2012/05/28

كتاب رُؤَسَاء الرهبانيَّة اللبنانيَّة المارونيَّة الأب جورج صغبيني


الأب جورج صغبيني


رُؤَسَاء
الرهبانيَّة اللبنانيَّة المارونيَّة
1695- 2005







إهداء

إلى أبائنا الذين أنجبونا بالروح،
الذين بهم فخرنا،
الذين رحلوا ولا تزال ذكراهم عابقة في آثارهم.
هؤلاء الذين كانوا كالورد بين الشوك،
وكنور هدي في الظلمة،
وكمنارة على شاطئ الصحاري.
هم الرعاة الذين يجتمع من حولهم  القطيع.
هؤلاء الذين جعلوا من كل دير قرية،
ومن مجمّع أديارهم وطنا.
حافظوا على وديعة الإيمان،
كما على شعبهم،
فرهنوا كل غال ونفيس من أجل حياته.
وتبعوه إلى مهاجره.
مثل شعبهم،
لاقوا الإضطهاد والتهجير والجوع والموت حتى الشهادة.
بهم كرامتنا،
وبهم إستمرارية وجودنا وبقائنا في هذا الوطن،
وبهم إستمراية رسالتنا في محيطنا في هذا الشرق،
وبهم إستمراية انتشارنا في أصقاع العالم.
هم أعطوا لبكركي مجد لبنان.
وهم أعطوا للبنان هذه القيمة في أن يكون وطن رسالة وقيم.

                                         الأب جورج صغبيني


تمهيد

اختار مارون أب الطائفة المارونية حياة التوحد في البرية فانتحى قمة جبل كان الوثنيون سابقا، يحيطونه بالتكريم، فكرس لله الموضع الذي كانت الشياطين تمتلكه من هذا الجبل، وعاش هناك، حيث ابتنى لنفسه كوخا صغيرا، مع انه لم يكن يأوي إليه إلا نادرا.
 لم يكتف مارون بأعمال العبادة المعتادة، بل ابتكر لنفسه ممارسات تقوية أخرى، وأخذ يجمع كنوز الحكمة.
انعم عليه الله موهبة شفاء المرضى، بحيث أن صيت مارون ذاع في كل مكان، وغدا الناس يتوافدون إليه من كل حدب وصوب، مثبتين بالوقائع صدق المعجزات التي تجري على يديه..."
إنّ ما كتبه تيودوريطس، هو كل ما نعرفه عن حياة مار مارون، وإن كلامه هذا هو المرجع الوحيد الذي استند إليه المؤرخون". وإليه كتب يوحنا الذهبي الفم رسالة يطلب فيها منه الصلاة وهو في منفاه.
إلى هذا القديس العظيم تنتسب الطائفة المارونية وإليه ينتسب الرهبان اللبنانيون الموارنة.
إنّ مار مارون لم يؤسس طائفة جديدة أو مذهبا جديدا، ولكن الرهبان النسّاك الذين التفوا من حوله شكـّّـلوا جماعة عرفت بتلامذة مار مارون.
يقول البطريرك إسطفان الدويهي: إن قوما تبعوا مارون الراهب فعرفوا بالموارنة. ومثله قال أيضا توما مطران كفرطاب الذي توفي في أوائل القرن الثاني عشر، بنسبة المارونية الى دير ماران ( أي دير مارون).
ورد في كتاب "الهدى" الماروني، سنة 1345 أن: "المارونية هي المنسوبة الى دير ماران". بينما جاء في نسخة الكتاب نفسه، والتي حققها الأب بطرس فهد، ان الموارنة إنما ينتسبون الى البطريرك يوحنا مارون.
وقيل: إن الموارنة استمدوا اسمهم من "مرون"، المدينة التي بقرب أنطاكية، أو من مارون القديس ورئيس الدير. وهو رأي وافق عليه، بحسب الدويهي، كل من جبرايل الصهيوني ومرهج ابن نمرون وغيرهما.
أمّا جبرائيل ابن القلاعي المتوفى سنة 1516 فيقول: إن الموارنة استمدوا كنيتهم من البار مارون، بطريرك أنطاكية.


ويعرض البطريرك الدويهي، في كتابه "اصل الموارنة"، آراء العلماء في اصل الموارنة، ثم يذكر اسماء القرى والمدن والأشخاص الذين عرفوا باسم مارون، حتى يقول: "إن الموارنة اشتقوا من مارون آخر غير الذين تقدم ذكرهم". ويبدأ فصلاً جديداً عن حياة مارون الناسك، لكنه يعود في الفصل السابع فيقول: "... على اسم الدير تسمّت المارونية".
فالمارونية أصلا هي، طائفة شرقية سريانية، من شمال سوريا حيث ولدت ونمت وكبرت وامتد أتباعها إلى قبرص والعراق وفلسطين والأردن وبلاد الإغتراب وتمركزت خاصة في لبنان.
وفي خلال مسيرتها تعرضت المارونية لأزمتين أثّرتا على جغرافيتها وديموغرافيتها وإن لم تؤثرا على إيمانها وعقيدتها:
أولا: المذبحة التي أصابت الموارنة من إخوة لهم في الدين وأعداء في العقيدة أدّت إلى استشهاد ثلاثماية وخمين راهبا والآلاف من مؤيديهم ومناصريهم في عقيدتهم الخلقيدونية...
ثانيا: الفتوحات الهلالية الإسلامية التي جعلت المسيحية في الشرق تنحسر نحو القسطنطينية وبعدها نحو أوروبا، وجعلت الموارنة  ينحسرون من سوريا نحو لبنان.
في جبال لبنان وبعيدا عن أعين الإمبراطورية البيزنطية، نشأت المارونية. ممّا أدّى بها إلى بناء قوة محلية قادرة على القيام بدور المدافع عن بقائها في محاولة استقلالية يرعاه من جهة البطريرك يوحنا مارون مؤسس الأمّة المارونية في لبنان. ومن جهة ثانية قوة عسكرية لمواجهة جيوش الدولة الإسلامية في الوقت نفسه بقيادة إبراهيم (بريهيم)- إبن أخت يوحنا مارون- الذي صار فيما بعد بطريركا.
ومع بدء صراع التوسّع على حساب الموارنة والامبراطورية البيزنطية من قبل  الدولة الإسلامية، كان على الموارنة أن ينسحبوا إلى جبال لبنان للحفاظ على إيمانهم ومعتقدهم. تخلى الموارنة عن وطنهم الأم أنطاكية كساحة للمعارك بين الجيشين: البيزنطي عدوّهم في العقيدة، والإسلامي عدوّهم في الدين، اللذين توافقا في فترة من الزمن للقضاء على الوجود الماروني.



لقد عاش الموارنة في حالة خوف دائمة، من سيف بيزنطية التي تريد استغلال الموارنة لتجعلهم درعا في وجه الفتوحات الهلالية. ومن سيف الإسلام الذي تسلّط عليهم تحت شعار إمّا الإسلام وإمّا الذميّة.
كان كلّ من الفريقين يحاول استمالة الموارنة إلى جانبه من خلال معاهدات لم يكن ليأمن لها الموارنة وقد صدق ما خافوا منه إذ كليهما طعنا المارونية في خاصرتيها.
نمت المارونية في بيئة قشفة فقيرة واكتفت ببساطة العيش قانعة بسلطة الاكليروس الروحية والزمنية..
فالماروني يعيش في بقعة أرض ضيقة تشمل الجبل والأودية يطلّ منها على البحر، وكان البحر منفذه الوحيد للإنطلاق نحو بلاد الغرب، بعيدا عن أعين الرقباء.
كما وعرف الموارنة أنهم أقلية تريد الحفاظ على بقائها في حصن الجبل اللبناني وأوديته.
يقول الأب ميشال حايك في معرض كلامه عن الموارنة: "انهم غلاة في كل شيء، هكذا هو مناخ الجبل بتناقضات فصوله يعكس على أخلاقهم أضداده العنيفة... فهم اكثر الناس تقدمية إذا أمنوا، واشدهم رجعية إذا فزعوا".
ويقول الأب بطرس ضو: "الموارنة نسمة طاهرة تتحول بسرعة الى عاصفة...".
وهذا هو واقع الطوائف والأقليات  الخائفة على مصيرها وبقائها فلا يستقر الأمر أو يستتبّ الأمن  لها  إلا في حدود طبيعية تحتمي فيها من ظلم  جور الحكام وتفرّد الجماعات الأقوى المتفرّدة بالحكم.

                                           المؤلف

ليست هناك تعليقات: