2012/06/19

الأمير الصغير الأب جورج صغبيني



الأمير الصغير  [1]


ذات زمن أحب “الأمير الصغير” زهرة فرعاها وحماها. وفي المقابل، أشعرته الزهرة بالرضا والراحة، ولم يكن يتمنى أكثر من هذا الواقع.
سافر “الأمير الصغير” بين البلدان الكواكب مكتشفاً عوالم جديدة وشخصيات فريدة.
تعرّف على الملك الذي يبحث عن السلطة،
وعلى رجل الأعمال الذي يبحث عن المال،
وعلى عالم الجغرافيا الذي يبحث عن ترسيم الحدود،
وعلى مضيء الشموع في الهيكل الذي يتقن الحركات الروتينية...
جميع هؤلاء يتحركون متناسين وجود الآخر في تنوعه واختلافه، في لونه وسحنته، في لغته ومذهبه...
 تستمد شخصية “الأمير الصغير” خصوصيتها من حياة كاتبها ذاته، المتميّزة بالإهتمام بالشأن الإنساني والساعي إلى الغوص في التأمل باحثاً عن معنى سرّ الوجود.
بَرَعَ أنطوان منذ صغره بالرسم، ولم يكن يفصل بين الرسم والكتابة. ولكن الناس بحاجة لمن يشرح لهم أحيانا لا بل غالباً. حتى نجح سانت إكزوبري الأديب لأن ينشر مؤلفه فأبدع في خطّ الرسوم والكلمات معا. بعد أن منع منذ صغره ممارسة هذا الفنّ بسبب غباء وجهل البشر من حوله في معرفة ما كان يرسم.
فالكاتب أنطوان دو سانت اكزوبيري الذي سافر حول العالم، على قارات ومدن زارها الطيار في رحلاته ومنها الجزائر، والدار البيضاء، ونيويورك، وباريس... وهبوطه الاضطراري في الصحراء الليبية...

“كان ذات مرة... أمير صغير” قصّة تصلح لأن تكون قصّة الأولاد يخبرونها للجدات بدلا من قصص الغول وعنترة وأبي زيد الهلالي... في ليالي الشتاء والصقيع. فالأمير الصغير يصلح لأن يكون قصة جميع المواسم والفصول... ويحلّ الأنترنت مكان الجدّة والحكواتي ليردد لك القصة من دون ملل ولا نعاس.

كتاب “الأمير الصغير” أنجزه كاتبه عام 1942 في مدينة نيويورك أثناء الحرب العالمية الثانية، وفي وقت اختار سانت إكزوبيري المنفى الإرادي بسبب وقوع بلاده تحت الاحتلال الألماني. ونشره للمرة الأولى عام 1943 في الولايات المتحدة الأميركية قبل أن ينشره في فرنسا كتحية لصاحبه بعد وفاته، بل لصاحبته " زهرة الأمير الصغير" وكان ذلك في شهر نيسان/أبريل من عام 1946.
والجدير بالإشارة إليه هو إنّ الكتاب احتلّ منذ طبعته الأولى في نيويورك، المرتبة الأولى في قائمة المبيعات، وبيع منه لاحقا أكثر من ثمانين مليون نسخة في العالم وترجم إلى أكثر من 160 لغة.[2]

سقطت طائرة "الأمير الصغير"، وكان في رحلة استطلاع في جنوب فرنسا، في ظروف لا تزال غامضة يعتبرها البعض محاولة اغتيال ناجحة... أو يعتبرها البعض الآخر انتحارا.
فقد أمير أنطوان دو سانت اكزوبيري سبيل العودة إلى وطنه بعد أن سقطت طائرته التي كان يتنقل بها ما بين القارات الكواكب، وأصبحت الحياة والوطن بالنسبة إليه سراباً. اللامكان واللازمن في صحراء البشر المليئة بالنجوم البعيدة عن أحلام الأمير والتي لم يبقَ يعنيه منها، في صحراء الحياة هذه، إلا  زهرته.

الأمير والزهرة


بعد أن قطع الأمير الصغير شوطاً طويلاً عبر الرمال والصخور والبحار والثلوج، اكتشف في نهاية المطاف طريقاً، وجميع الطرق تؤدي إلى الناس.
فتوجّه الأمير الصغير بالتحية إلى حديقة مزهرة بالورود وجدها في نهاية الطرق.
- أهلاً، أجابت الوردة.
ونظر الأمير الصغير إليها. جميعها تشبه كثيراً وردته، ولذلك فقد سألهنّ باستغراب:
- مَنْ أنتنّ؟
- نحن ورود.
-آه... وتنهّد الأمير الصغير بحسرة.
لقد شعر بتعاسة بالغة... حدثته وردته بأنها الوحيدة من نوعها في هذا الكون، وها هو يجد منها خمسة آلاف جميعها متشابهة وتشبه وردته، ومجتمعة في حديقة واحدة...
وساءل نفسه: "ستصاب بخيبة أمل وردتي إذا رأت هذه الورود... ستنتابها نوبة سعال شديد، وستتصنّع الموت كي تهرب من الخزي والسخرية. وسأكون مجبراً على أن أمارس علاجي في مداواتها، وإلا سأشعر أنا أيضاً بالأسى، لأنها سوف تدع نفسها تموت حقاً..."
ثم حدّث نفسه أيضاً: "لقد ظننت نفسي غنياً بامتلاكي وردة وحيدة، ولكن في الحقيقة، لا أملك إلا وردة عادية... وهي لن تجعل مني أميراً عظيماً..."
وسقط الأمير الصغير على العشب وهو يجهش بالبكاء.


الأمير والثعلب


وفي تلك الأثناء ظهر الثعلب (والثعلب محتال) وبادرَ الأميرَ الصغيرَ بالتحية.
- مرحباً.
- أهلاً... أجاب الأمير الصغير بأدب، وهو يدير رأسه باحثاً عن مصدر الصوت...
- أنا هنا، تحت شجرة التفاح... أجابه الصوت. (وشجرة التفاح سبب الخطيئة والموت)
- من أنت؟ أنت جميل للغاية!... ( وهذا من آداب لياقة التعارف)
- أنا ثعلب
- تعال إلعب معي، أنا حزين جداً... (أنا وحيد وحزين على زهرتي)
- لا أستطيع أن ألعب معك، أنا لم آلَفْكَ بعد. (الثعالب التي تغدر بطبعها تبقى حذرة أيضا من أن يُغدر بها)
- أه... عفوا...
وبعد تفكير قصير، سأل الأمير الصغير:
- ماذا يعني "آلـَفَ"؟
وتجاهل الثعلب سؤال الأمير الصغير وهو يقول له:
- أنت لست من هنا، عما تبحث؟
- إني أبحث عن الرجال... (وقد فَقَدَتْ فرنسا الرجال) ماذا يعني "آلَفَ"؟..
- الرجال!... إن لهم بنادق يصطادون بها، وهذا مزعجٌ كثيراً... إنهم يخطفون أيضاً الدجاج... وهو عملهم الوحيد... هل تبحث عن الدجاج؟ (كلٌّ يبحث عن مصالحه)
- كلا... إني أبحث عن أصدقاء، ماذا يعني "آلَفَ"؟ 
- لقد أصبح هذا الأمر منسياً (في فرنسا وربما في كلّ العالم). إنه يعني "خلق روابط".
- خلق روابط؟
 بالتأكيد، إنك لا تعني بالنسبة لي حتى الآن إلا طفلاً صغيراً يشبه مائة ألف من الأطفال الصغار. ولست بحاجة إليك، كما أنك لست بحاجة إلي أيضاً. لست بالنسبة إليك إلا ثعلباً، يُشبه مائة ألف من الثعالب. ولكن إذا ما آلفتني فسيحتاج واحدُنا إلى الآخر. ستصبح بالنسبة إليَّ الأوحد في العالم، وسأصبح بالنسبة إليك الأوحد في العالم...
- لقد بدأت أستوعب ما تقول. هناك وردة... أعتقد أنها آلفتني!...
- هذا ممكن... إننا نرى على الأرض الكثير من الأشياء...
- آه! ليس على الأرض...
وظهرت على الثعلب سيماء الاستغراب:
- على كوكب آخر؟
- نعم.
- هل يوجد صيّادون على ذلك الكوكب؟
- لا.
- هذا ممتع! وهل يوجد دجاج؟!
- لا.
- لا يوجد شيءٌ كامل أبداً (قال الثعلب مبدياً أسفه) لكنّه عاد إلى فكرته الأولى:
- إن حياتي مملـّة. إني اصطاد الدجاج، والرجال يصطادونني. جميع الدجاج متشابه، وجميع الرجال متشابهون. ولذلك فإني أشعر بالملل قليلاً.
ولكن إذا ما آلفتني، ستصبح حياتي سعيدة... وسأميّز صوت خطواتك من بين كل الخطوات.
إن الخطوات الأحرى تجعلني أعود لأختبئ في جُحْرٍ تحت الأرض. وإن خطواتك ستصبح بالنسبة لي كالموسيقى.
أترى هناك حقل القمح؟.. إني لا آكل الخبز، والقمح بالنسبة لي عديم الفائدة. إن حقول القمح لا تذكرني بشيءٍ مطلقاً، وهذا أمر محزن!... ولكن لديك شعرٌ أشقر ذهبي، وسيكون ذلك رائعاً عندما آلَفَكَ! فالقمح المذهَّب سيجعلني أتذكرك، وسأحب صوت الريح في القمح...
- من فضلك آلفني...
- يجب التحلي بالصبر. عليك أولاً أن تجلس بعيداً عني قليلاً... هكذا في العشب... وسأنظر إليك من طرف عيني وأنت صامت... وفي كل يوم يمكنك الجلوس والاقتراب شيئاً فشيئاً مني...
وهكذا فقد آلَفَ الأمير الصغير الثعلب، ولما اقتربت ساعة الرحيل قال الثعلب:
- آه... أنا أبكي.
- إنها غلطتك، لم أودّ أن تصاب بسوء، ولكن أنت من أراد أن آلَفَهُ.
- بالتأكيد.
- وبهذا لن تستفيد شيئاً!...
- إني أستفيد، بسبب لون القمح... اذهب وشاهد الورود. ستفهم أن وردتك هي الوحيدة في العالم. حينئذٍ سترجع إليّ لتودّعني وسأحضر لك هدية متمثّلة في سر كبير...

وحمل الأمير الصغير نفسه وذهب ليرى الورود:
- أنتنَّ لا تشبهن أبداً وردتي، أنتنَّ لم تصبحن شيئاً بعد... لم يألفكنَّ أحد بعد، ولم تألفنَ أحداً. أنتنَّ بالنسبة لي، كما كان الثعلب: ثعلباً يشبه مائة ألف من الثعالب الأخرى. ولكني اتخذت منه صديقاً، وهو الآن الأوحد في العالم.
واعترى الورود الارتباك والإنزعاج. وتابع الأمير الصغير حديثه إليهنّ: أنتنَّ جميلات لكن بدون منفعة. إننا لا نضحي بالحياة من أجلكن... إن أي عابر سبيل يظن أن وردتي تشبهكنَّ بالتأكيد. ولكنها الوحيدة والأكثر أهمية منكنَّ جميعاً بالنسبة لي... لأنها هي من أسقيها وأرويها... وهي وحدها من أضعها تحت القبة وأحميها بحاجز واقٍ من الهواء.. ولذلك من أجلها أقتل ديدان الفراشات... لأنها هي من أُنصت لشكواها أو تبجُّحها أو دموعها في بعض الأحيان... ذلك لأنها وردتي. (رسالة من الأمير إلى حبيبته الزهرة على أنها غير جميع النساء)

وقفل الأمير الصغير عائداً إلى الثعلب ليقول له:
-وداعاً...
- وداعاً. إليك السرّ الذي وعدتك به، إنه بسيط جداً إننا لا نرى جيداً إلا بالقلب، فالجوهر لا تراه العين.
- "الجوهر لا تراه العين". أعاد الأمير الصغير الجملة لترسخ في ذاكرته.
- إن الوقت الذي كرّسته لوردتك هو ما يجعلها هامة جداً.
- "إن الوقت الذي كرّسته لوردتي..." كرر الأمير الصغير... واستطرد الثعلب:
- إن الرجال قد نسوا هذه الحقيقة، وعليك ألا تنساها. ستصبح مسؤولاً إلى الأبد عمّا تأتلفه... أنت مسؤولٌ عن وردتك... (حبّك للوردة ليس ذكرى بل إلتزام ومسؤولية ولو كنتَ في إنشغال بعيدا عنها)
- أنا مسؤول عن وردتي...
وبقي الأمير الصغير فترة من الزمن يردّد ذلك السرّ الكبير الذي باح له به الثعلب لكي يجعله ثابتاً في ذهنه إلى الأبد. (والثعلب أدرى من الجميع في شؤون البشر كما في اصطياد الدجاج).


يتبع













[1] - كتاب “الأمير الصغير” للأديب الفرنسي أنطوان دو سانت اكزوبيري (1900 – 1944)
[2] - صدر لأنطوان دو سانت اكزوبيري عدّة كتب منها: “أرض البشر” عام 1938 و“بريد الجنوب” و”الطيران الليلي” و”الطيار الحربي”. ولكن كتاب “الأمير الصغير” فاق بإنتشاره على جميع مؤلفاته.  أما كتابه “الأمير الصغير” فنقله إلى اللغة العربية الشاعر اللبناني يوسف غصوب.

ليست هناك تعليقات: