2014/05/03

البابا القديس يوحنا بولس الثاني الأب جورج صغبيني

البابا القديس يوحنا بولس الثاني Ioannes Paulus II هو البابا الرابع والستين بعد المئتين(264) من 16 تشرين الاول 1978 الى 2 نيسان 2005.

وُلد كارول في 20 حزيران سنة 1920 في قرية نادونيس في بولونيا. والده يدعى كارول فويتيلا كان ضابطاً في الجيش البولوني. وأمه إميلي كانت معلمة مدرسة. كان اخوه ادوار في الخامسة عشرة من العمر، لما وُلد كارول، في بيت متواضع كان يرى من شبابيكه ساعة شمسية، تقسم الاوقات بحسب الظل الذي تتركه الشمس، وقد كُتب عليها عبارة: "يمرّ الزمان وتبقى الابدية".

دخل كارول المدرسة الابتدائية في القرية وبقي فيها مدة اربع سنوات. ماتت امه وهو في التاسعة من عمره، كما مات اخوه ادوار. فبقي هو وابوه وحيدين. كان أبوه محباً حنوناً واعياً لمسؤولياته نظامياً، ينظم حياته وحياة ابنه: قداس، مدرسة، وجبة طعام، ساعة حرة فالفرض المدرسي، حياتهما كانت قاسية فالاب يقبض معاش تقاعد بسيطاً مما ألزمه ان يعيش ببساطة وتقتير.

سنة 1931 انتقل كارول الى المدرسة الثانوية حيث يخبرنا عنه الاب زاشر الذي كان يعلّم هناك الدين، فيقول: "كان هذا الصبي اقرب ما يكون الى العبقري الذي اسعدني الحظ بتعليمه" ست سنوات. وقد اسس في المدرسة جمعية دينية، وكان يخدم القداس يومياً.

زار رئيس اساقفة كراكوفيا المدرسة، فألقى كارول فويتيلا امامه كلمة شكر، فكانت افضل مما وضعها له احد الاساتذة. تأثر رئيس الاساقفة به والتفت الى الاب زاشر، الذي كان جالساً الى جانبه، وقال له: "هل سيصبح هذا الفتى كاهناً؟" فهز الكاهن برأسه واجاب: "لا يظهر عليه ذلك حتى الآن" فقال الاسقف: "يا للخسارة فقد يكون كاهناً صالحاً".

انتقل الاب وابنه الى كراكوفيا، احدى اجمل مدن بولونيا، حيث جامعة الجاجيالونيان، التي تأسست سنة 1364 على يد الملك كازيمير الكبير الثالث (1310-1370) ودعاها باسم عائلته المالكة: جاجيلون Jagellons، وكانت ثاني اقدم جامعة في اوروبا الوسطى. دخلها كارول فويتيلا وراح يتابع دروسه مع رفاق له، حين كانت الحرب العالمية الثانية على الابواب، وهتلر يتهدد ويتوعد الى ان احتل بولونيا.

أما الجامعة فقد أقفلها الالمان وقتلوا جماعة من الاساتذة واسروا كثيرين... لكن الطلاب ومنهم كارول فويتيلا، فقد جعلوا الجامعة متنقلة وسرية، يعملون نهاراً ويتعلمون ليلاً، اما فويتيلا فراح يعمل سنة 1940 بتقطيع الحجارة في مقلع لحساب شركة سولفي الكيميائية خارج كراكوفيا ويدرس ويجاهد ولم يوهن عزمه موت والده في السنة الاولى للحرب. ورغم شعوره بالمرارة والاسى، بقي يجاهد اكثر فأكثر، حتى كان يوم وهو عائد الى بيته صدمه قطار وسبب له كسراً في الجمجمة، وراح يهذي، واذ به يسمع، وهو في هذيانه، صوتاً قوياً يقول له: كن كاهناً.

قاوم كارول فكرة الكهنوت، مع انها راودته سابقاً؛ واراد الانصراف الى فن التمثيل، ولكن شفاءه العجيب من كسر الجمجمة ومن فقدان الذاكرة جعل الاطباء يندهشون. وبعد حادث القطار دهسته شاحنة نقل، نجا من الموت بأعجوبة، واصبحت كتفاه غير متساويتين واحدة اعلى من الاخرى؛ وفي المستشفى عاودته فكرة الكهنوت، وعليه ان يقرر، وقد ساعده على ذلك قول صديقه يوحنا تيرانوسكي، الخياط المسن، الذي كان له تأثير قوي على حياة كارول.

التحق كارول فويتيلا سنة 1942 بقسم اللاهوت في جامعة جاجيا لونيان مع متابعته العمل في المقلع وبقي على هذا النمط، والاخطار تحدق به حتى سنة 1944، حيث اختفى عن العيون فجأة، وذلك لأن الألمان قد شددوا الحصار على البولونيين، وراحوا يطلقون النار على كل من يصادفونه في طريقهم، وترك اكثر الاساقفة بولونيا، ولكن كبير الاساقفة في بولونيا آدم سابياها لم يغادر البلاد، بل راح يعمل بغيرة رسولية على انقاذ الشبان من ايدي الالمان، ومنهم كارول فويتيلا... وقد قتل الالمان في تلك الاثناء، منذ احتلالهم بولونيا وحتى تحريرها على يد الروس سنة 1945، ستة ملايين وثلاثماية الف بولوني.

قال كاهن رعية نادونيس الشيخ: "غريبة هذه الحياة. لقد حاولوا مسح بولونيا عن وجه الارض، لكن هتلر مات، والنازيون تشتتوا وغابوا عن الوجود. اما بولونيا فلم تزل واعطت العالم بابا".

أنهى كارول فويتيلا دراسته اللاهوتية وسيم كاهناً في اول تشرين الثاني سنة 1946، وهو في السادسة والعشرين من عمره، واحتفل بقداسه الاول صباح اليوم التالي على مذبح القديس ليونارد في كاتدرائية وافيل.

كان للحكومة الشيوعية موقف معادٍ للكنيسة وارادت سنة 1945 ابطال مفعول المعاهدة الباباوية في بولونيا، كما فعلت في غيرها من البلدان، لكن سياسة الفاتيكان لم تسهل الامر.

ترك فويتيلا بولونيا وسار الى روما حيث دخل المعهد البلجيكي، وذهب ايضاً الى المعهد الملائكي يدرس الفلسفة واللاهوت الادبي ثم تقدّم الى الامتحان فنال احسن علامة بين أقرانه وقد اصبح يتكلم الايطالية بطلاقة.

وسنة 1947 سار الى فرنسا لتحسين لغته الفرنسية، وتفقد ابناء وطنه المشردين في انحاء فرنسا، فساعدهم قدر المستطاع واستفاد من ذلك خبرة في كيفية العمل في الرعايا، وانخرط مع الكهنة العمال، الذين كانوا يعملون في المعامل ليقدروا على جمع الشبان واللاأدريين، الذين ينكرون على العقل المعرفة.

عاد الاب فويتيلا الى بولونيا، في جو مشحون بالكفر والإلحاد وتأميم كل شيء، حيث منعت الصلوات وكل ما يمت الى الدين بصلة، فأرسله الاسقف الى قرية نياغوفتش حيث اشتهر بسخائه وكرمه، ثم في صيف 1949 قدّم اطروحته عن القديس يوحنا الصليبي ونال شهادة الملفنة (دكتوراه) باللاهوت، ثم نقله الكردينال سابياها الى رعية القديس فلوريان في كراكوفيا، فجاء الى رعيته الجديدة ولما سأله احد اهل القرية: اين امتعتك يا ابتِ؟ فأجابه: أمتعتي معي. ثم عرف اهل البلدة حقيقة كاهنهم، فراحوا يتحايلون عليه ليقبل منهم عطاياهم...

سنة 1958 سيم أسقفاً على كراكوفيا، وكان بعمر 38 سنة، فكان يزور الرعايا يشجعهم على تحمّل الاضطهادات التي كانوا يلقونها من الشيوعيين. ولم تبدل الاسقفية شيئاً من حياته، بل بقي يسكن شقة صغيرة مؤلفة من غرفتين، ودراجة هي وسيلته المفضلة في التنقل.

برزت شخصيته في المجمع الفاتيكاني الثاني سنة 1963، ثم اصبح كبير اساقفة كراكوفيا- بولونيا سنة 1964، وقد قاوم اثناء ذلك الاجهاض، الذي اصبح شرعياً في بولونيا منذ سنة 1957، ووسائل الحبل الاصطناعي.

أصبح فويتيلا كردينالاً في 26/5/1967، وفي 26 آب 1978 انتخب الكردينال البينو لوتشياني بابا باسم يوحنا بولس الاول، ثم بعد ثلاثة وثلاثين يوماً، انتقل الى راحة الابرار.

فعاد مجمع الكرادلة إلى الإنعقاد لينتخب، بعد ثماني دورات، كارول فويتيلا، بابا جديدا بتاريخ 16- 10- 1978، باسم يوحنا بولس الثاني.

لم يشأ البابا يوحنا ان يكون كأسلافه "سجين الفاتيكان" ولا اسير البروتوكول بل راح ينطلق في الآفاق، وقد برع في التعامل مع الحزب الشيوعي. ثم ذهب الى احد المستوصفات لزيارة صديقه القديم وزميله المريض المطران اندره، ثم راح يتحدث مع الجمهور، ونسي ان يمنحه البركة الرسولية، فلفت انتباهه الى ذلك اسقف كان يرافقه، فبارك الجمهور وقال: "ان البابا بحاجة ايضاً الى ان يتعلم مهنته". وكرر هذه الزيارة وهو يلبس غنبازه الاسود، يرافقه امين سره.

ومع ارادته عدم التدخل في السياسة، ورغبته في احلال السلام والعدالة الدولية، نراه يتحدث، عن السلام في لبنان وفلسطين والعراق... وعن حرية جميع الشعوب المغلوبة على امرها...

قال الدكتور رونالد كوغان: "انه رجل حار العاطفة، رجل حب، يسرع الى لقاء الانسان ولا ينتظر ان يأتي اليه الانسان، وهو الى ذلك رجل شجاعة وبأس...".

إنه بابا التسامح، ومنها تسامحه وعفوه عن التركي، الذي دفعه بعضهم، الى محاولة اغتياله، فعفا عنه وسامحه...

فهذا البابا قد أرجع، حسب قول الكثيرين، الكنيسة الى كاثوليكيتها...

وضع حياته البابوية تحت حماية السيدة العذراء مريم لكثرة تعلقه بها، تحت عنوان: "Totus tuus"،"كلّي لكِ". ولم تفارق يوما المسبحة يديه.

إنه رســـول الســـلام، وصديق الشباب، وجامع رؤساء الأديان في العالم.

في سنيه البابوية الـ 27، وجه ثلاث واربعين رسالة بابوية.

وفترة حبريته على السدة البطرسية تعتبر ثالث اطول ولاية حبرية في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية (وحقق هذا الرقم القياسي القديس بطرس الذي تولى ادارة الكنيسة بين 34 و37 عاما كما يقول المؤرخون، وتلاه البابا بيوس التاسع الذي امضى في منصبه 31 عاما وثمانية اشهر من 16 حزيران 1846 الى 7 شباط 1878).

قام هذا البابا "الرحالة" بـ 104 زيارات خارج الفاتيكان، وزار 129 بلدا وألقى 2382 خطابا.

وقام داخل ايطاليا بـ 146 زيارة رعوية.

وأقام في الفاتيكان 9 مجامع و6 اجتماعات لهيئة الكرادلة و15 سينودسا.

ورفع الى مصاف القديسين 483 طوباويا، والى مصاف الطوباويين 1338 مكرما. وعين 232 كردينالا.

زار لبنان في 10 و11 ايار 1997. وهو القائل:"لبنان اكثر من وطن، انه رسالة... كم أعيش في بالي تلك اللحظات السعيدة التي سيتاح لي فيها زيارة لبنان والتقاء جميع ابنائه. اني متشوق بالفعل الى الذهاب الى هناك لأعرب عن تكريمي لتلك الارض التي ارتوت بدماء العديد من الضحايا البريئة، ولأكرر ثقتي باللبنانيين وبقدرتهم على العيش معا، واعادة بناء لبنان على اجمل ما كان عليه... (7 ايلول 1989)

وقال متوجها للبنانيين: احثكم انتم جميعاً ايها اللبنانيون من كل المذاهب، على مواجهة هذا التحدي بنجاح، تحدي المصالحة والاخوّة، والحرية والتضامن الذي هو الشرط الاساسي لوجود لبنان، ورباط وحدتكم على هذه الارض التي تحبّون...

لبنان الذي تعذب كثيرا، آن له ان يرتاح من عذاباته...

إن لبنان في قلبي واللبنانيون شعب حيّ وقويّ، وسيتمكنون من التغلب على كل الصعاب...".

هذا البابا البطيء الحركة،

حرّك العالم من حوله،

لم يهدأ ولم يستقر،

لم يستطع معاونوه اللحاق به،

عاش قديسا وتوفي في 2 نيسان 2005 فأعلنه الشعب قديساً.

"سانتو سوبيتو" (ليعلن قديساً فوراً) هذا ما ردده الآلاف من جمهور المؤمنين الذين احتشدوا في ساحة القديس بطرس أثناء مراسم دفن البابا يوحنا بولس الثاني. والبعض أحضر معه يافطات تطالب بتطويب أمير الكنيسة الراحل قديساً على الفور.

من بين الأعاجيب الكثيرة التي اجترحها البابا يوحنا بولس الثاني تمّ اختيار شفاء ماري سيمون بيار، الراهبة الفرنسية ذات الخامسة والأربعين عاماً التي كانت تعاني منذ 2001 من مرض الباركنسون (الرعاش)، والتي تمّ شفاؤها منه بشكل مفاجئ. فعندما كانت تنقلها سيارة الإسعاف العائدة للرهبنة التي تنتمي إليها في محافظة إيكسون الفرنسية، كانت تحدث مرافقيها كيف كان البابا يوحنا بولس الثاني مثالاً دائماً لها وكيف نالت الشفاء التام بشكل غير متوقع بعد أن رفع أخواتها الراهبات طلبات الشفاء عند ضريح البابا الراحل. ولم يستطع الأطباء الذين استدعتهم اللجنة للاستشارة تقديم تفسير منطقي لشفائها، وتم تثبيت هذه الأعجوبة.

وها هو اليوم يُعلن قدّيسا في 27 نيسان 2014 مع البابا يوحنا الثالث والعشرين.

السلام معكم
 

 

ليست هناك تعليقات: