر نُزع منه وطنه.
فالمارونية التي محور الحركة السياسة اللبنانية لا تزال هي نفسها المحرك الأساسي لها.
فالموارنة الذين لم يتخلوا عن لبنان الـ10452 كلم2  منذ نشأته عام 1920 وطنا لجميع أبنائه من كافة طوائفهم ومشاربهم. فهل يقبلون في ضعفهم وعجزهم بـ" غيتو ماروني" يضمن بقاءهم وهذا ما لم يقبلوه من قبل في عروضات الدول الكبرى في السابق وإلا كانوا الآن ينعمون في دولة لبنان الصغير المسيحي كما سواهم في دولهم الطائفية الصغيرة بدلا من دولة لبنان دولة كل الطوائف والمعتقدات الدينية والأحزاب والتيارات الفكرية.
فرغم كل الاختلافات وكل إشكال النفور والتباعد، وانطلاقا من مسؤوليات الماروني تجاه وطنه وتجاه محيطه العربي والإسلامي، سوف يعمل جاهدا وفي كل لحظة على حساب امتيازاته وحتى التنازل عنها، من أجل إعادة بناء لبنان العيش المشترك والثقة المتبادلة، "لأن مسيحيي الشرق الأوسط ومسلميه،... مدعوون إلى أن يبنوا معا مستقبل وطن أكثر إنسانية وأخلاقية في محيط عربي مشرقي. وإن الحوار والتعاون بين مسيحيي لبنان ومسلميه يمكن أن يساعد على تحقيق المسعى نفسه، في بلدان أخرى". [2]
هذه الجماعة المارونية التي تمركزت، بعد الصراعات التي أعقبت وجودها وعبر تاريخها هي ذاتها اليوم، حاملة ذهنية لاهوت خلقيدونية التي جسّدتها الكنيسة فيهم ممّا سهّل عليهم علاقة الإنسان بالإنسان إلى حد جعلهم يتعاطون مع الغير متجاوزين كل الاختلافات المذهبية والدينية وحتى اللغوية، ليبنوا علاقاتهم الاجتماعية على مستوى التفاعل والتبادل اللذين حقّقا مشروع لبنان الوطن الحاضن جميع أبنائه.
وإلا فيكون هذا الكتاب لا لإستمرارية البحث في تسلسلية رؤساء الجمهورية اللبنانية في لبنان بل يخبر عن حدث في الماضي الغابر، ممّا يحدو بالموارنة خاصة والمسيحيين عامة لأن يفتشوا عن وطن بديل ثالث بعد أنطاكية وثان بعد لبنان لكي لا تتوقف سلسلة بطاركتهم ولا يصير تسلسل رؤساء جمهورية دولتهم من أحداث الماضي الغابر...




[1] -  جريدة النهار  24 كانون الثاني 2003. 
[2] - الإرشاد الرسولي، رجاء جديد للبنان.‏

ليست هناك تعليقات: