2012/05/26

كتاب شُـهَـداءُ الرهبانيَّة اللبنانيَّة المارونية الأب جورج صغبيني



الأب جورج صغبيني


شُـهَـداءُ الرهبانيَّة اللبنانيَّة المارونية
لبــنان 1996





إهداء
إلى تلامذة مار مارون، الثلاثمئة والخمسون، شهداء إيمان المجمع الخلقيدوني.
إلى البطاركة والأساقفة والكهنة الموارنة، الرعاة الصالحين الذين بذلوا ذواتهم عن القطيع الموكل إليهم.
إلى ألرهبان، منذ نشأة الرهبانية اللبنانية المارونية، وحتى اليوم الذين سفكوا الدِّماء من أجل البقاء رهبانيّةً وشعباً وأرضاً.
إلى قافلة الموارنة الشهداء الذين نالهم مثل ما نال بطاركتهم ورهبانهم من الإضطـّهاد والتعذيب والقتل والبلص والتهجير فتاهوا في المغاور والبراري مطلوبين من عدالة هذا الدهر.
إلى الشهداء الموارنة منذ عام 451 وحتى يومنا هذا الذين لم تـُعرف أسماؤهم وقد ماتوا ميتات متنوّعة... ذبحا وخنقا واغتيالا وغرقا وغدرا ورجما وتعذيبا لأنّهم لم يُنكروا إيمانهم.
إلى الشهيد الماروني المجهول الذي لم يصنع له نصب أو تمثال ولم يذكره كتاب...
إلى هؤلاء جميعا أقدِّم كتابي،
ليبقى ذكرهم مؤبداً .
                                                       ألأب جورج صغبيني 



    

تمهيد
من كتب التاريخ، ومن تحت الردم وغبار الأيّام، ومن أفواه شهود الحال، ومن صدى صراخ الوجع والرغبة بالحياة، ومن صمت المقابر التي تبعثرت منها عظام الموتى، ومن الرياح الأربع قبل يوم البعث والنشور والقيامة، نـُلملم في هذا الكتاب بعضاً من ذكرى شهداء ماتوا لنبقى .
هؤلاء الشهداء الذين استُبيحت أعناقهم للجزارين وأحلـّت دماؤهم كما  المقدسات  فصارت  قبورهم  محجّة.
أن يستشهد بطريرك أو أسقف أو كاهن أو راهب أو مسيحي من أجل إيمانه ومن أجل وطنه ومن أجل أبنائه، قطيعه الموُكل إليه رعايته، هي نعمة خاصة لا يحصل عليها إلاّ من أُعطوا أن يشربوا هذه الكأس.
أن ينذر إنسان حياته وإرادته وأفكاره وأعماله ودماءه من أجل الذّود عن عقيدته وأرضه وحياض كرامته، هو نقدٌ نادر لا يمكن لكلّ إنسان التداول به، في زمن الإستسلام والذلّ واستبدال القيم بالمصالح الخاصّة.
لقد أنعم الله على المارونيّة عامّة وعلى الرهبانيّة خاصّة أن تقدِّم الفدية من أبنائها وأن يكونوا أبداً الحَمَل لا الجزّار والمصلوب لا الصالب، هوعمل فداء قدر التلميذ فيه أن يكون مثل معلِّمه.
هؤلاء الشهداء الموارنة أقلّ ما يقال فيهم وعنهم أنّهم أبطال قديّسون رووا في حياتهم الأرض بعرق جبينهم وروّضوا الصخر جلالا وملأوا الوديان بخورا  وأنغام صلاة وانحنوا على الأرض فأعطتهم الكفاف فغسلوا حللهم بدمائهم وبها جبلوا تربة الوطن.
هؤلاء الموارنة القلّة القليلة الباقية التي لم تركع لبعال ولم تخنع لظالم، ما دورها في هذا الوطن؟ في هذا الشرق؟ في هذا العالم؟
أليست المارونية ملجأ المظلومين والمضطَّهَدين كما كان مارون أباها من على قمة قورش يصغي إلى طالبي شفاعته فيصلي لأجلهم ويشفيهم من كل مرض في الفكر والروح والجسد ويتأمل بكلمات الشكوى التي بثّه لواعجها الذهبيّ الفم من منفاه والتي لا يطلب فيها من أب الطائفة المارونية أن يجيّش العساكر لتحريره بل طالبا منه ذكره في صلاته.
أليست سياسة الرهبان زرع القيم إلى جانب زرع الأرض التي يسكنون ويقيمون فيها وتحويلها جنائن غنّاء والذّود عنها وعن أبنائهم الذين يشاركونهم فيها خيراتها. حتى شاع أن كل أرض غريبة عنهم هي لهم وكل أرض يقيمون فيها هم كالغرباء فيها لأنهم ينتظرون مملكة السماء.
إن وجه المسيح يظهر لا في وجع الصليب بل في إشراق القيامة.
ونحن بدورنا نتقبّل صروف الزمن بإيمان، للتكفير عن إساءاتنا إلى الله وإلى الآخرين والتسبب بإساءة الآخرين إلينا. فمن يعلم ما قصد الله من ذلك!
إن حركة التاريخ التي سبقتنا وتستمرّ من خلالنا وتتواصل بعدنا في الزمن، تجعلنا نتصفـّح أيامنا الخوالي لنستقرئ المستقبل رغم غور الجروح البالغة في أجسادنا لنمضي قدما في مبادئ القيم وسلوكية الأجداد الذين لم يتوقف التاريخ معهم ولا وهنوا مما أصابهم لأن رجاءهم أن وراء العاصفة هدوء وخلف الظلمة يطل فجر جديد. وإن الذين يتكلون على الله لا يخيبون.
هؤلاء الرهبان!
الثائرون على روتينيّة الحياة
الثائرون على كلّ حكم ظالم
الثائرون على احتلال تراب الوطن كما على احتلال نفوس البشر
الثائرون بالبناء على الهدم
الثائرون بآلات الحراثة والحصاد والعمران على السيوف والبنادق والمدافع  والدمار
الثائرون بالكلمة والقرطاس والقلم على الجهل والغباء والأميّة.
وقد قال فيهم أحد مشايخ الدروز: "هؤلاء السود ما رأيناهم دخلوا مكانا وخرجوا منه".[1]
هؤلاء الرهبان، هم أُسُّ لاهوت التحرير من عبوديّة طغيان الطاغوت وأتباعه، قد علّموا أبناءهم أن الخضوع لغير الله مذلّة. حتى أضحى الراهب مثالاً وقدوةً وعباءته رايةً وعَلَماً.
إن كان بعض المفترين على البطاركة والأساقفة ورجالات الدين عامّة وعلى الرهبان خاصّة يسهبون بمقولاتهم المشحونة قذفاً وإهانةً وثلباً، محرَّكين من الشيطان عدوّ الخير. وإن كانت هذه الافتراءات لا تضير بقادة القطيع الماروني، إنما تسيء بتشويش أفكار بعض أفراد الطائفة البسطاء القلب وذوي الضمائر السليمة، فينقادون للأهواء والأميال عن جهل حاصل.
فإن الرهبانيّة آخذة رغم معارضة أعدائها لها في التقدّم والنجاح، وبرهانها العجائب الظاهرة من مدافن قديسيها مثل القديس شربل والقديسة رفقا والقديس نعمة الله الحرديني والأب مبارك حليحل قديس بسكنتا والأب سبيريدون الريفوني والأب أتناسيوس الصغبيني قديس تنورين والأب دانيال الحدثي قديس قرطبا وكثيرين سواهم، وهذا ظاهر للعيان ولا سبيل لإنكاره حتّى من غير المؤمنين.
فضلا عن الظاهرات العجائبية ألتي أثمرت الحركات التقوية في كلّ بلدة وحيّ ومنزل دون أن ننسى أسماء القدّيسين والقدّيسات التي تعرف بأسمائهم القرى والأحياء والشوارع.
ويضيق الوقت إن أخبرنا عن الذين ثبتوا في المحنة وتاهوا في البراري يلبسون جلود الماعز  وهم معلمو، إلى جانب الصلاة والفضيلة والتقى، مبادئ الدين والوطنية والأخلاق والقراءة والكتابة. هم معلمون أيضا في مجالات المهن والحرف على أنواعها، من صناعة وزراعة وإدارة للأملاك وفنّ العمران والبناء فأقيمت على يدهم من حول  كل دير قرية.
وقد كان الراهب والكاهن إن في الدير أو في الرعية قاضياً في الخلافات بين أبنائه فيحفظ حقّ المظلوم ويفتح باب التوبة أمام الظالم بدلا من أبواب المحاكم .
وكان الدير المصرف الشعبي يسلِّف شركاءه حاجاتهم بدون فائدة أو ربى إلى حين قطاف وجني المواسم ولا تزال هذه العادة متّبعة حتّى اليوم في معظم أديار الرهبانيّة في سياسة سابقة لوجود التعاونيات والنقابات ومصارف التسليف والقروض .
وكانت الرهبانية تفتح أبوابها في الأيام الصعاب والحروب والمجاعات لتوزِّع، ما ادَّخرته في أيام البركة والبحبوحة، على أبنائها وقارعي أبوابها. ولم تبخل ولم تعفَّ، حتى عن رهن أملاكها، من أجل إطعام أبنائها. حسبها أن يُساق رهبانها إلى السجون والتعذيب فدية عن بطاركتها وحتى الموت من أجل الحفاظ على الإيمان وحياة أبنائها. فكانت الرهبانية بالنسبة لشعبها ليس فقط الأم والمعلمة بل والشهيدة عن عقيدتها وعن إيمانها وعن لبنان وطن الرسالة والقيم الإنسانية.
                                    المؤلف


[1] - المكرم الأب نعمة الله كساب الحرديني، المطران يوسف محفوظ، كفيفان 1996، طبعة ثانية، ص47.

ليست هناك تعليقات: